رحلة إلى التاريخ : مياه عين الفيجة العذبة! (الحلقة الأولى)

ملاحظة:

إن واحدة من أبشع ما تشهده الحرب في سورية هي صور تخريب الطبيعة فيها، ونبع الفيجة هو واحد من تلك الصور !!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في بلدان العالم تشغل المياه حيزا كبيرا من اهتمام مختلف القطاعات الحضارية، إلى الدرجة التي تحولت فيها المياه ، إلى كنز من كنوز الثراء في كل المناطق، وخاصة في أوروبا واليابان..

وهناك صناعة كاملة تتعلق بالمياه، فلم تكن المياه أبدا مجرد تكوين طبيعي يتدفق في مجراه ليستخدمه البشر، فهذا النوع من الصناعة يذهب إلى الترويج لماركات عالمية لمياه معدنية تتميز بنقائها في بعض المناطق الشهيرة، ناهيك عن أن الترويج يشمل مناطق المياه نفسها، التي تم تحويلها إلى محج سياحي..

وتعبر المناطق التي تستثمر فيها المياه من الأماكن الأكثر شهرة في العالم، وإذا كنا نقرأ عن البحيرات والنوافير والقنوات، فإننا نقرأ عن بحيرة التمنيات ونافورة جنيف كما نقرأ عن “مدينة المياه”، أي : فينيسيا الايطالية التي تعرف بجوهرة التاج للمدن المائية..

هذا يعني أن الحضارة استثمرت المياه ليس في طبيعة الخلق الكوني الذي وجدت من أجله فحسب، بل اشتغل الانسان عليها ليجعل منها فرجة تمتع العين وتقدح الشرر في الخيال ..

وصل استثمار المياه إلى مياه الشفة كما يقولون، فقد تم تعليب المياه وبيعها بطريقة هستيرية إلى أن وصلت المياه المعلبة الشهيرة إلى عشر ماركات من أغلى العبوات المعروفة، والتي تتنافس الصحف والشاشات للحديث عنها والترويج لها ..

وتتميز ماركات المياه على مستوى العالم بالتصميم الفاخر لعبواتها ونقاء وندرة مياهها والأسعار الباهظة التي تباع فيها والتي تتراوح بين دولار وعشرات الآلاف من الدولارات للعبوة الواحدة، وهذه معجزة بحد ذاتها!!

ومن عبوات المياه تلك عبوة “فاين” المستخرجة من على عمق 600 متر تحت جبل “فوجي” البركاني في اليابان، وقد استغرق تكّون مصدرها عشرات آلاف الأعوام، وتتميز بغناها بالمعادن وارتفاع درجة نقائها، حيث من الصعب مخالطتها لأي مصدر ملوث على هذا المستوى من العمق..

وهذا طبيعي، إذا كان سعر العبوة يحدد بالدولار، لكن عبوات “أكوا دي كريستالو” تحتل المركز الأول على القائمة حيث يحلق سعر العبوة إلى مستوى “60 ألف دولار”، أي مايعادل ثمن ألف برميل نفط ..

ومياه أكوا دي كريستالو هي من تصميم أحد أشهر المصممين الإيطاليين الذي دخل موسوعة “جينيس” لتصميم “أغلى العبوات الزجاجية”، والزجاجة مصنوعة من الذهب عيار 24 قيراطا، وليس هذا فقط بل تم خلط مياهها التي تأتي من ينابيع “فرنسا” و”فيجي” والجبال الجليدية في “آيسلندا” ..

هذه هي صورة الاستثمار الأسطوري للمياه .. فكيف هو حالها في سورية؟!

في سورية ، يوجد عبوات رخيصة من المياه يمكن أن يشتري المواطن ست عبوات بدولار واحد، لكنها واحدة من أعذب مياه العالم عبر التاريخ، وقد شهد بذلك الملوك والأمراء الذين زاروا سورية إضافة إلى مانقل عن ملكة تدمر والخلفاء الأمويين والعباسيين وغيرهم في وصف مياه الشام..

ويحكى أن ملكة تدمر، أي :”الملكة زنوبيا” أو “الزباء” كما حكت عنها الدراما التلفزيونية السورية، نقلت المياه الدمشقية عبر قنوات طويلة فأوصلتها إلى تدمر في الصحراء، وتمكنت من تحويل مملكتها الصغيرة إلى جنة !

وقد بلغت أهمية المياه العذبة في دمشق ذروة الاهتمام بها عندما تم توزيعها في أنهار سبعة إلى مختلف أنحاء المدينة، فنبتت البساتين بمختلف أنواع الأشجار والثمار، وتدفقت المياه في الحمامات ومع الزمن صار لكل بيت بحرة وغابة صغير من أشجار البرتقال والليمون والعنب واليافاوي والجانرك والخوخ والدراق إضافة إلى مشتل لإانواع الورود والأزهار الجميلة كالياسمين والورد الجوري والخبيزة وشب الظريف والحبق والمنثور ناهيك عن عرائش العنب المدهشة في جمالها ..

من أين تأتي هذه المياه إلى دمشق، وكيف أخذت هذا النصيب الوافر من الشهرة؟!

الجواب على هذا السؤال معروف، ولايحتاج إلى بحث طويل، فموقع مدينة دمشق، والجبال التي تحيط بها من جهة الغرب جعلها في مأمن من العوز المائي عبر التاريخ، ومن المعروف أن الجبال تترامى عبر سلسلتين من جبال القلمون لمسافات طويلة تتواصل مع جبال لبنان الشرقية ، وهي خزان ضخم للثلوج البيضاء النظيفة التي لم تكن يد الانسان قد عبثت بها من قبل ..

ونهر بردى، أو أو نهر باردوس، كما ورد في كل الكتب التي تتحدث عن حضارات الشرق، يأتي من سهل الزبداني وهو سهل أخاذ تحيط به الجبال العالية، فيتدفق غزيرا لتلاقيه عشرات الينابيع والعيون فتغذيه على مدار السنة وفي كل الفصول ليصل مبتهجا إلى عتبة المدينة الخالدة التي تغنى بجمالها الشعراء ..

يخرق نهر بردى مدينة دمشق من جهة الغرب، وفي هذه الجهة هناك فج ضيق تشكل في لحظة تاريخية ما لتتكسر صخوره الضخمة الموصولة بجبل قاسيون لتفتح الطريق لنهر من أعذب الأنهار المعروفة في الشرق ..

ذلك الفج الشهير اسمه فج الربوة، يخترقه النهر ويدخل المدينة ليقدم ماعنده من مياه عذبة للسكان الذين تدفقوا على أقدم مدينة مأهولة وحضارية في التاريخ ليعيشوا فيها أو ليستمتعوا بجمالها أو ليدمروها بعد غزو بربري وحشي !!

ومن طرائف هذا النهر الخالد: أن اسمه جاء من برودة مائه، فبارادوس في اللغات القديمة هو البارد، ومياه بردى باردة في الصيف ومنعشة وعذبة وتتغذى من كل الينابيع الشهيرة القريبة من مجراه..

والحديث عن هذه الينابيع الرديفة شيق ومهم، ومن أهم الينابيع، ذلك النبع الأسطوري الذي أعطى للمياه اسما في التداول الشعبي والعام هو “الفيجة” فعندما تقول: فيجة، فهذا يعني مياه الصنابير العذبة، والفيجة هي البلدة التي يتفجر فيها نبع حمل اسمها ، وتبعد عن مدينة دمشق من جهة الغرب نحو 24 كيلو مترا، وترتفع عن سطح البحر 860 مترا في صدر واد ساحر اسمه وادي بردى .

وجاء في الصفحة التي حملت اسم” عين الفيجة” على مواقع التواصل الاجتماعي، أن عين الفيجة، تشتهر ” بينابيعها ومنها: عين دورة، وعين الويات، وعين السادات وأهمها نبع الفيجة، وهو نبع يتدفق من جبل القلعة، حملت مياه الشرب لمدينة دمشق اسمه ، وقد سجلت غزارته بوسطي مقداره 8 م3/ثا، يزداد في المواسم وهو الذي أعطى البلدة اسمه..

يعتقد أن “فيجة” كلمة يونانية أصلها “بجة” وتعني نبع الماء، وهو دليل على قدمها، والذي تم استعماله منذ أقدم العصور واتخذ مكاناً للعبادة. ومياه هذا العين تتفجر بغزارة مدهشة من كهف في أسفل الجبل ثم ترفد مياه نهر بردى بأكثر من نصف مياهه التي يحملها إلى دمشق..

((يتبع ..))

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى