«الشرعية» والعسكر والأيديولوجيا الانقلابية (مهند مبيضين)

 

مهند مبيضين

يُعيد الراهن العربي ضرورة قراءة مواقف العسكر من الإصلاح، ويُحتم ضرورة تتبع تطور العلاقة بين الجيش والسلطة، في لحظة يرتفع فيها الصوت لإصلاح الدولة العربية التي بدت بعد أكثر من ستة عقود على أول انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة، أسيرة الاستبداد الذي خلفته وعود العسكر ذاتهم عندما وصلوا إلى السلطة، وكذلك عانى الشعب الإقصاء عندما جاءه الإسلاميون، الذين رغبوا بالحرية لهم، وأبوها على غيرهم، حدث هذا في السودان كأول مشروع دولة إسلامية وذوت، ثم مع تجربة «إخوان» مصر حين استأثروا بالسلطة، وقد تتلوها تجارب أخرى!
أول انقلاب شهدته المنطقة هو الثورة الدستورية التي قادها علماء إيران ما بين عامي 1905 و1906. وهي ثورة ضد السلطة الشاهنشاهية القاجارية المستبدة، لكنها للأسف انتهت بإيران إلى ولاية الفقيه كنهج مستبد ومغلق للحكم، ثمّ تجدد الاستبداد فيها بعد ثورة الملالي عام 1979.
الانقلاب الثاني في المنطقة جاء تركياً عام 1908 وكان موجهاً ضد الاستبداد الحميدي في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، وكان أحد رجال هذه المرحلة مصطفى كمال أتاتورك الذي عمل ضد عبدالحميد الثاني في خلية «الوطن والحرية لمحاربة استبداد السلطان»، وبعد أن تدرب عسكرياً وحارب ضد إيطاليا في ليبيا 1911 – 1912، وقاد حرب التحرير التركية في الحرب العالمية الأولى في مضيق الدردنيل، أعلن من أنقرة عام 1921 قيام جمهورية تركية قومية على النمط الأوروبي الحديث. وفي الثالث من آذار (مارس) 1924 طرد الخليفة العثماني وأسرته وألغى نظام الأوقاف والمحاكم الشرعية والتعليم الديني، منهياً بذلك العلاقة بين الخلافة والدولة الحديثة، ومؤسساً لدور الجيش الوازن لحفظ علمانية الدولة، وهو ما جعله يستحق لقب «أبو الأتراك».
أما عربياً، فقد توالت الانقلابات منذ مشروع الفريق أول بكر صدقي في العراق بالانقلاب على حكومة ياسين الهاشمي في شباط (فبراير) 1937، والذي فشل بسبب وقوف بريطانيا ضده، ثم في محاولة عبدالله الزبير في اليمن عام 1948، والتي فشلت، لكنها مهدت لأول حدث انقلابي في آذار 1949، تلته انتخابات فاز بها قائد الانقلاب بنسبة 99.99 في المئة وكان ذلك براءة اختراع حسني الزعيم في سورية الثورية التقدمية في ما بعد.
وسورية كانت الدرس الأول، فالزعيم لم يمضِ سوى ستة شهور، وفتح الباب مشرعا على انقلابات توالت منذ انقلاب سامي الحناوي في آب (أغسطس) 1949 وبعد أربع شهور أي في كانون الأول (ديسمبر) 1949 خرج البيان الأول للعقيد أديب الشيشكلي يقول فيه: «ثبت لدى الجيش أن رئيس الأركان العامة اللواء سامي الحناوي وعديله السيد أسعد طلس، وبعض ممتهني السياسة في البلاد، يتآمرون على سلامة الجيش وسلامة البلاد ونظامها الجمهوري مع بعض الجهات الأجنبية».
وفي 25 شباط 1954 قام الرئيس هاشم الأتاسي الملقب «أبو الجهمورية» بالانقلاب العسكري الرابع الذي أعاده إلى الحكم، وفرّ الشيشكلي إلى بيروت. ثم توالت على سورية الانقلابات وسيطرة الضباط منذ انقلاب البعث في الثامن من آذار 1963 وصولاً إلى الحركة التصحيحية ليثبت حافظ الأسد في 12 آذار 1971 أول رئيس علوي في التاريخ لدولة سورية.
لم يدم الانتظار طويلاً، فكانت مصر على موعد مع الانقلاب والثورة الأكثر حضوراً في الوعي العربي المعاصر، وكان ذلك في 23 تموز (يوليو) 1952، ولم يغفل بيان الثوار بصوت محمد أنور السادات أن يؤكد دور الجيش الحامي للدستور والدعوة إلى عدم اللجوء لأعمال العنف والتخريب.
الأمر نفسه تكرر، أراد اللواء محمد نجيب قائد الحركة الثورية تطهير الجيش من الفساد والفاسدين والتأسيس لانتقال سلمي لإدارة مدنية، ومع أن دوره كان محورياً في انتصار الثورة وهو سر نجاحها، إلا أن رفاقه من الضباط الأحرار في مجلس قيادة الثورة عزلوه ووضعوه في الإقامة الجبرية، وتولى مكانه البيكباشي جمال عبدالناصر، لينتقل بمصر من الملكية إلى الجمهورية العسكرية الإقطاعية التي صدمت بفشل تجربة الوحدة وتورطت بحرب اليمن ثم بهزيمة 1967، لكن عبدالناصر لم يكن بالسوء الذي مثله أقرانه من قادة الانقلابات العربية كالقذافي أو عمر البشير.
وفيما اختلف عن هؤلاء العقيد علي عبدالله صالح الذي لم يكن دموياً في مرحلة الخروج من السلطة، مع أنه بدأ الحكم بإعدام ثلاثين ضابطاً اتهموا بمحاولة الانقلاب عليه في آب 1978، إلا أنه شابه أقرانه العسكر في النتائج التي حققها، فترك السلطة ونسبة 45 في المئة من السكان تحت خط الفقر وأكثر من 35 في المئة متعطلون من العمل، والاقتصاد متهاوٍ مع الفشل في جذب الاستثمار ونمو الأمية، أي أنه لم يحقق من الوعود التقدمية الشيء الكثير بعد ثلاثين سنة من الحكم 1978 – 2012 في بلد تتوطد فيه القبائلية والانقسام في شكل يحول دون أي تقدم.
في الأردن قامت محاولات انقلابية أيضاً نهاية منتصف الخمسينات من القرن الماضي، ضد نظام الملك الحسين، ومن أهمها محاولة الضباط الأحرار ومنها حركة الضابط علي أبو نوار في 12 كانون الأول 1957 وحركة الضابط محمود الروسان في 20 حزيران (يونيو) 1958 ثم محاولة اللواء صادق الشرع في 14 أيار (مايو) 1959، وجميعها انتهت بالفشل، وكانت متأثرة بالمدّ القومي واليساري في المنطقة والذي أعقب ثورة 1953 في مصر.
قوائم الانقلابات تطول، ويطول سرد تاريخها وتفاصيلها ونتائجها، وكان آخرها بالمعنى الانقلابي هو انقلاب 2008 في موريتانيا عام 2008 حين أطاح الجنرال محمد ولد عبدالعزيز الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله. لكن الوحيد الذي التزم بموعد زمني لترك السلطة هو علي ولد محمد فال الذي انقلب على الرئيس معاوية ولد سيدي طايع عام 2005 والذي نفذ ما أعلنه يوم نجح انقلابه حين أعلن أنه سيسلم السلطة لرئيس منتخب بعد عامين من الانقلاب في ما أسماه بالفترة الانتقالية. وبالفعل سلم ولد فال السلطة بعد أقل من عامين إلى رئيس منتخب.
إلا أن الثابت اليوم أن الديموقراطية لم تكن هاجساً وهدفاً عند العسكر بالمعنى العملي، فخلال كل تلك الانقلابات التي قبلها الجمهور العربي كفعل تغييري إصلاحي، ورضي بها وبهمها، وكان ينتظر منها أن تُقيم له دولة العدالة والتنمية، ووصولاً إلى الراهن المصري في 25 كانون الثاني 2011 وحتى 30 حزيران 2013 كان هناك حديث عن الشرعية، سواء الثورية أم الشعبية أم الدستورية، حتى أضحت الشرعية مجرد مقولة، تهاوت أمام فشل الأنظمة والقادة في الوصول إلى مبدأ الجمهورية، فصارت مقولة الشرعيّة استهلاكاً سياسياً لكل من همّ في السلطة أو من يسعون لتقويضها أو إعادتها للشعب مجدداً.
ولنتذكر أن زمن الانقلابات العسكرية شهد محاولات جادة من مفكرين عرب أمثال نديم البيطار في كتابة «الأيديولوجيا الانقلابية» الذي صدر عام 1964، ثم عبدالله العروي في «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» الصادر عام 1965 والمترجم 1970، لشرح أسباب التخلف وإرساء مفاهيم العقلانية التي يمكن أن تعيد صوغ الواقع العربي الذي شهد كل تلك الانقلابات ولم يشهد نصراً واحداً، وكان قد تدثر بالنكبة ثم بالنكسة، وكانت النكسة عنوان النقد والبحث عن أسباب التأخر.
أراد نديم البيطار أن يُظهر أن الممكن من الحال الانقلابية هو استخراج القوانين المتحكمة في ظاهرة الثورات الاجتماعية في تاريخ العالم، ثم في كتابه الفعالية الثورية فالكتاب الصادر عام 1965 قال إن النكبة بينت علاقة موضوعية بين الثورة والهزائم العسكرية والأزمات الكبرى.
أما عبدالله العروي ففي معرض كلامه عن تشخيص أسباب التأخر وتفوق الشيخ المعمم على الليبرالي وداعية التقنية، وهو ما قاد إلى النكبة، فقد مارس نقداً في مقدمته للنسخة المترجمة والتي صدرت بعد النكسة بثلاثة أعوام على الأيديولوجيا التي أدت إلى الانكسار، وتولى التنظير لمسألة الدولة الحديثة. وحاول أن ينظر إلى معنى التاريخ في الثقافة العربية ومدى حضور العقلانية والموضوعية في الفكر العربي وشكلها، وجزم بأن العقل العربي لم يستوعب مكاسب العقل الحديث.
وقسم العروي الوطن العربي إلى شطرين: محافظ مغلق، ومنفتح واثب على الأفكار الغربية، وبرأيه فإن الشطر المحافظ «هو المتفوق الآن».
هذه المحاولات النقدية التي عاصرت الحركات والمحاولات الانقلابية العسكرية العربية، والهزائم والنكبات وفشل دولة الوحدة، مهّدت السبيل لتفوق الإسلام السياسي الذي يحضر اليوم في شكل ضاغط، يرى أتباعه أنه حل مفروض من علٍ لتطبيق حكم الله، وهذا الحل الذي فشل، جعل الناس في مصر يخرجون في مصر ضده، بعدما بشّر بوعود سحرية.
فما الذي جعل أهل مصر يخرجون ضد الرئيس محمد مرسي ويطلبون تدخل الجيش؟ يشير كُتّاب علم السلطة المعاصرون إلى أن أي سلطة إنسانية هي عُرضة للتقهقر، وتنطوي ممارساتها على عنصر الخطورة، وهناك إمكانية أن تقاوم على الدوام ممن هم خاضعون لها، أما قدامى منظري السلطة أمثال جان جاك روسو فأشاروا إلى أن القوي ليس قوياً بما يكفي حتى يظل سيداً باستمرار، ما لم يحوّل قوته إلى حق والطاعة إلى واجب اعتراف بعدالة حكمه.
صحيح أن الطاعة عند منظري السلطة انتهت كرابط يحكم علاقة الأفراد بالحكم المعاصر، والحكم مع أنه يعيش على فكرة الطاعة، إلا أن المواطنة تمنح الحكم الاعتراف به وليس قبول طاعته هو الغاية، أما السلطة الثورية ومقولات الشرعية الثورية فلا قيمة لها مع تبدد الحلم الثوري بالعدالة في ظل الاستحواذ على القرار والهيمنة عليه.
دولة «الإخوان» في مصر، كانت محاولة لفرض نظام شمولي جديد يشابه نظام الملالي في إيران. إذ عاد المكبوت وعادت الأسئلة التي جعلت المصريين كمجتمع يظهرون أكثر من مجرد ثوار ساحات وميادين، بمقدار ما يمثلون مجتمعاً يرفض الاستحواذ على السلطة بالشكل الذي عمل لأجله «إخوان» مصر، أو بالشكل الذي أداروا به الدولة، أو بطريقة الخطاب الذي يتبنونه من أجل الحكم، أو حتى في تكوين فكرة أنصار الثورة وحمايتها والتعلق بحماها كما تظهر لافتات الميادين في رابعة العدوية وغيرها، فهناك ثقة تبخرت ومخاوف نمت على الدولة برمتها، وفي الثورة المصرية اليوم، تشكل عودة النداء إلى الجيش للتدخل في السياسية وينقذ الدولة وليس الثورة، ليعيد دور الجيوش في السياسة من جديد.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى