البريكس… من تكتّلٍ اقتصاديّ إلى مُستثمِرٍ دوليّ

لقد أعلنت دول البريكس سنة 2016 عن إنشاء بنكٍ استثماريّ للتنمية برأس مالٍ قدره 100 مليار دولار مقسَّمة بين الدول الأعضاء في مجموعة البريكس وهي : البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا. ويُمكن من خلال هذا البنك توظيف الأموال في مشروعات البُنى التحتيّة، ثّم تكوين احتياطات مُشترَكة من العملات الصعبة أو عملات الملاذ الآمن لمواجَهة التقلّبات المتأجِّجة في السوق الماليّة العالميّة. كما يهدف إلى وضع استراتيجيّة استثماريّة تمكّنه من شراء حصص في كبرى الشركات العالميّة، وكذلك تمويل المشروعات التكنولوجيّة المُربِحة، بخاصّة في دول الجنوب.

يأتي إنشاء هذه المؤسّسة المالية بعد إعلان موسكو لسنة 2015 الذي أكّدت فيه مجموعة البريكس أنّها تسعى إلى إعادة هَيْكَلَة نظام “بريتون وودز” المالي. فحسب الإعلان نفسه، صُمِّم هذا النّظام لحقبة زمنيّة معيّنة وفقاً لظرفيّة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والعالم الآن في حاجة إلى نظامٍ جديد يأخذ بعَين الاعتبار التغيّرات الاقتصادية الجذرية في عصر العَولمة.

وتُعتبَر هذه الخطوة تحوّلاً كبيراً في مسار البريكس الذي أُنشِئ في أربع دول سنة 2009 قبل انضمام جنوب أفريقيا إليه سنة 2011. فبنك التنمية المُستحدَث في مدينة شنغاي الصينيّة، يُشكِّل لبنة أساسية في كيان البريكس. وفي هذا الصدد، يَذكر تقريرٌ صادر عن وزارة الاقتصاد الروسيّة سنة 2016 أنّ البنك يعتمد على سياسةٍ استثمارية متطوّرة، تهدف إلى جعْل البنك صندوقاً سياديّاً للاستثمار في دول الجنوب وفي قطاعات واعِدة كالطاقات المتجدّدة، والأقطاب التكنولوجية، والبُنى التحتية كشبكات الطرق، والإصلاح الزراعي، وشبكات المياه والكهرباء.

وفي بيانٍ لوزارة الاقتصاد الصينيّة، تُظهِر الصيّن ترحيبها بقيام مقرّ البنك في أراضيها، وهي صاحبة أكبر حصّة في الرأسمال الذي يُقدَّر بنحو 41 مليار دولار، كما أعلنت استهدافها الدول الأفريقية وأميركا الجنوبية كشريحة مهمّة للاستثمار فيها. وفي ردّ على ذلك، أعلنت كلٌّ من الأرجنتين، وفنزويلا، ونيجيريا، وغانا، عن ترحيبهم بهذه المبادرة واستعدادهم للتعاون مع بنك التنمية.

على هذا النحو، فإن دول البريكس تسير نحو تغيير استراتيجيّتها القائمة على تكتّل وتبادل تجاري بين الدول الأعضاء عبر تكاملٍ اقتصادي، إلى مستثمر دولي ينوِّع شركاته ويهتمّ بالدول التي تجد صعوبات في التعامل مع المؤسّسات المالية العالمية. وبذلك، فإنّ بنك التنمية يسعى إلى اقتحام الأسواق الواعدة بالنموّ والاستثمار فيها بهدف تحقيق هوامش ربحية وحصص سوق كبيرة، الأمر الذي يزيد من النفوذ السياسي لهذه الدول، وبخاصّة تحالفاتها مع دول الجنوب، وبذلك، تصبح دول البريكس قوّة اقتصادية فاعِلة وذات تأثيرٍ سياسي قوي.

وممّا لا شكّ فيه، أنّ النفوذ السياسي لهذه المجموعة هو في توغّل مطّرد بقيادةٍ روسية وصينية، عائدة إلى تواجدهما الوازن في مجلس الأمن، وإلى مواقفهما القويّة في القضايا الدولية، فضلاً عن توفُّر ترسانة عسكرية كبيرة وحديثة في دول البريكس تجعلها في المراتب العليا في تصنيف جيوش العالَم. وتستحوذ هذه الدول عموماً على ربع مساحة العالَم، وعلى أكثر من 43% من السكّان، وتقود قاطرة التقدّم الاقتصادي بتحقيقها ما يقارب 25 % من الدخل القومي العالَمي، كما تستأثر بنصف الاحتياطي العالَمي من العملات الأجنبية والذهب. ناهيك بسيطرتها على ثلث التجارة العالمية، وجلْبها لنصف الاستثمارات الأجنبية المباشرة في كلّ أنحاء المعمورة، وعلى وجه الخصوص، الاقتصاد الصيني الذي يمثّل لوحده 10 % من الاقتصاد العالَمي، من خلال توجيه الأنشطة الصناعية نحو التصدير، وجلْب الاستثمارات الأجنبية لخلق فُرص عمل. فقد نجحت الصين في تحويل الفائض الاقتصادي إلى فاعلٍ تنموي من خلال رفع معدّل الادّخار المحلّي من 20 % إلى 30 %، والاستثمار إلى 35 % في ظرف زمنيّ قصير.

وعلى المنوال ذاته، تُصنَّف روسيا كسادس اقتصاد عالَمي يعتمد على الصناعات الثقيلة والطّاقة، بينما تحثّ البرازيل الخطى نحو اقتصادٍ صاعد وتنافُسي، يضع في نصب أعينه مسألة العدالة الاجتماعية، بحيث يَظهر هذا التّجاه بشكل جليّ في الإنجازات التنموية للبرازيل، والتي تمكَّنت من توسيع الطبقة المتوسّطة التي كانت لا تتعدّى 24 % سنة 2000 إلى 35 % سنة 2015. وتمثّل الهند أطروحة اقتصادية ناجحة، إذ استطاعت أن تخفض عدد فقرائها إلى النصف خلال عقدٍ واحد، وذلك عبر انفتاحٍ اقتصادي موجَّه نحو المُبادلات التجارية، وتطوير الاقتصاد المعرفي ببُنية تحتيّة تكنولوجية، مُعزَّزة بمراكز أبحاث ومختبرات علمية تعمل إلى جانب شركات ناشئة في إطار أقطاب وحدائق تكنولوجية وصناعية كبرى. وعلى نحو مُماثِل، نجد جنوب أفريقيا، التي تجاوزت صراعاتها الداخلية من حروب أهلية وتمييز عنصري، تتجّه نحو آفاق اقتصادية رحبة، جَعلتْها أوّل اقتصاد أفريقي، على الرّغم من امتلاك دول أفريقية أخرى ثروات نفطية كبرى، يشكِّل دخلها القومي 40% من مجموع دخل القارّة الأفريقية، وحقَّقت قفزات نَوعية في تطوير القطاعات المالية كالمصارف والخدمات السياحية.

على صعيد آخر، تُواجِه دُول البريكس تحدّيات عدّة، حيث يشير تقرير البنك الدولي حول الاقتصادات الناشئة لسنة 2015 إلى أنّ بعض دول البريكس تعاني من استفحال الفساد الإداري كما هو الحال في روسيا، الأمر الذي يعيق السياسات التنموية، ويحول دون تحقيق الأهداف البنيوية للدولة، وخصوصاً مع انتشار هذا الفساد في قطاعات رئيسة كالقضاء، والصحّة، والشرطة، فيما تعاني الصين من غياب العدالة الجغرافية في توزيع الثروات بين المجال الحضري والأرياف، ما يوسِّع الهوّة والفوارق الاجتماعية بين الطبقات. ولا تزال جلّ اقتصاديات البريكس مرتبطة بالاقتصاد الغربي بعامّة، والأميركي بخاصّة، من خلال حركة التدفّقات المالية والمُبادلات التجارية.

ولا بدّ أنّ إنشاء بنك التنمية الجديد سيشكِّل طفرة نوعية في توجّهات مجموعة البريكس، وسيُكرِّس سيطرتها الاقتصادية، التي من المحتمل أن تُسهم بنسبة 50 % في إجمالي النموّ الاقتصادي العالَمي بحلول سنة 2030 بحسب تقرير البنك الدولي نفسه.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى