الاتفاقية الحرام (3).. الأب الشرعى لـ «سايكس بيكو».. «مؤتمر كمبل» وحكاية وثيقة الشيطان!

“إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حد ما، ثم تنحل رويدا رويدا، ثم تزول والتاريخ مليء بمثل هذه التطورات.. فهناك إمبراطوريات، روما، أثينا، الهند، الصين، وقبلها بابل، وآشور، وسومر، والفراعنة وغيرهم .فهل لديكم وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوربى وانهياره ؟ أو تؤخر مصيره ؟ وقد بلغ الآن الذروة وأصبحت أوربا قارة استنفذت مواردها وشاخت مصالحها، بينما لا يزال العالم الآخر فى شرخ شبابه يتطلع إلى المزيد من العلِم والتنظيم والرفاهية”.

بهذا التساؤل الجوهري، افتتح رئيس الوزراء البريطانى “كامبل ” المؤتمر اللعنة الأب الشرعى لكل تلك الاتفاقات التى مزقت الخارطة العربية بدءا من سايكس بيكو وصدور وعد بلفور مرورا بمؤتمر فرساى وحتى قرار تقسيم فلسطين الجائر الذى صدر عن الأمم المتحدة 1947 .

ليست سايكس بيكو وليس وعد بلفور سوى محصلة ونتيجة حتمية لمؤتمر “كمبل بانرمان” الذى اجتمع فيه مجموعة من الزعماء والعلماء الغربيين وطرحت عليهم أسئلة محددة عن مستقبل المنطقة العربية إذا عمها التعليم واستفادت من ثرواتها الوطنية ومن مكتسبات الثورة الصناعية الكبري.

وهكذا عقد المؤتمر الذى دعا إليه حزب المحافظين البريطانيين، فى لندن عام 1905 وبصورة سرية حيث كان الموضوع المعلن له أمام الرأى العام هو محاولة نزع سلاح محور الشر الذى كان يتمثل آنذاك فى ألمانيا والإمبراطورية العثمانية، واستمرت جلساته لمدة عامين، كانت القضية الرئيسية للمؤتمر هى مناقشة السبل التى يمكن من خلالها الحفاظ على مكتسبات الحقبة الاستعمارية لأقصى مدى ممكن. ضم المؤتمر الدول الاستعمارية الكبرى : فرنسا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا وانتهى إلى وضع وثيقة سميت باسم “وثيقة كامبل” نسبة إلى رئيس وزراء بريطانيا، وحضره البروفيسور ( جيمس ) مؤلف كتاب ( زوال الإمبراطورية الرومانية ) والبروفيسور (لوى مادلين) مؤلف كتاب (نشوء وزوال إمبراطورية نابليون).

لماذا مؤتمر “كمبل”؟

كان بديهيا أن تشرع الدول الاستعمارية فى عقد هذا المؤتمر فى ذلك التوقيت مطلع القرن الحادى والعشرين، لأن المارد العربى كان قد بدأ آنذاك فى الخروج من القمقم والاستيقاظ بعد سبات طويل فى كهف الدولة العثمانية. بدأت اليقظة عندما حل الضعف بالإمبراطورية العثمانية التى أنهكتها الخسائر فى حروبها مع روسيا فذهب المغرب العربى إلى قبضة فرنسا وانفصلت مصر عن جسد الباب العالي، وبدأت الحركات القومية الانفصالية فى بلاد اليونان وحدثت الكثير من الاحتجاجا ت الشعبية فى بلاد الشام .

ومن هنا نشأ الفكر القومى العربى كرد فعل للضعف العثمانى. كانت الإرهاصات الأولى فى مطلع القرن التاسع عشر، عندما تنبه مفكرون مصلحون أمثال رفاعة رافع الطهطاوى وخير الدين التونسى إلى تلك الهوة السحيقة التى تفصل العالم الإسلامى عن نظيره الغربي. لكن تلك الرؤى لم تفض إلى دعوة للفرنجة أو الدوران فى فلك الغرب . بل على العكس من ذلك كانت دعوة لإصلاح الواقع العربى ومحاولة إحياء الإسلام السياسى وجاءت فى هذا الصدد جهود مفكرين إصلاحيين أمثال: جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان . وتأسست جمعيات علمية وثقافية وسياسية فى مختلف أقطار الوطن العربى واكبتها جهود حثيثة من المثقفين، فعمل “جورجى زيدان” على إحياء التراث العربي، وأسس نجيب عازورى عصبة الوطن العربى 1904، وألف عبد الرحمن الكواكبى “طبائع الاستبداد ” ليعالج أسباب تخلف الإسلام لغياب الدولة المستندة إلى الحرية وأحكام العقل .

وهكذا كان منطقيا لقوى الاستعمار أن تتأهب لتلك النهضة الوليدة فى العالم العربى حتى لا ينالها ما نال الإمبراطوريات السابقة التى انحسرت وأضحت من أطلال الماضى .

التوصيات الشيطانية

انتهى مؤتمر”كامبل ” بطبيعة الحال إلى أن الأمة العربية لابد وأن تبقى مجزأة ومتخلفة حتى لا يضمحل الغرب كما اضمحلت الإمبراطوريتين الرومانية والإغريقية وكى يتم ذلك لابد من فصل الجزء الإفريقى عن الجزء الآسيوى بإقامة كيان غريب فى الثقافة والجنس يكون جسرا للغرب ويمنع قيام وحدة هذه البلدان. وانبثق عن المؤتمر تشكيل لجنة عليا ضمت خبراء السياسة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد، وبعد مداولات ومنا قشات وجدت اللجنة أن المستعمرات فى الهند والشرق الأقصى مأمونة الجانب، لأنها تغرق فى هموم صراعاتها الطائفية والمذهبية. بينما يأتى الخطر من المستعمرات العربية التى بدأت تشهد يقظة سياسية وفكرية قد تجعلها تنسلخ عن ركب الدول الاستعمارية وتلحق بقطار التقدم . كما أن الخطورة كما نصت عليها وثيقة المؤتمر تتمثل فى “أن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوى للاستعمار! لأنه الجسر الذى يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعى إلى القارتين الآسيوية والإفريقية وملتقى طرق العالم، وأيضا هو مهد الأديان والحضارات”. لكن هذا الشريان كما ذكر فى الوثيقة: ” يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان”.

ولهذا جاءت توصيات المؤتمر كالآتى:

إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: دول الحضارة الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول ماديا وتقنيا لتصل إلى مستوى تلك الدول
الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضارى معها ولا تشكل تهديدا عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذى لا يشكل تهديدا عليها وعلى تفوقها
الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضارى معها وتشكل تهديدا لتفوقها (وهى بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها فى هذا المجال ومحاربة أى اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية.

محاربة أى توجه وحدوى فيها:

ولتحقيق ذلك دعا المؤتمر إلى إقامة دولة فى فلسطين تكون بمثابة حاجز بشرى قوى وغريب ومعاد يفصل الجزء الإفريقى من هذه المنطقة عن القسم الآسيوي، والذى يحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب ألا وهى دولة إسرائيل واعتبار قناة السويس قوة صديقة للتدخل الأجنبى وأداة معادية لسكان المنطقة. كما دعا إلى فصل عرب آسيا عن عرب إفريقيا ليس فقط فصلاً مادياً عبر الدولة الإسرائيلية، وإنما اقتصادي وسياسي وثقافي، مما أبقى العرب فى حالة من الضعف.

وهكذا كانت توصيات هذا المؤتمر الركيزة التى تم بناء عليها توقيع اتفاقية سايكس بيكو فى 16 مايو 1916، ليصدر وعد بلفور فى نوفمبر 1917.

اليهود مطية أوروبا

إن ما تضمنته “وثيقة كمبل” ليست سوى دليلا أكيدا على أن أوروبا لم تسعى لإنشاء وطن قومى لليهود تعاطفا معهم. بل إنها استخدمتهم لتحقيق أغراضها .وهو ماحدث تاريخيا فى فترة مبكرة عندما وجه نابليون بونابرت نداءه لليهود بمقولته الشهيرة “ورثة أرض إسرائيل الشرعيون “، الذى صدر عام 1799 . كان نابليون يريد دعم اليهود لتمويل حملاته على بلاد الشام، لكن خططه باءت بالفشل وعاد إلى فرنسا ليعقد مجلس ” السانهدرين”، وهو أعلى هيئة قضائية يهودية، ليعلن مساواة اليهود بالفرنسيين والبدء فى تأسيس الدولة اليهودية فى المنفى تمهيدا لاحتلالهم فلسطين . كان نابليون السبب الأول فى نشأة حلم الدولة اليهودية فى فلسطين وبعد هزيمته توارى الحلم قليلا حتى عاد للظهور وبقوة على يد “تيودورهرتزل” الذى عقد المؤتمر الصهيونى الأول فى مدينة بازل السويسرية 1879، والذى انتهى إلى إنشاء وطن قومى لليهود وإنشاء “الوكالة اليهودية ” لجمع الأموال كى يتم تهجير اليهود إلى فلسطين، وتمكينهم من شاء الأراضى بها . يومها خرج هرتزل من المؤتمر يقول: “لقد قررنا إنشاء الوطن القومى لليهود وقد تضحكون إذا أخبرتكم أن هذا الوطن سيتحقق خلال خمسة أعوام أو ربما خمسين عاما على الأكثر “.

وبدأ هرتزل يسعى لتحقيق جزء مهم من توصيات المؤتمر، ألا وهو الحصول على تأييد الدول للمشروع اليهودى، كان يرغب فى التفاوض مع قيصر روسيا ليسمح لليهود الروس بالهجرة إلى فلسطين وكذلك مع قيصر ألمانيا ومع فرنسا بخصوص يهود الجزائر ساعده على ذلك الأسقف (وليم هشلر) فى فيينا، الذى أعلن منذ عام 1880 تبنيه النظرية التى تقول “إن المشروع الصهيونى هو مشروع إلهي، وإن العمل على تحقيقه يستجيب للتعاليم التوراتية”، وكان هشلر قد ألف كتابا عام 1882م بعنوان (عودة اليهود إلى فلسطين حسب النبوءات ) لكن لقاءات هرتزل لم تجن ثمارها، فكان أن رتب له “هشلر “لقاء مع آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني.

واكتمل ثالوث الشر بلويد جورج رئيس الحكومة البريطانية الذى لم يخف ميوله الصهيوينة قائلا فى كتابيه (حقيقة معاهدات السلام) و(ذكريات الحرب)، إن حاييم وايزمان الكيمائى الذى قدم خدماته العلمية لبريطانيا فى الحرب العالمية الأولى هو الذى فتح له عينيه على الصهيونية، حتى أصبح أكثر صهيونية من وايزمان نفسه.وهكذا صدر وعد بلفور المشئوم فى 2 نوفمبر 1917 .

الوعد المشئوم

.. وزارة الخارجية
فى الثانى من نوفمبر/ تشرين الثانى سنة 1917
عزيزى اللورد روتشيلد
يسرنى جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالى الذى ينطوى على العطف على أمانى اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومى فى فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى أى بلد آخر”.
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيونى علماً بهذا التصريح.
المخلص
آرثر جيمس بلفور

بمقتضى تلك السطور ابتلع الصهاينة أرض فلسطين دون جهد أو عناء. وقد أرسلت الرسالة قبل شهر من احتلال الجيش البريطانى فلسطين إلى روتشليد، وهو المسئول عن فرع عائلة روتشيلد فى إنجلترا، وهى أسرة مصرفية يهودية ألمانية الأصل، وكان أول عضـو يهـودى فى البرلمان الإنجليزي، وزعيم الطائفة اليهودية الإنجليزية.

وكان ليونيل روتشيلد يرى أن الوجود الصهيونى فى فلسطين لا بد أن يأخذ شكل دولة لا شكل وطن قومى وحسب، وأن هذا يخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية، ومن ثم مصالح عائلة روتشيلد. ولذلك سعى ليونيل لاستصدار التعهد البريطانى المعروف باسم وعد بلفور، وعند إصدار وعد بلفور، كان روتشيلد رئيساً شرفياً للاتحاد الصهيونى لبريطانيا وأيرلندا. وبعد ذلك سعى ليونيل إلى إنشاء فيلق يهودى داخل الجيش البريطانى خلال الحرب العالمية الأولى، وتولى مسئولية الدعوة إلى هذا الفيلق، الذى دخل فلسطين مع الجيش البريطاني، وجمع المتطوعين لهذا الفيلق “جيمس أرماند روتشيلد” (1878-1957م)، الذى تولى رئاسة هيئة الاستيطان اليهودى فى فلسطين، وقام والده تمويل بناء المستوطنات والمشاريع المساعدة لاستقرار اليهود فى فلسطين، ومن أهم المشروعات القائمة حتى اليوم مبنى الكنيست الإسرائيلى فى القدس.

اتفاقات من تحت المنضدة

وبالتوازى مع الاتصالات التى كانت تجرى لإصدار هذا الوعد، كانت هناك مراسلات الشريف حسين ـ ماكماهون، والتى كانت تتعهد فيها بريطانيا للشريف حسين بتنصيبه ملكاً على بلاد الشام إذا تحالف معها للثورة على الحكم العثماني.. وهنا لا بد أن نؤكد أن بريطانيا قالت فى إحدى رسائل ماكماهون إنها.. ودون أن تبدى الأسباب.. ستستثنى من الأراضى التى ستضعها تحت حكم الشريف، المنطقة الغربية من سوريا، والتى أصبحت فيما بعد فلسطين بشكلها الذى سلم لليهود، ولم يكن الشريف حسين يطلب تثبيت الوعود على شكل معاهدات. وفى الوقت نفسه، كانت بريطانيا تجرى مفاوضات مع الأمير عبد العزيز آل سعود، وتعده بعكس ما تعد به الشريف حسين فيما يتعلق بحكم الجزيرة العربية، ولذلك فإن هذا الأمير كان يصر على أن يصاغ كل ما يقال له على شكل معاهدات مكتوبة وموقعة.من جانب آخر كانت تجرى مع فرنسا وروسيا مفاوضات مع جمال باشا الوالى العثمانى على المنطقة لإغرائه بالاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية الضعيفة والوقوف مع الحلفاء ضد ألمانيا.

كان هذا يتم بينما بريطانيا وفرنسا تجريان مفاوضات سرية، لاقتسام المنطقة فيما سمى لاحقا باتفاقية سايكس ـ بيكو التى وقعت فى العام 1916م، أى قبل وعد بلفور بأشهر، وهى المعاهدة التى لم يتم تنفيذها، ولكن بعد الحرب عام 1920م نفذت ضمن اتفاقات جديدة مبنية عليها فى مؤتمر سان ريمو ومعاهدة سيفر، لأن الثورة البلشفية فى روسيا فضحت هذه المعاهدة وأعلنتها على الملأ . وفى الوقت نفسه وعد تشرشل وجهاء المنطقة عام 1920م بعدم إنشاء دولة يهودية، وقال: “إنه مجرد ملجأ قومى لهؤلاء المساكين!

بلفور بين أطماع الاستعمار وأساطير التوراة

كان وعد بلفور ثمرة أطماع استعمارية وأفكار توراتية وصهيونية رسخت فكرة أن “عودة” اليهود إلى أرض فلسطين، هى شرط عودة المسيح عليه السلام ودخول اليهود فى المسيحيّة، وبالتالى نهاية العالم. كما أن الوعد جاء لضمان تأييد اليهود فى العالم فى حربهم مع الحلفاء وتأييدهم لهم ولا سيما اليهود الموجودون فى الولايات المتحدة الأمريكية الذين دفعوا بالفعل أمريكا إلى دخولها الحرب رسميا فى العام 1917. التنافس الإمبريالى على السيادة والمصالح الإستراتيجيّة، ففى الوقت الذى كان لفرنسا موطئ قدم فى فلسطين بعلاقتها مع المسيحيين الكاثوليك هناك وروسيا بعلاقتها بالأرثوذكس، فإن بريطانيا لم يكن لها من بين السكّان الأصليّين حليف، وهو ما جعلها تسعى إلى أن تعقد تحالفاً مع الصهاينة، ومن جهة أخرى فإن موقع فلسطين الإستراتيجى كنقطة التقاء لثلاث قارات، وسعى ألمانيا وروسيا وفرنسا إلى تعزيز مواقعهم، إما بمد شبكة القطار من برلين إلى بغداد أو بالسيطرة على البوسفور أو بمحاولة السيطرة على منطقة الشام، مما جعل بريطانيا تفكر بجدية فى بسط النفوذ على فلسطين حتى تضمن عدم تحوّلها إلى أياد أخرى بعد الحرب، خصوصا فى ظل قرب فلسطين من قناة السويس.

على الجانب الآخر كان ينبغى كسب يهود روسيا ويهود الدول المحايدة لتأييد قضية الحلفاء. لا سيما منع انخراط اليهود فى صفوف الحزب الشيوعى الذى وقف ضد مواصلة روسيا الحرب.

هذا بالإضافة إلى تنفيذ الوعد الذى قطعته بريطانيا لحاييم وايزمان (أول رئيس للكيان الصهيونى وأحد مؤسسيه) بإنشاء وطن قومى لليهود حين تمكن وايزمان من تحضير الجلسرين وإنتاجه من السكر بالتخمير ثم استخدمه فى عمل المتفجرات وعرضت عليه الحكومة البريطانية أن تشترى منه حق الاختراع مقابل ما يطلبه، وكان طلب وايزمان هو الحصول على وعد من الحكومة البريطانية بوطن قومى لليهود فى فلسطين مقابل حق انتفاع الجيش البريطانى بالجلسرين المبتكر لصناعة المتفجرات التى استخدمها ضد الجيش الألماني، ووافق لويد جورج على شرط وايزمان وكلف وزير خارجيته بلفور بأن يعلن وعده لليهود.

فى عام 1952 نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثائق سرية عن فترة 1919 ـ 1939، بما فيها تلك التى تتعلق بتوطين اليهود فى فلسطين، ويتضمن المجلد الرابع من المجموعة الأولى، فى الصفحة السابعة نقلا عن مذكرة وضعها آرثر بلفور فى عام 1917 ما يأتي: “ليس فى نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الأميركية تحاول استقصاءها، إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور فى التقاليد القديمة العهد وفى الحاجات الحالية وفى آمال المستقبل، وهى ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربى الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة”. أما بالنسبة للاستيطان اليهودى فى فلسطين فقد أوصى فى الجزء الأخير من هذه المذكرة بما يلي: “إذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية فى العالم فينبغى أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود، لذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التى تخصّها بشكل طبيعى سواء أكان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالاً (أى باتجاه لبنان) أم عن طريق عقد معاهدة مع سوريا الواقعة تحت الانتداب (الفرنسي) التى لا تعتبر المياه المتدفقة من (الهامون) جنوبا ذات قيمة بالنسبة لها، وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضى الواقعة شرقى نهر الأردن”. آمن بلفور كما أوضح فى كتابه “العقيدة والإنسانية “، أن الله منح اليهود وعداً بالعودة إلى أرض الميعاد، وأن هذه العودة هى شرط مسبق للعودة الثانية للمسيح، وإن هذه العودة الثانية تحمل معها خلاص الإنسانية من الشرور والمحن ليعمّ السلام والرخاء مدة ألف عام تقوم بعدها القيامة وينتهى كل شيء كما بدأ. اكتسب بلفور هذه الثقافة من عائلته، وخاصة من والدته التى تركت فى شخصيته الدينية بصمات واضحة من إيمانها بالعقيدة البروتستنتية المرتبطة أساساً بالعهد القديم وبما يبشر به من خلال النبوءات التوراتية.

صحيفة الأهرام المصرية (الأهرام العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى