رحلة في التاريخ : زيارة الإمبراطور غليوم الثاني وحيوية أهل الشام !

يخفي ضجيج الحرب، التي تدور حول مدينة دمشق عاصمة شرق المتوسط، هذه الأيام، يخفي قصصا جميلة وسارة وقصصا حزينة ومؤلمة، وفي الحالتين يمكن أن تعيدها الذاكرة القريبة والبعيدة لنتعرف عليها، أو يمكن أن تحييها من جديد ملامح الأمكنة التي نمر بها بين لحظة وأخرى، فالأمكنة كثيرا ما تكون مفاتيح لذاكرة الناس، وخاصة أولئك الذين يتمتعون بحيوية العقل ونشاط المعرفة التي تغذيهم خلال الحياة.

في سوق باب سريجة، تشعر بالاستياء من الضجيج، فهو سوق من أسواق دمشق الشعبية، تمر من خلاله مجموعات المتسوقين تبحث عن حاجيات الحياة اليومية من خضار وفواكه وأطعمة وألبان وأجبان وأشياء أخرى، وهذه الحركة التي تتم على مدار ساعات النهار تشكل عبئا على السكان، والمارة إلا أنها تخفي شيئا ما يخبئه المكان!

يذهب الزائر إلى نهاية هذا السوق، فإذا هو أمام خيارين، ولابد أن يذهب إلى أحد اتجاهين متعاكسين يشكلان بدورهما سوقين آخرين يرتبطان به .. وفي السوق الذي يتجه إلى باب الجابية، يمكن البحث في ثنايا الذاكرة الدمشقية عن مكان جميل .. مكان شهد واقعة من الوقائع الهامة في العلاقات الدولية التي كانت تهم المنطقة والمشرق العربي، وقد اختفى هذا المكان مع تغيير الأحوال والسكان ..

في القاطع السكاني الممتد من الحي الشرقي في سوق باب السريجة وصولا إلى حي القنوات ، كان ثمة قصر من قصور الشام يتصل بحديقة كبيرة لها قصة، وفي هذا القصر، يمكن التعرف على محطة من محطات زيارة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني إلى دمشق !

يعيدنا المكان الذي نحن فيه الآن بضجيجه وصخبه إلى منزل وجيه دمشق وصدرها أحمد باشا الشمعة، وهو شخصية دمشقية معروفة عاشت في نهاية القرن التاسع عشر..

عاش أحمد باشا الشمعة بين عامي ((1844 – 1915 )) ، فتربى في حجر والده سليم أفندي الشمعة, ثم قرأ وتعلم الأدب وأنواع الفنون, كما عملَ إدارياً في مجلس الولاية في السبعينات من القرن التاسع عشر ومنح لقب الباشا في تلك الفترة .

تولى الشمعة رئاسة مجلس إدارة ولاية دمشق، وكان بيته محجة للشعراء والعلماء والأدباء، وهذا ما أهله في عام 1898، ليشهد تلك الحكاية الجميلة عن زيارة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني إلى دمشق.

في حكاية الإمبراطور الألماني غليوم الثاني أو كما كان يسمى ويليام الثاني ، أنه عزم على زيارة دمشق من خلال جولة تاريخية للسلطنة العثمانية بناء على دعوة من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وعلى هذا الأساس بدأ أهل الشام الاستعداد لزيارة إمبراطورية في عصر كانت فيه المدينة تتبع لتلك السلطنة التي هيمنت عليها أكثر من أربعة عقود.

بدأت الترتيبات و التجهيزات لهذا الحدث الكبير في جميع أنحاء السلطنة العثمانية وفق المخطط الذي رسم للزيارة، وشملت الترتيبات ولاية الشام و و سنجق القدس و متصرفية لبنان، بناءا على الفرمان الصادر من الباب العالي للسلطان عبد الحميد .

في دمشق كانت الأسئلة ضرورية، لأن الاستعدادات لابد أن تليق بسمعة الشام وأهلها، فإلى أي مكان من أمكنة دمشق سيتجه الموكب الإمبراطوري، وإلى أي مكان ستتجه الإمبراطورة التي سترافقه، وأين سينامان خلال الزيارة ودعوة من سيلبيان ؟

أسئلة مهمة ، وكثيرا ما تفرض نفسها على هذا الصعيد، وقد أفرزت معطيات مهمة في حياة الدمشقيين، فقد استعد أحمد باشا الشمعة لاستضافة الإمبراطور في بيته، و نقرأ في شهادة للكاتب الدمشقي الراحل الشيخ علي الطنطاوي أن الشمعة بنى جناحاً لذلك، فيه قاعات كبيرة واستقدم له الثريات والفوانيس من أجمل الأنواع .. قيل أنها عشرة آلاف , كما بنى لذلك جناحاً خاصاً فيه قاعات كبيرة ، وله درج فخم..

ويقول الشيخ الطنطاوي : زرته، فوجدت القاعة تتسع لأكثر من عشرة ( طقوم كنبات ) و خبرني حفيده السيد / بديع الشمعة رحمه الله ، أنه لا يزال عندهم آلاف الفوانيس التي أعدها ، ليزين بها القصر و حدائقه ليلاً .

بمعنى ما ، أعاد أحمد باشا هيكلة بيته ليليق بمقام الزائر الكبير.. وهذا الكلام يعني أن ورشات كثيرة وأموالا ضخمة صرفت لتحقيق ما رسم للاستقبال .. لكن الامبراطور غليوم الثاني .. لم ينم في بيت الشمعة، فما هي القصة ؟

في وقائع القصة كما ترويها المراجع السورية الحديثة أن خلافا وقع بين صدر دمشق أحمد باشا الشمعة وبين أمير الحج الوجيه الكبير عبد الرحمن باشا اليوسف حول أحقية كل منهما لاستضافة الإمبراطور، وهذا ما جعل والي الشام حسين ناظم باشا يقرر استضافة الإمبراطور في فندق دمشق ( داماسكوس بلاس ) منعاً للخلاف .

ضاعت الفرصة على بيت الشمعة ، فالضيف سينام في الفندق، وهكذا كان .. لكن في القصة تتمة، فعلى فوره تحرك والي الشام المصلح حسين ناظم باشا وقام بإجراءات التحضيرات لهذه الزيارة خاصة أن زوجة الإمبراطور ستكون برفقته، ونقرأ في التاريخ :

((أسرع الوالي ناظم باشا لهدم السجن المركزي و مهد الأرض و سوّاها، فصار المكان مكانا فسيحا للاستقبال الإمبراطور، وهدم مبنى سراي البوليس و أنشأ مكانها مبنى ضخم جعله مجمعا تجاريا ومسرحا و سينما و مقهى رفيع المستوى.

لقد تغير كل شيء، صارت تفاصيل المدينة أحلى ، وصارت الأمكنة الجديدة فيها إضافة جديدة لهويتها الثقافية والمعمارية ، في حقب هامة من حقب التاريخ القريب .. ويذكر المهندس الدكتور طلال العقيلي في دراسة هامة له حول هذه الزيارة ، أن إمبراطور ألمانيا ، عندما زار دمشق، أقيم له حفل استقبال ضخم جداً في ساحة المرجة وساحة المرجة واحدة من ساحات دمشق الكثيرة، ولكنها إلى الآن تشكل وسط المدينة ، ومفتاحها تاريخها المعماري في القرون الأخيرة ..

زينت ساحة و أبنية المرجة كلها بالمصابيح و الأعلام، وقدر عدد مصابيح الزيت المتقدة في تلك الليلة بمليون مصباح ، و 50 ألف شمعة. وغرقت الساحة بالأضواء ، وغصت بالسكان والمستقبلين، فأي مهرجان سيشهده الناس وتحكي عنه الحكايات ..

امتطي الإمبراطور غليوم الثاني في شوارع دمشق عربة مجللة بالذهب الخالص .. تجرها أربعة أحصنة .. وخلفها مركبة زوجته .. ومائة مركبة أخري للحاشية ..كان الإمبراطور يتزنر بحزامه الذهبي ، وقد علقت على صدره نياشين كثيرة، وأطلق شاربيه المعقوفين يحيي أهل دمشق برجولة وعنفوان، فيما كانت الإمبراطورة إلى جانبه أنيقة جميلة ترتدي أثواب الحرير وتغطي عنقها وساعديها بالذهب الخالص ..

في ساحة المرجة تلك تجمع ألوف السوريين لمشاهدة الاستقبال الإمبراطوري ، تجمع الكبار والصغار ومن شتى أنحاء المدينة والقرى القريبة لمشاهدة أجمل حدث تاريخي يمكن أن يشاهدوه في تاريخهم ..

قدمت التحية للإمبراطور الألماني في الساحة المشيرية ، وسار موكبه باتجاه المسجد الأموي حيث تجمع السوريون من حوله لملاقاته، وفي المسجد الأموي كانت الإمبراطورة ترتدي ملابس تليق بالمكان الذي تدخله مع زوجها ليسجل التاريخ حدثا على غاية الأهمية من الأحداث الكثيرة التي شهدها هذا المسجد الكبير ..

لم تذهب استعدادات أحمد باشا الشمعة هباء ، فقد رويَ أن الإمبراطور تناول الغذاء في قصر الشمعة داخل قاعة الطعام وسط الحديقة الواسعة للقصر، أي أن الإمبراطور تلمس شيئا مما أعدته له واحدة من بيوتات دمشق وأثريائها..

فرشت المنطقة الممتدة بين سوق الحميدية وباب سريجة بالسجاد، وفرش الطريق بالسجاد يحمل معاني التكريم والاحترام وينال في الذاكرة الوطنية معاني كبيرة تتعلق بقيمة الزائر.

كان ذلك استعدادا لوصول الإمبراطور إلى بيت الشمعة. ولهذا البيت/ القصر أبواب عدة وقد أحاط به من كل الجهات خمسة بيوت لاخوة أحمد باشا الخمسة, بحيث يقابل كل باب للقصر باباً لبيت آل الشمعة ..

كان الإمبراطور وفيا لمدينة دمشق عكس ما يفعل زعماء العالم في هذه الأيام، فقد كتب غليوم الثاني إلي أحد الأمراء الألمان يصف استقباله في دمشق بالقول:

إن استقبالي في دمشق كان باهراً ومدهشاً… وتمنيت لو أخذ عن دمشق كيف تستقبل الملوك!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى