ديبلوماسية الغاز الروسية.. تركيا نموذجاً

ما بين روسيا وغازها أكثر من مجرد رافعة اقتصادية، فثروات روسيا عموماً هي المحدد الأم لتموضعها الإستراتيجي، والأنابيب التي تنقل غازها هي بمثابة شرايين عملاقة تحرص روسيا دوماً أن تحيطها بعنايتها بسبب طبيعتها الحيوية والهشة على السواء.

الغاز كسلاح

تسليح الغاز هو صناعة روسية بامتياز، ولكنه يتفرّع بالأصل عن منطق تسليح الاقتصاد وهو ما لا تكف الدول عن توسلّه. مارست روسيا سابقاً ضغوطاً تتعلق بالغاز مع أوكرانيا، وكانت شركة الغاز الروسية شبه الرسمية «غازبروم» قد أوقفت إمداد أوكرانيا بالغاز في حزيران من العام 2014 إثر تصاعد النزاع بين الحكومة في كييف والمتمردين الموالين لموسكو في شرق أوكرانيا. وقبل شهر من الآن، أعلن أليكسي ميللر، رئيس شركة «غازبروم»، عن تعليق إمدادات الغاز الطبيعي الروسي إلى أوكرانيا مجدداً بسبب تخلفها عن الدفع، ومن المعروف أن الأخيرة كانت قد اتفقت مؤخراً مع «المفوضية الأوروبية» على تمويل حزمة الغاز الشتوية التي تستوردها من روسيا في الفترة الممتدة من تشرين الاول 2015 حتى آذار 2016. وبالتأكيد، كان ضمان تدفق الغاز الروسي عبر أوكرانيا إلى أوروبا هدفاً أساسياً للاتفاق، والذي بموجبه يجب على أوكرانيا أن تدفع مسبقاً ثمن الحزمة. أما فيما يخص السياسة الغازية مع تركيا، فإن التهديد بقطع إمدادات الغاز عن تركيا ليس بالأمر السهل لأن تركيا، وبعكس أوكرانيا، لا تتخلف عن دفع المستحقات المالية المترتبة لـ «غازبروم»، وبالتالي سيكون قطع إمدادات الغاز مخالفاً للاتفاقيات المبرمة وستكون له تداعيات قانونية.

في مقابلة مع قناة «روسيا اليوم»، جزم رئيس قسم أوراسيا في معهد «رابطة الدول المستقلة» فلاديمير يفسييف بأن «اتفاقية مونترو» المتعلقة بتنظيم المرور في المضائق الواقعة تحت السيادة التركية ستعمل. لا يراهن يفسييف بالضرورة على احترام تركيا تعهداتها الدولية ولكن على ورقة الغاز التي ستلعبها روسيا في حال إقدام تركيا على تهديد الملاحة الروسية من البحر الأسود إلى البحر المتوسط عبر بحر مرمرة من خلال مضيقي البوسفور والدردنيل على التوالي. لدى تقييم البدائل عن الغاز الروسي والذي تستورد منه تركيا حوالي 60 في المئة من احتياجاتها، تبرز أذربيجان وتركمانستان كمرشحتين محتملتين. وفي محاولة استكشاف مبكر لهذه البدائل، كان أردوغان قد زار تركمانستان سابقاً. لكن الخبراء يؤكدون أن توريدات الأخيرة من الغاز لا تكفي لتغطية الاحتياجات التركية، وهي لا تستطيع بمطلق الأحوال تنمية حجم إنتاجها سريعاً. ويتكرر السيناريو نفسه تقريباً في حالة أذربيجان والتي قد تستطيع الوصول إلى تنمية إنتاجها من الغاز إلى 16 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً بحلول العام 2018 في حين أن حاجة تركيا تتعدى الخمسين ملياراً. ويزيد الأمر سوءاً حقيقة أن الغاز التركمانستاني، والذي يشكل حوالي ثلاثة أضعاف الإنتاج الأذربيجاني، يمر عبر إيران، مما يشكل نقطة ضعف تركية إزاء إيران في حال اعتماد هذا الغاز. والبديل بالنسبة لخطوط التصدير التركمانستاني هو نقل الغاز عبر بحر قزوين إلى أذربيجان فجورجيا فتركيا وهذا أمر متعذر في المدى المنظور. بالخلاصة، تركيا ستحتاج إلى الغاز الروسي راهناً ولا بدائل جاهزة ولذلك سيتم احترام «اتفاقية مونترو». لكن ماذا عن قطر؟

البدائل المتاحة

خلال زيارة أردوغان الأخيرة إلى قطر، تم إبرام 15 اتفاقية غطت عدداً من الاهتمامات والمصالح المشتركة بين البلدين. لكن الزيارة بذاتها لا يمكن وضعها خارج أصداء قرقرة معدة تركيا الغازية المهددة بالمجاعة. تعهدت قطر بتلبية الاحتياجات التركية من الغاز في حال تخلفت روسيا عن إمداداتها، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة. لا يوجد في الأفق خط أنابيب لنقل الغاز بين قطر وتركيا. لا بأس أن نستحضر هنا الحماسة التركية – القطرية المشتركة للاستحواذ على القرار السوري، وتدخل أيضاً عوامل تقنية تتصل بالفروقات بين الغاز المسال المنتج والغاز الطبيعي المطلوب في تركيا بشكل ملح، وخصوصاً على أبواب فصل الشتاء. والنتيجة هي تقلص الكفاءة الاقتصادية للعملية برمتها. فضلاً عن ذلك، فإن قدرات قطر التصديرية من الغاز لا يمكنها التعويض عن الكمية التي تتلقاها تركيا من روسيا في ظل التزامات قطر التصديرية إلى بلدان أخرى. والعارفون بالغزل الغازي الذي ساد بين تركيا وروسيا في السنوات الماضية، يعلمون جيداً أن الأمر يتعدى بما لا يقاس الـ 50 مليار متر مكعب من الغاز الذي تستورده تركيا من روسيا. فالأخيرة التي تؤمن نسبة معتبرة من الغاز للسوق الأوروبية باشرت في البحث عن بديل لأوكرانيا لنقل الغاز إلى أوروبا. وفي هذا السياق تم وضع خطط إنشاء (Turkish Stream) وهو خط أنابيب مفترض أعلن عنه الرئيس بوتين في تشرين الثاني من العام الماضي خلال زيارته إلى تركيا. وكان متوقعاً من هذا الخط نقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وتستهلك تركيا بطبيعة الحال احتياجاتها منه. وقد اعتُبر هذا الخط بديلاً عن مشروع أنابيب ولد ميتاً وسمي (South Stream) والذي كان من المقرر ان ينقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود إلى بلغاريا ومنها إلى العديد من بلدان أوروبا الغربية والجنوبية. مثَّل المشروع حلماً تركياً خالصاً لأنه يمنحها نفوذاً إستراتيجياً بالغ الأهمية في علاقتها مع أوروبا وهي ما تحتاجه لتسيير شؤونها وملفاتها التي تمتد من طلب عضويتها المعلق للاتحاد الأوروبي إلى سائر الاتفاقيات التجارية بينها وبين الاتحاد، خصوصاً لجهة فتح أسواقه للمنتجات الزراعية التركية المنخفضة الأسعار. ربما تحتاج تركيا إلى إسقاط أكثر من طائرة روسية واحدة لتعويض الأذى الإستراتيجي الذي لحق بها عندما أعلنت روسيا قبل أسابيع عن تعليق المحادثات بشأن المشروع وردت تركيا لاحقاً بإعلان انسحابها رسمياً من المشروع. مع تسجيل أن دوافع روسيا لتعليق المحادثات ليست سياسية بالدرجة الأولى، بل يعود الأمر أساساً إلى انخفاض أسعار الطاقة عموماً وإلى تباطؤ الطلب الأوروبي على الطاقة بسبب الركود الاقتصادي.

أوراق اللعب

في خضم الأزمة بين روسيا وتركيا، تنتصب ورقة الغاز كورقة لعب حاسمة ستصب لمصلحة الروس، طالما فشل الأتراك في إيجاد بديل جدي عن الغاز الروسي. كل ما سبق من تحليل يصلح حصراً في حالة السلم وديمومة استثمار الطرفين فيه. ولكن حين يسود منطق الحرب، ننتقل بالضرورة إلى اقتصاد الحرب وإستراتيجيا الحرب وحساباتها. عندها، تتقزم ورقة الغاز وتتضخم أهمية المضائق. للحظة سيكون لتركيا اليد الطولى على الطاولة، وذلك حتى يقرر القيصر سحب ورقة جديدة خارج ثنائية الغاز والمضائق.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى