الليبرالية الجديدة في سوريا

ماتت الليبرالية القديمة في سوريا التي كانت مجسدة في حزب الشعب بزعامة رشدي الكيخيا وناظم القدسي، في مرحلة ما بعد تسلم حزب البعث السلطة إثر انقلاب الثامن من آذار 1963.
كانت فكرتا الديموقراطية والليبرالية منبوذتين، ليس فقط من البعثيين وإنما أيضاً من الناصريين والإسلاميين والشيوعيين، وعندما بادر الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي، في مشروع موضوعات المؤتمر الخامس في شهر آذار 1978 إلى طرح فكرة «الديموقراطية»، بمعناها البرجوازي بعيداً عن «الديموقراطية الشعبية» و»الديموقراطية الثورية»، اتُهم من ماركسيين آخرين بـ»الانحراف»، وقد كان رأي الدكتور نايف بلوز الذي ترك الحزب في الشهر الأخير من عام 1978 عقب انعقاد المؤتمر الخامس الذي تبنى الموضوعات، بأن الأخيرة تحوي بذرة «نزوع ليبرالي إن لم يتم تحصين فكرة الديموقراطية بلقاح ماركسي قوي».

بعد ربع قرن من الزمن تم تلمس عياني لنبوءة الدكتور بلوز: عقب سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي يوم التاسع من نيسان 2003 بدأ الأمين الأول للحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي رياض الترك بشم رياح صدام أميركي ــ سوري بعدما تم تعويم الدور الإقليمي السوري، انطلاقاً من الدخول السوري إلى لبنان في الأول من حزيران 1976 عبر توافق أميركي ــ سوري وهو ما كان الحدث الذي شكل بداية الصدام بين الحزب والسلطة السوريا عبر بيان صدر أواخر ذلك الشهر ضد الدخول العسكري السوري إلى لبنان. في أيلول 2003 طرح الأستاذ الترك نظرية «الصفر الاستعماري» وبعد عودته من جولة في القارتين الأوروبية والأميركية بدأ للمرة الأولى في كانون الأول 2003، في تأييد فكرة التخلي عن الماركسية وتأييد استبدال اسم الحزب.

كان سقوط بغداد هو المنصة الرئيسية لنشوء «الليبرالية الجديدة» في سوريا: قبل هذا كان هناك إرهاصات عند ماركسيين عقب سقوط الكتلة السوفياتية في خريف 1989 وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 لطرح أفكار بعيداً عن الماركسية بتأثير صدمة ذلك السقوط والتفكك. في كتاب كريم مروة: «حوارات»، دار الفارابي، بيروت 1990، تم طرح «ضرورة البحث عن نظرية ثورية جديدة من أيديولوجيات عدة للوصول إلى حركة ثورية جديدة»، في طرح جديد من قبل قيادي في الحزب الشيوعي اللبناني. ترافق هذا عند شيوعيين وماركسيين عرب كثر بالحديث عن: نهاية الإيديولوجية في العمل السياسي»، وعن أن الحزب السياسي يتحدد من خلال برنامجه السياسي وليس عبر منهجه المعرفي التحليلي. في نيسان 1998 طرح الدكتور جمال الأتاسي، أمين عام التجمع الوطني الديموقراطي: يضم خمسة أحزاب وحركات سوريا: الاتحاد الاشتراكي، الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي، حركة الاشتراكيين العرب، حزب البعث الديمقراطي، حزب العمال الثوري العربي فكرة «تحويل التجمع من تحالف إلى حركة سياسية واحدة بألوان أيديولوجية متعددة».

كانت المفاجأة هي موافقة قيادة المكتب السياسي على الفكرة، التي تمت مقاومة كبرى لها في الحزب، وقد كان لخروج رياض الترك من السجن في يوم 30 أيار 1998 دوراً حاسماً في موت تلك الفكرة، وهو الذي أعلن في صحف عدة لاحقاً أنه «لن يشتغل سوى تحت راية الحزب الشيوعي». في المؤتمر التداولي للحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي في آذار 2001 كان هناك شخص واحد فقط طرح فكرة التخلي عن الماركسية واستبدال اسم الحزب من بين 45 مندوباً. عقب التاسع من نيسان 2003 كان هناك صورة سوريا يسارية مختلفة: اتجاه كبير في الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي وحزب العمل الشيوعي بأطره المستمرة تنظيمياً بعد إعادة الترميم عام 2000 أو التي لم تستمر، وفي حزب العمال الثوري العربي نحو تبني طروحات «الليبرالية الجديدة» التي تجسدت في مقولات موت الأيديولوجيا والحزب برنامج سياسي فقط والديموقراطية هي المنظار إلى كل المواضيع والديموقراطية مفتاحية وشرطية أمام القضايا الأخرى: الوطنية والقومية والاقتصادية الاجتماعية مع ميول كانت صريحة أحياناً ومضمرة حيناً آخر نحو تحبيذ الاستعانة بالخارج من أجل التغيير الداخلي ما دامت الديكتاتوريات قد جففت الينابيع الداخلية للتغيير. كان ملفتاً للنظر أن الليبرالية الجديدة السوريا قد أتت من هذه المنصات الحزبية: الشيوعية المنشقة عن السوفيات وخالد بكداش عام 1972، ومن «اليسار الجديد» الذي ولّد حزب العمل الشيوعي عام 1981 من رحم رابطة العمل الشيوعي والحلقات الماركسية، عندما ولدت الأخيرة من انزياح أفراد عن حركات عروبية في البعث وحركة الاشتراكيين العرب وحركة القوميين العرب إثر هزيمة 1967، ومن حزب البعث اليساري عام 1964 الذي تولد عنه بالعام التالي حزب العمال بزعامة ياسين حافظ الذي مزج الماركسية والعروبة والليبرالية. وجدت الليبرالية الجديدة هوى كبيراً عند مثقفين سوريين كثر في فترة 2004 ــ 2011، بعدما كانت الماركسية مسيطرة عليهم في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ولم تلاق رواجاً سوى عند أفراد قلائل في الحزب الشيوعي خالد بكداش، مثل الدكتور عبد الرزاق عيد، فيما انزاح الكثير من الشيوعيين الأكراد ــ ومعظمهم كانوا مع بكداش ــ نحو الاتجاه القومي الكردي.

كاتجاه عام، لم تتلون الليبرالية الجديدة السوريا وتتحدد فقط بنزعة الاستعانة بالخارج بل وبالذيلية التحالفية مع الإسلاميين، كما تجسد هذا عند حزب «الشعب الديموقراطي»، المؤسس من قبل رياض الترك عام 2005 وعند بقايا مثقفي لجان المجتمع المدني، حيث ظهرت هذه الذيلية ابتداءً من إعلان دمشق المجلس الوطني السوري وصولاً إلى الائتلاف. بحسب عبارة قيلت عام 2011 تعقيباً على إعلان المجلس من اسطنبول من أحد الكوادر المعارضة لرياض الترك في الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي: «شهوة الزواج السياسي مع الإخوان المسلمين عند رياض موجودة منذ أحداث 1979 ــ 1982»، وهي في الواقع لم تكن موجودة عند غيره في الحزب واقتصر الأمر في خط قيادة الحزب على تكتيك سكوتي غير هجومي على «الإخوان» في تلك الأحداث مع اعتبار التناقض الرئيسي مع السلطة والثانوي مع الإسلاميين وفي الوقت نفسه تقديم خط ثالث: وطني ديموقراطي تغييري جذري متمايز عنهما.

كيف سيكون مصير الليبرالية الجديدة السوريا بعد فشل الإسلاميين المدعومين من الغرب على الأقل حتى 2014، في مجابهة 2011-2016، مع السلطة، كما تقول حلب مثلما قالت حماة 1982 عن مجابهة 1979 ــ 1982؟

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى