العدوان الثلاثي على مصر… بداية الوئام الأميركي الإسرائيلي

في نهاية شهر ايلول الماضي، مرّت ستة عقود على العدوان الثلاثي على مصر الذي بادرت إليه كل من إسرائيل وبريطانيا وفرنسا بغرض السيطرة على سيناء من ناحية، واستعادة السيطرة الاستعمارية على قناة السويس بعد تأميم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لها. والمعروف حتى الآن أن بين عوامل إفشال العدوان الثلاثي، كان الموقف الأميركي الذي أمر إسرائيل، بالتوافق مع الاتحاد السوفياتي، بالانسحاب من سيناء حتى بعدما أعلن بن غوريون السعي لإقامة المملكة اليهودية الثالثة. وقد تمّ الانسحاب في أقلّ من ستة أشهر على الاحتلال. غير أن كتاباً صدر حديثاً يُظهر إلى حد ما صورة مُغايرة لما كان معروفاً.

فالانسحاب أحدث هزة في القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ما أحدث أزمات في المستويين. ويقول كتاب صدر في أميركا في الأيام الأخيرة عن هذه الحرب تحت عنوان «مقامرة آيك» بقلم الدكتور مايكل دوران الذي خدم في منصب رفيع في البيت الأبيض، إن تلك الحرب وضعت أسس التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة، وإنها هي التي قادت إلى تغيير السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. و«آيك» هو اسم التحبّب المعروف للرئيس الأميركي الأسبق دوايت آيزنهاور، الذي فاز بالرئاسة جراء شعبيته كقائد عسكري في الحرب العالمية الثانية.

وفي نظر دوران، فإنه صحيح أن تلك الحرب قادت إلى مواجهة شديدة بين أميركا وإسرائيل، إلا أنها أنتجت سلسلة أحداث أوضحت للإدارة الأميركية القدرة الكامنة في التعاون الواسع مع تل أبيب. ولهذه النظرة أهمية كبيرة في قراءة واقع العلاقات الراهن بين إسرائيل والإدارة الأميركية. وقد حدّد آيزنهاور سياسته الشرق أوسطية فور فوزه في العام 1952، وهو ما قاد إلى صدام مع كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وكان دافع السياسة الأميركية هو العداء للشيوعية ومحاولة منع الاتحاد السوفياتي من توسيع دائرة نفوذه، خصوصاً في الشرق الأوسط. ولهذا قرّر آيزنهاور تعزيز علاقاته مع الدول العربية لمنع سقوطها في أيدي الشيوعيين.

وقادت سياسة آيزنهاور ووزير خارجيته جون فوستر دالاس إلى صدام مع رئيس الحكومة البريطانية حينها ونستون تشرتشل، الذي فهم أن ثمن التقارب مع العرب سوف تدفعه القوى الاستعمارية. وكانت نقطة الخلاف المركزية الأولى هي مصر بعدما طالب الرئيس جمال عبد الناصر بجلاء القوات البريطانية وبالتالي إبعاد بريطانيا عن قناة السويس. كما تصرّف عبد الناصر بطريقة تُسيء للنفوذ البريطاني، خصوصاً في كل من الأردن والعراق.

واستفاد عبد الناصر من سياسة آيزنهاور وجعل من مصر، وفق دوران، دولة تُغازلها الأقطاب العالمية، وخصوصاً أميركا والسوفيات. وكانت مغازلة أميركا لعبد الناصر بين الأسباب الأساسية للصدام مع بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وقد آمنت هذه الدول الثلاث، بأن أميركا تُخطئ في تعاملها مع مصر عبد الناصر، إلا أن الأميركيين ظلّوا على قناعتهم بأن هذا هو أفضل سبيل لمُواجهة الشيوعيين.

ويعتقد دوران، في كتابه، أن آيزنهاور كان مخطئاً في موقفه وفهمه للصراع القائم في المنطقة. وحسب كتاب دوران، فإن العداء العربي، خصوصاً المصري لإسرائيل، كان أولاً وأخيراً مناورة علاقات عامة. وفي نظره، لم يتأثر عبد الناصر بالضغوط الأميركية على إسرائيل، لأن هدفه في تلك الفترة لم يكن الحصول على تنازلات من إسرائيل. ويزعم دوران أن هدف عبد الناصر الأساسي حينها، كان تعزيز مكانة مصر في العالم العربي على حساب الأنظمة الموالية للغرب. وكانت المُواجهة مع إسرائيل إحدى الوسائل لتحقيق هذا الهدف عن طريق تأجيج الرأي العام العربي لمصلحته. ولهذا لم تفلح الإدارة الأميركية في تقريب مصر إليها، وأفلح عبد الناصر في تعزيز مكانته في العالم العربي.

ويعتقد دوران أن إدارة آيزنهاور أخفقت في إدراك مقاصد عبد الناصر، ولذلك سعت، في البداية، إلى مُصالحته وجذبه إلى صفّها ضدّ الاتحاد السوفياتي. ولهذا وقفت ضدّ العدوان الثلاثي في 29 تشرين الأول 1956 الذي كان بين أبرز أهدافه إسقاط النظام الناصري. وغدا الموقف الأميركي من العدوان فصلاً من أهم فصول عهد آيزنهاور السياسي. وبعدما أعلن بن غوريون إقامة «مملكة إسرائيل الثالثة»، شدّد آيزنهاور على وجوب انسحاب إسرائيل التامّ من شبه جزيرة سيناء. وحاولت إسرائيل استخدام نفوذها في الكونغرس الأميركي وإرهاب آيزنهاور، إلا أن هذه المحاولة فشلت وعزّزت عزم آيزنهاور على انسحاب إسرائيل التام.

وخلافاً لما هو شائع، فإن كتاب «مقامرة آيك» يرى أن الصدام بين إدارة آيزنهاور وحكومة إسرائيل لم يتواصل بعد العدوان. فقد أظهر آيزنهاور جرأة سياسية في مواجهة إسرائيل ولكنه، حسب دوران، اكتشف خطأه وأعرب عن ندمه لاحقاً في أحاديث خاصة. وكانت نقطة التحوّل عند آيزنهاور في العام 1958 عند وقوع ثورة تموز في العراق عام 1958، والتي أطاحت الملكية. وقد أيّد عبد الناصر تلك الثورة، ما دفع آيزنهاور لأن يكتب في مذكراته أن عبد الناصر خدع أميركا وأنكر جميلها. واعترف آيزنهاور بأن السياسة التي قادها من العام 1952 إلى 1958 كانت خاطئة من أساسها، وأنه كان أفضل لو سمح لبريطانيا وفرنسا بإسقاط عبد الناصر.

واستخلص دوران أن الأزمة بين إسرائيل وأميركا حول العدوان الثلاثي شكّلت فعلياً نقطة انطلاق التحسّن المُثير في العلاقات بينهما في السنوات التالية، أولاً في عهد آيزنهاور وبعدها في عهدي جون كينيدي وليندون جونسون. وأشار إلى أن عدم تجاوب عبد الناصر مع مساعي الغزل الأميركية دفع الإدارات الأميركية المُتعاقبة إلى استسخاف جدوى التحالف الاستراتيجي مع العالم العربي والتركيز بدلاً من ذلك، على التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل التي أثبتت على مرّ السنين أنها دولة تزداد استقراراً وقوة.

ويُناقض هذا الرأي، الاعتقاد الشائع في أميركا وإسرائيل بأن انطلاقة العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية جاءت بعد الانتصار الإسرائيلي في حرب حزيران 1967. ويُقرّ دوران بأن حرب 67 شكّلت نقطة انطلاق هامة، خصوصاً بسبب القرار الفرنسي فرض حظر تصدير سلاح لإسرائيل، إلا أن الصورة أكثر تعقيداً. وقال إن نقطة التحوّل كانت عندما قدّمت إدارة كينيدي لإسرائيل صواريخ مُتطوّرة مُضادّة للطائرات مطلع الستينيات، وأن فكرة التحوّل بدأت في أواخر عهد آيزنهاور.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى