عن هزيمة حزيران وإنكار فلسطين وصفقة القرن [2]

رأينا في العرض السابق أن معظم أراضي فلسطين التي لم تتقاسمها أنظمة سايكس ــ بيكو مع العدو الصهيوني قد وقعت تحت سلطتين متآمرتين على فلسطين وشعبها، هما نظاما عمّان ومصر الملكية. وبينما طمس الأول اسم فلسطين من خريطة الإقليم، تنفيذاً للمؤامرة الأعرابية ــ الصهيونية المدعومة من رأس الأفعى حينئذ، أي داونينغ ستريت، وضعت مصر الملكية «حصتها» من فلسطين تحت الحكم العسكري المباشر (وسنعود إلى ذلك في عرض خاص ضمن منبر «كلمات»)، واستمر الوضع كما هو إلى ما بعد ثورة يوليو 1952.

القاهرة أطلقت على تلك الأراضي اسم فلسطين، وأصدرت طوابع بريدية لا أكثر. بعد ثورة 1952 دعمت العمل الفدائي المنطلق من غزة رداً على الاعتداءات الصهيونية المتكررة، لكن مخابراتها كانت مهيمنة على مجالات الحياة كافة في «القطاع». وثمة أمر خطير يُسكَت عنه سكوتاً مريباً ومتواطئاً، هو اتفاق مصر «الثورة» مع العدو الصهيوني على ترسيم جديد لخطوط الهدنة، وفق الرواية الآتية: مساحة قطاع غزة كانت حتى عام 1950، 565 كلم مربعاً. كيان العدو شكا مراراً من سماح مصر للفلسطينيين في القطاع بعبور الحدود إما للعودة إلى ديارهم، أو لجلب بعض ممتلكاتهم من بيوتهم وبلداتهم ومدنهم التي أجبرهم العدو الصهيوني وعرب سايكس بيكو على مغادرتها، أو لمهاجمة المستوطنين الصهاينة. ردّ مصر كان دخولها في مفاوضات مع كيان العدو عبر حاكمها العسكري آنذاك الجنرال محمود رياض. المفاوضات بين الطرفين جرت في منطقة العوجا، وقادت إلى اتفاق بينهما عرف باسم «اتفاق العوجا» تنازلت مصر بموجبه عن 200 كلم مربع على امتداد القطاع، شمالاً وجنوباً، أي ما مقداره ربع مساحة «القطاع». لكن ذلك لم يكن سوى واحد من التنازلات المهينة التي قدّمها بعض العرب والأعراب، لكن هذا موضوع آخر.

سقط قطاع غزة في عام 1956 إبان العدوان الثلاثي، حيث أعمل العدو في أهله مذابح لا حصر لها. خفايا انسحاب العدو الصهيوني من سيناء ومن القطاع بعد العدوان غير متوافرة على نحو موثق، لكن أحدها المثبت كان وقف العمل الفدائي عبر القطاع، إضافة إلى منح العدو حق المرور في مضيق تيران، ووضع قوات دولية على الحدود (لحماية الكيان الصهيوني لا لحماية مصر كما رأينا عام 1967).

المشكلة هنا أن القاهرة شخّصت جوهر المشكلة تشخيصاً صحيحاً، أي أصل البلاء يكمن في كيان العدو الصهيوني، لكنها قدمت علاجاً قاتلاً. الواجب وقتها إقالة المشير عبد الحكيم عامر وجماعته من قادة الهزائم السابقة واللاحقة (حرب الرمال بالجزائر، الانفصال في سوريا، حرب اليمن)؛ مهادنة العدو وتقديم التنازل تلو الآخر لم يؤدّيا إلا إلى المزيد من الهزائم.

المهم هنا أن تكبيل الأنظمة العربية للشعب الفلسطيني كان شبه كامل إذا لم تتوافر حرية العمل الفدائي ضد كيان العدو إلا من سورية. المدافع نحو العدو صمتت إلا من جبهة سورية وجنوبي لبنان عبر «فرع فلسطين» في المخابرات السورية التي كانت برئاسة عبد الحميد السراج.

بالعودة إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، لم يتم بتفويض من مؤتمر القمة كما يشاع، إذ إن الأخير كلف أحمد الشقيري الذي اختار العمل مع رفاقه من القوميين العروبيين وأجرى اتصالات لتأسيس كيان فلسطيني في المنفى. يقال إن المبادرة إلى تأسيس منظمة التحرير كان بإيحاء من واشنطن للرئيس جمال عبد الناصر «تسوية مشكلة فلسطين [الحدودية] تتطلب وجود طرف فلسطيني مؤهل للتفاوض مع إسرائيل». أحمد الشقيري كان مستقلاً في عمله ورفض الانصياع لقيادة القاهرة، فأُقيل على نحو مهين، بعدما فضح مقررات قمة الخرطوم التي قررت تحويل الصراع على فلسطين إلى صراع حدودي، واستبدال «إزالة آثار العدوان» بتحرير فلسطين. وأتت القاهرة والرياض المسلحة بالبترودولار الفاسد والمفسد، بقيادة جديدة، هي الزعامة التي تسلمت المنظمة بعد رحيل رئيسها المؤسس في 25 كانون الأول 1967 ورفاقه. هنا وجب تذكّر حقيقة أن حركة القوميين العرب، التي كانت من التنظيمات المنخرطة في العمل العسكري ضد العدو الصهيوني قبل عام 1965، أعلنت وقف دعمها لمصر عبد الناصر بعدما تبيّن لها ابتعاده عن قضية فلسطين. يحيى حمودة تسلّم رئاسة اللجنة التنفيذية صورياً، إذ إن الكلمة كانت للتنظيمات، وعلى رأسها فتح المدعومة بالبترودولار السعودي. الزعامة الفلسطينية الجديدة بقيادة حركة فتح، ذات الفكر الإقليمي الفلسطيني لا العروبي، لم تنتظر طويلاً حتى بدأت بتقديم التنازلات للعدو التي نرى ونعايش إلى أين أوصلتنا.

لنأخذ تصريح منسوب إلى يحيى حمودة، الذي لم يكن سوى بوق لزعامة فتح الخاضعة لأوامر القاهرة والرياض، لنعرف بداية التنازلات التي فرضتها القاهرة، بالتنسيق مع الرياض: «يجب مواجهة الأمور وعدم المطالبة بالمستحيل، نحن نقول لليهود حتى الذين أتوا إلى فلسطين بعد 1948: تريدون السلام والتعايش حقاً؟ تحرروا من الصهيونية كحركة سياسية وعقيدة متزمتة عنصرية ودينية، واقبلوا أن تعيشوا مع العرب في دولة فلسطينية، يهودية – عربية حيث يكون لكل فئة حصتها، حسب استحقاقها وحقوقها… كل شيء ممكن، إذا رفض يهود إسرائيل التخلي عن الصهيونية، علينا أن نقتسم فلسطين حسب العدالة والحق، والمعروف أن قسماً من فلسطين كان دائماً للعرب، في هذا الجزء عاش أجدادنا وماتوا ودُفنوا. هذا الجزء هو وطننا وتراثنا الروحي والثقافي، وهو منازلنا وأراضينا وتجارتنا. لم يكن يحق لأحد أن يسلبنا هذه الأملاك التي هي جزء منا، ليعطيها لشعبٍ يبحث عن وطن، لأن اليهود كانوا ضحية الاضطهاد النازي. لقد تمَّ كل شيء الآن ومن السخف أن نطلب من اليهود العودة إلى وطنهم الأصلي. إذا أرادوا البقاء في فلسطين بغير التخلي عن الصهيونية، فليحتلوا الأجزاء من فلسطين التي لم تكن مستغلة قبل 1948، وليردُّوا إلينا الأجزاء التي سلبوها للعرب، وإلّا فسيكون الصراع الدائم مهما كانت النتائج. صدّقني أنا ديمقراطي حتى العظم، ومؤيد حقيقي للسلام…».

(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى