الحرب والاقتصاد : رحلة في أسواق دمشق القديمة..

(( 1 ))

ما أن تنتهي الطريق الواصلة بين ساحة الحجاز في قلب مدينة دمشق والقلعة، وهو طريق يغص بالمارة، حتى تجد مدخل سوق الحميدية في مواجهتك، وتحار كيف تقطع الطريق لتدخل السوق، فكل الأرصفة مسورة بحواجز تجعل من الصعب مخالفة الطريق النظامي للدخول، والطريق النظامي يمر عبر نفق للمشاة يربط طرفي الطريق، فتهبط على درج عادي في النفق، وتصعد على درج كهربائي لتجد أنك أصبحت في مدخل السوق التاريخي الشهير ..

الكهرباء ليست مقطوعة، والحركة صاخبة مع ساعات الصباح الأولى، ويمكن للزائر أن يشاهد البيع والشراء بسهولة يمكن له أن يتابع حركة الناس في جو آمن تشرف عليه حواجز رشيقة من الأمن تفتش الحقائب بسهولة ويسر ..

عندما تدخل في سوق الحميدية، أنت في مواجهة مباشرة مع الخلطة السحرية للمجتمع السوري، فالمارة يكشفون لك عن مفارقات الحياة، فهذه ترتدي الحجاب الأسود وتلك ترتدي الجينز الأزرق وثالثة ترتدي العباءة ورابعة ترتدي ملابس الريف، والنسوة أهم مظاهر السوق عند الصباح.. يتحركن بحيوية وثقة بالنفس ويتحاشين أي ارتباك أمام دعوة البائعين لهن بالشراء عند أبواب المجلات التجارية، وفي مضمون الدعوة نوع من الغزل أحيانا ..

تصبح الرحلة في أسواق دمشق القديمة أجمل مع الدخول إلى خبايا الحميدية والانصات إلى أحاديث البيع والشراء والمفاصلة ومع التعرف على البضائع المختلفة سواء من جهة الحريقة أو في الطريق إلى عمق السوق!

كل المحلات التجارية على الصفين تجعلك تشعرك بالتمايز، فكل المحلات تبيع حاجيات النساء من ملابس وقطنيات واكسسوارات ، فأين يجد الرجال حاجياتهم؟ تسأل ، فيدلك أحد المارة على سوق فرعي:

ــ هنا تجد محلات الملابس الرجالية، وبعد ثلاثة مفارق تجد سوق الجوخ!!

تمر على الواجهات فتجد الجودة نفسها في البضائع، وتتعرف على الفرق الواضح بالأسعار بين أسعار طريق الصالحية وأسعار الحميدية ، أما في سوق الجوخ، فالمفارقة تبدو أكثر غرابة لأن الأسعار تختلف بين متجر وآخر، ومع ذلك تعجب بالصبر الذي يعاملك فيه التجار وهم يعرضون بضائعهم ويشرحون لك ميزات كل نوع وسعره..

تخرج من سوق الجوخ، وتعود إلى سوق الحميدية لتتابع سيرك نحو المسجد الأموي، لتجد أشهر محل للبوظة في دمشق يشرع أبوابه أمام عشرات الزبائن . لم تمنعه الأزمة وارتفاع أسعار الحليب والسكر من التوقف عن العمل. أصبح السعر 300 ليرة للصحن بعد أن كان 25 ليرة قبل الأزمة، وتغير زينة البوظة من الفستنق الحلبي إلى فستق العبيد..

قبل أن تصل إلى نهاية سوق الحميدية، تجد مدخل سوق العصرونية على اليسار، وهو سوق فرعي يتجه من داخل سوق الحميدية نحو القلعة، تتذكر الحريق الذي اندلع فيه قبل نحو شهرين والذي أتى على مساحة كبيرة منه، فينتابك نوع الفضول لتشاهد آثار الحريق..

تدخل إلى سوق العصرونية المحروق، فإذا بالحركة متواصلة والأدوات المنزلية مرتبة على الواجهات إضافة إلى بائعي الألعاب البلاستيكية التي سمعنا عن احتراق أغلبها، ومن الطبيعي أن يستفسر الزائر:

ــ صباح الخير .. أين وقع حريق العصرونية ؟!

فيأتيك الجواب سريعا:

ــ هنا وقع الحريق . حيث تقف ، وامتد إلى الداخل ..

تنظر حولك .. ثمة آثار واضحة للحريق على النوافذ العالية ..تلاحقها من جهة الشرق لتكتشف أن ثمة مساحة كبيرة التهمها الحريق، فانتشرت فيها ورشات الإصلاح .. تتسلل الشمس من بين الرافعات والورش وقضبان الحديد الجديدة، وكأن ثمة حياة تتشكل في سوق يتجاوز محنته بإصرار.. البناء الجديد لكل متجر يدعم بالقرميد والحديد والجسور ..

الحيوية ترسم أهم معالم المكان ..

الجميع مشغولون بإعادة البناء، وهناك ورشات كبيرة لإعادة بناء السوق تمتد إلى نحو مائة متجر على مساحة المكان الذي يعود فيوصلك إلى سوق المسكية ..

من العصرونية حيث الأمل بالعودة إلى الحياة، تذهب إلى المسكية فتوح روائح العطور من كل الأنواع تغسل روحك بعبق أخاذ قبل أن يواجهك الجامع الأموي ببوابته الكبيرة التي فتحت لتوها وتدفق الزائرون نحوها ..

تتلفت حولك ، فإذا الساحة الجميلة وبقايا الآثار فيها، تتزين بالحمام الأبيض الذي يتجمع حوله الزائرون بفضول ويقدمون له الطعام بسخاء ..

لابد أن تؤجل زيارة الجامع الأموي، لحين صلاة الظهر، فالمسجد يصبح أبهى مع حركة الصلاة فيه، وهي حركة تجعله يعج بالزائرين والمصلين معا..

تؤجل الدخول إليه، وتذهب إلى بابه الجنوبي ومنه إلى أحد أبواب دمشق التاريخية، أي باب جيرون، فتشاهد مقهى النوفرة وقد جلست عند بابه بعض الفتيات الجميلات يشربن الشاي مع النرجيلة، وبجوار الفتيات جلست مجموعة شباب يتحدثون بسعادة وبصوت عال عن لعبة البوكيمون غي، وكيف بدأت تنتشر في العالم..

فجأة : بوم .. بوم !!

قذيفتا هاون انفجرتا في مكان قريب .. يمر الانفجاران مرورا سريعا.. لا الوجوه تغيرات والأحاديث توقفت ولا التاريخ انكفأ عن تسجيل ملامح دمشق القديمة في عام 2016 في أعنف حرب تشن على السوريين !

(( يتبع بقية الرحلة )) ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى