بعد مئة عام على «بلفور»… الهجوم المضاد!

يجيء يوم الثاني من تشرين الثاني، فتشعر الأمة كلها بألم شديد من الطعنة العميقة التي طعنتها بها سياسة بريطانيا العظمى، في الحرب العالمية الأولى، وفي مثل هذا اليوم من سنة 1917. نذكر، اليوم، والألم يدفع الألم، أن «بلفور» لم يكن الطعنة الأولى ولا الطعنة الوحيدة التي نفذت في جسم الأمة في المئة سنة الأخيرة. فقد سبقتها طعنة ولحقتها طعنات!

كانت الطعنة الأولى حين اتفقت بريطانيا العظمى وفرنسا، قبيل الحرب العالمية الأولى، على اقتسام السيادة والنفوذ في سوريا بعد انتزاعها من تركيا وخروجهما من تلك الحرب ظافرتين.

بعد «مؤتمر الصلح» (1919) ومعاهدة باريس (1920) والمعاهدات اللاحقة تمّ تقسيم سوريا الطبيعية إلى مستعمرتين أو منطقتي نفوذ، الواحدة بريطانيا وتشمل فلسطين (شرق الأردن الذي لم يكن له نطاق يحدّه) وما بين النهرين (العراق)، والثانية فرنسية وتشمل الشام (التي كان يدخل فيها جبل لبنان)، أصبحت كل واحدة من هاتين الدولتين تعدّ نفسها مالكة للقسم السوري الذي نصّت المعاهدة على أنه من نصيبها وصاحبة الحق الشرعي فيه. ولم تكن لسوريا، في ذلك الوقت، حركتها القومية المثبتة شخصيتها وحقوقها، فلم تتمكن من الوقوف في وجه تلك المساومات الغريبة، ولا من إعلان بطلان كل تسوية أجنبية سياسية ــ حقوقية على حسابها. بهذا المعنى، صرّح أنطون سعاده في المحكمة الفرنسية المختلطة في بيروت (1936) رداً على اتهام رئيس المحكمة الفرنسي له بـ «خرق وحدة البلاد الجغرافية وانتهاك حرمة الأرض» (كذا) قائلاً: «أنتم وشركاؤكم الأنكليز من خرق وحدة وطننا الجغرافية وانتهك حرمة أرضنا وقد تمّا بالفعل في سان ريمو وسيفر ولوزان».

على أساس معاهدة سايكس ــ بيكو (1916)، وقبل انتهاء الحرب الكبرى، رأت السياسة البريطانية أنه لا يوجد ما يمنع بريطانيا من بيع فلسطين لليهود. من هذه النظرة السياسية نشأت فكرة تفاهم بريطانية مع اليهود، بواسطة ممثلي الحركة اليهودية «الصهيونية»، على وعد بلفور.

لولا اتفاقية «سايكس ــ بيكو» لما كان «وعد بلفور» (1917) ولما كانت التجزئة السياسية ولما أخضعت البلاد السورية إلى الانتداب ولما نشأت الكيانات السياسية الهزيلة ولما قامت «الدولة اليهودية» الغازية في فلسطين.

ذاك هو تصريح بلفور وتلك هي سوابقه وقواعده «الحقوقية» وهذا هو وجه المسألة الصحيح: إنه تصريح اعتدائي على وجود الأمة وعلى سيادتها وحقوقها. ومجرد إعلانه كان يجب أن يكون سبباً كافياً لإثارة نقمة الأمة واحتجاجها ومقاومتها، ولكن الأمة، في ذلك الوقت، كانت جسداً بلا روح. كانت لا تزال صريعة الحزبيات الدينية وضحية أحقادها الوبيلة.

لم يكن في سوريا، المعنية قبل غيرها بالخطط الاستعمارية الغربية التي تستهدفها في وجودها ومصيرها، وعي قومي ولا نهضة قومية. وكانت أولى اختلاجات توقها إلى الحرية والنهوض اختلاجات العقلية الرجعية التي لم تكن ترى، في نظرياتها، غير الرجوع إلى حالة ماضية عارضة. لم يكن لسورية أمر ولم يرَ أول الناشطين أنه يجب أن يكون لها أمر وأن يكون أمرها في يدها.

لم تشعر سوريا بخطورة ما حدث. والمهتمون القلائل الذين كان لهم نظر في الأمور وحاولوا تنبيه الأمة إلى حالتها الخطرة لم تصل كتاباتهم إلى الرأي العام لأن البلبلة كانت عظيمة. وطغت، على شعور الأمة وفهمها، القضايا المحلية والأغراض الخصوصية والحزبيات الدينية.

كان التفسخ الروحي عظيماً والتفكك القومي بالغاً أوجه، في سوريا الطبيعية كلها. فوجد الاحتلال البريطاني ــ الفرنسي الذي خلف الاحتلال التركي، أفضل حالة لتثبيت قدمه وتنفيذ السياسة الاستعمارية المقرّرة. كل اختلاجة من اختلاجات الحياة السياسية في سوريا كانت خصوصية في أساسها، خصوصية في مراميها: دينية أو عشائرية أو محلية. كل فئة في جزء من أجزاء سوريا: شماليها أو جنوبيها أو غربيها أو شرقيها أو وسطها، عملت بمنهاج فئوي في دائرة محلية ضيقة. وساعدت الإرادات الأجنبية هذا التفسخ الواسع.

تلك كانت قواعد العمل القومي في فلسطين وفي كل بقعة من بقاع الوطن السوري. وهي قواعد فاسدة لا تضمن للأمة حقوقها ولا تفتح أمامها طريق النهوض والتغلب على خطط الذين يريدون لها الموت والفناء.

مذاك، والبلاد السورية تواجه مجموعة تحديات، داخلية وخارجية، يزيد من وتيرتها الضغط الخارجي، الإقليمي والدولي، من جهة، وعجز الأنظمة الحاكمة، من جهة أخرى، عن حلّ الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة الناجمة عن السياسات الخاطئة التي انتهجتها هذه الأنظمة منذ نشوئها، ولا تزال.

وإذا كانت القوى والمنظمات الشعبية، على امتداد المئة عام الماضية، قد أظهرت، بدورها، عجزاً فاضحاً عن أن تكون بديلاً عن الأنظمة السياسية القائمة، على الرغم من تضحياتها الكبرى التي تسجّل لها على امتداد تاريخها، فإن أصواتاً كثيرة، سياسية وفكرية وأكاديمية وإعلامية وازنة، على امتداد الساحة القومية، تتمسّك بانتمائها القومي في عالم تتصارع فيه الأمم والقوميات على المصالح والنفوذ، وتتشارك، على اختلاف تياراتها ومشاربها، الدعوة إلى قيام دولة الوحدة والسيادة القومية، رداً على دويلات سايكس ــ بيكو وبلفور، صنيعة الأجنبي، هذه الأصوات ترتفع، اليوم، مطالبة باتحاد مشرقي، أو (كونفدرالية مشرقية) بحسب بعض الأدبيات الحديثة، وبدولة مدنية، ونظام حكم علماني، مستلهمة في دعوتها الجريئة الأفكار القومية التقدمية، لا سيّما مبادئ أنطون سعاده القائلة بالوحدة القومية على المستوى السوري، والاتحادية الجبهوية على المستوى العربي العام، والدولة الديموقراطية القومية التي تفصل فصلاً تاماً الدين عن الدولة.

إذ ننتهز، اليوم، هذه الذكرى الأليمة، ذكرى وعد بلفور، فلنعد طرح السؤال الكبير: ما الذي جلب على شعبنا وأمتنا هذا الويل؟ ما العمل لتحويل جزرنا إلى مدّ نستعيد من خلاله حقوقنا القومية المغتصبة في فلسطين وكيليكيا والإسكندرون وسيناء والأحواز والعقبة وبادية الشام؟ متى تسترجع أمتنا سيادتها القومية على كامل ترابها القومي وتبني دولتها الموحدة؟ لعلّ الانتصارات العظيمة، الجارية اليوم، على الميادين كافة: السياسية والحربية والفكرية، تحمل بشائر قوية على اقتراب اليوم الذي سيغيّر فيه شعبنا مجرى التاريخ في منطقتنا وفي الإقليم كله وربما في العالم، أيضاً! ولعلها تقدّم أجوبة عملية على تلك الأسئلة الجوهرية.

إن شعبنا ينتظر آمالاً كبيرة على وقع التطورات الجارية، في السنوات الأخيرة، على الساحة القومية والإقليمية والدولية، متيقناً من تحقيق الانتصار الكبير على سايكس وبيكو وبلفور وأمثالهم، وعلى صناع السياسة الاستعمارية الذين لا يأخذون، في الاعتبار، حقوق الشعوب الأخرى ومصالحها!

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى