سوريا: الزراعة تبحث عن منقذ

أربعون في المئة هي نسبة التراجع في الإنتاج الزراعي في سوريا حسب تقديرات دولية. قد يبدو الرقم متوقعاً للوهلة الأولى، ولكن الحقائق والأرقام تشير إلى خسائر فادحة للفلاحين والمجتمع ككل، في بلد يغرق بالحرب للسنة الخامسة على التوالي وسط آمال بإمكانية استعادة جزء من هذه الخسارة.

منذ خمس سنوات، لم يتمكن عمران من زيارة أرضه في قرية أبو خشب بريف دير الزور. الحقل الذي خصصه لزراعة القمح، تناوبت فصائل «الجيش الحر» ثم «أحرار الشام» و «النصرة» ثم تنظيم «داعش» على السيطرة عليه، وبالطبع لم يعد بإمكان الرجل الستيني الإشراف على الزراعة ثم الحصاد وتحضير الحبوب وبيعها لاحقاً للدولة. فقد تكفلت عناصر البغدادي بحرق الأرض ومحاصيلها لكون صاحبها موظفاً سابقاً في الدولة كما ورده من هناك.

عمران ليس وحده في هذه المشكلة، فصديق النزوح عبد الرحمن، خسر مزارعه في ريف الزبداني المخصصة للتفاح. ولعل برودة الجبال في تلك المنطقة تترك للتفاح القادم من هناك نكهة خاصة لدى الدمشقيين في هذه الفترة من السنة. يتحسّر الرجل الجالس في أحد مقاهي العاصمة على سنوات كان المحصول كفيلاً بدخل معقول له ولعائلات عدة في المنطقة: «الحرب والقصف والاشتباكات وسيطرة المسلحين، ثم أزمات الكهرباء والمازوت منعتنا من العمل هناك طيلة السنوات الماضية». لحسين، الفلاح الكهل في ريف طرطوس حكاية لا تقل حزناً. صحيح أن السنة الأخيرة كانت افضل نسبياً من السنين الماضية لناحية هطول الأمطار وإنتاج الحمضيات والفواكه، ولكنه قد اصطدم بعقبات جديدة بعدما أوقفت الحكومة اللبنانية مرور الشاحنات التي تنقل المحاصيل السورية، وهي أزمة جعلته شبه خاسر في هذا الموسم مع غلاء الأسعار في الداخل.

هذه القصص تنسحب بدورها على عموم الفلاحين وأصحاب الأراضي الزراعية والدولة بعدما تعرض القطاع الزراعي لأزمات كبيرة، ليس آخرها توقفٌ خلال الحرب، خاصة ان الأرياف التي كانت تعتبر مساحة خصبة لإنتاج محاصيل عديدة تحولت إلى ساحة حرب مستمرة، ودفع ذلك بهجرة الأهالي إلى محيط العاصمة. يضاف إلى ذلك أزمات الجفاف وتراجع معدلات هطل الأمطار، بالإضافة لتراجع المنسوب المائي ثم ارتفاع أسعار الكهرباء والوقود المخصص لضخ المياه.. باختصار لم تعد الزراعة في سوريا كما كانت.

وتكشف أرقام صادرة عن وزارة الزراعة والمركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي عن نسبة 32 في المئة هي الأراضي الصالحة للزراعة، فيما تقدر نسبة المساحات المزروعة بـ25 في المئة. وتصنف الوزارة المساحات بمناطق تتبع لنسبة الهطول المطري وتعتمد على إنتاج الحبوب والبقوليات والخضار والحمضيات. ووفقاً لتقرير عن المركز، فإن مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي لموازنة العام 2016 تقدر بـ19 في المئة. ورغم ان الإنتاج ما زال ممكناً في كثير من مناطق البلاد بحسب تقرير لـ «الفاو»، لكن الفلاحين لا يستطيعون الوصول لموارد أصبحت تكاليفها عالية للغاية.

إنذارات المنظمة الدولية تتقاطع مع كلام الوزارة عن اهم محصول يسهم في هذا القطاع، وهو القمح. فبعدما اقترب الإنتاج من ثلاثة ملايين طن قبل الحرب، تراجع 412 الف طن وفق كلام «مؤسسة الحبوب» التابعة لوزارة التجارة الداخلية، وهو أقل إنتاج تشهده البلاد وفق تقديرات «الفاو» منذ خمس وعشرين سنة، بتراجع يقدّر بـ40 في المئة عن متوسط الحصاد قبل بداية الحرب مع تقلص مساحة الإنتاج إلى اقل رقعة منذ الستينيات بحسب تقرير المنظمة، مقدرةً حجم العجز بـ800 الف طن خلال السنة الماضية، مع الإشارة إلى ان سوريا قد حققت الاكتفاء الذاتي ثم التصدير بدءاً من سنة 1996 وحتى ما قبل الحرب من دون أي حاجة للاستيراد.

وفي المقابل، تتوقع المصادر الحكومية موسماً استثنائياً للقمح مقارنةً بالسنوات الماضية، إذ تشير التقديرات إلى إنتاج محافظة الحسكة وحدها لـ400 الف طن من القمح، فيما تتوزع بنسبة 53 الف طن في محافظة حمص والباقي بمحافظات حماة (38 الف طن)، بالإضافة إلى السويداء ودرعا بدرجة اقل، فيما كان لافتاً إعلان حكومي عن استيراد 200 الف طن من القمح الطري لهذا الموسم.

في المقابل، تبدو الصورة مشرقة نسبياً لمحصول زراعي مثل الزيتون، خاصة أن سوريا تعتبر الثانية عربياً، وفي مراتب جيدة عالمياً، بالنسبة لتصديره أو لإنتاج الزيت.

وتشير أرقام الوزارة إلى أن زراعة الزيتون تشكل 12في المئة من الإنتاج و65 في المئة من مساحة الأشجار المثمرة في البلاد، خاصة في محافظات حلب وإدلب واللاذقية. ورغم الجفاف والعمليات العسكرية ونقص الوقود، اضطر عدد كبير من الفلاحين للنزوح أو قطع الشجر لاستخدامه في التدفئة. ومع كل هذا، حافظ الإنتاج على معدل يقترب من 800 الف طن في السنوات القليلة الماضية، مع ان عديداً من الفلاحين تحدثوا عن عدم تحقيق أي أرباح، هذا ان لم تكن تجارتهم فيها خاسرة.

للحمضيات حكاية أخرى تختلف بشكل نسبي. فالإنتاج يتركز في مناطق آمنة (اكثر من 90 في المئة في اللاذقية). وساهم الهطل المطري في العامين 2014 و2015 بتحسين المحصول، لتنتهز الحكومة السورية توتر العلاقات بين أنقرة وموسكو، معلنة إمكانية التصدير إلى روسيا بالتزامن مع كلام مسؤولي الوزارة ان إنتاج الحمضيات هذه السنة سيحقق أرقاماً غير مسبوقة، حيث قفز عدد الأشجار المثمرة من 11 مليون إلى 14 مليون تعمل لأجلها 50 الف عائلة غالبيتها في الساحل السوري.

ورغم تذبذب الأسعار للتصدير أولا وارتفاع أجور العاملين والنقل والري والوقود ثانياً ثم إلغاء التصدير إلى لبنان، يبقى المشهد اكثر تفاؤلاً مع احتمالات التصدير إلى روسيا، وهو ملف يتوقع ان ينقذ جزءاً من القطاع الزراعي.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى