«الهجوم» الروسي المضاد من البوابة السورية إلى الحلبة المصرية ( رائد جبر)

 

 رائد جبر

يتفق خبراء على أن أحداث العام 2013 منحت مسار العودة الروسية إلى منطقة الشرق الأوسط دفعة قوية. ويذهب بعضهم إلى المبالغة في وصف المشهد، والحديث عن تمكن «الدُّب الروسي» من تكريس حال كسر الأحادية القطبية والشروع في التبشير بعالم جديد متعدد الأقطاب. ولا يتردد محللون في اعتبار أن أبرز التحولات التي شهدها العام 2013 تمثَّل في نجاح الكرملين في تعزيز مشروعه القائم على طي صفحة حال الانكفاء والتبعية غالباً، والتي برزت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والشروع في إطلاق مرحلة جديدة، تهيأت الظروف المواتية لها تدريجياً على مدى سنوات. ولكن، هل عادت روسيا بالفعل إلى منطقة الشرق الأوسط كلاعب أساسي يتحكم بمفاتيح تسوية ملفات حيوية؟
بذلت موسكو في 2013 جهداً ملحوظاً لوضع أسس واضحة لسياستها في الشرق الأوسط، وتولت تنشيط مراكز البحوث والدراسات لبلورة رؤية استراتيجية شاملة، تستند إليها السياسة الخارجية الروسية في المرحلة المقبلة.
كان المأخذ الأساس على العقيدة الديبلوماسية الروسية في الشرق الأوسط على مدى سنوات، أنها لم تنجح في صوغ تلك الرؤية، لكن الأحداث الساخنة في المنطقة، دفعت إلى تسريع وتيرة الجهود المبذولة في 2013.
والأكيد أن مجريات هذه السنة كانت حاسمة لجهة بروز الدور الروسي في المنطقة في شكل مختلف، لم يقتصر كما شهدت الأحداث خلال السنوات الأخيرة، على عرقلة تحرك المجتمع الدولي حيال الملف السوري أو الإيراني، وإنما تحوّل إلى عنصر فاعل في ايجاد آليات عملية للتحرك على أكثر من صعيد. وبين اجتماعي مجموعة الثماني في حزيران (يونيو) ومجموعة العشرين في أيلول (سبتمبر) بدا أن الديبلوماسية الروسية نجحت في التقاط زمام المبادرة أكثر من مرة، والتحرك بقوة للمشاركة في رسم ملامح اتفاقات رئيسة ستكون لها آثار مهمة في تسوية ملفات عالقة في المنطقة، مثل الاتفاق «النووي» الإيراني أو اتفاق تدمير الترسانة الكيماوية السورية، ودفع جهود التحضير لاجتماع «جنيف2» المتوقع عقده في 22 كانون الثاني (يناير) المقبل.
وعززت موسكو «هجومها» لاستعادة المواقع عبر البوابة المصرية أيضاً، بعدما التقطت لحظة مواتية وأرسلت وزيري الخارجية والدفاع إلى القاهرة، في زيارة نادرة بالنسبة إلى العلاقات بين البلدين منذ عقود، وبدأت النتائج تتضح بعد الحديث عن صفقة سلاح تعدّ سابقة منذ سنوات طويلة، تصل قيمتها إلى نحو بليوني دولار.
كما شهدت الأروقة الديبلوماسية نشاطاً محموماً تمثَّل في لقاءات وزيارات مكوكية للمبعوثين الروس إلى المنطقة، وعكست طبيعة زيارات مسؤولين في غالبية بلدان الشرق الأوسط لموسكو ومستواها، ثقة بأن الكرملين نجح في تحويل روسيا إلى شريك فاعل في صنع القرار الدولي. حتى البلدان التي اختلفت مع موسكو حيال ملفات، اتجهت نحو فتح حوار نشط معها، مثل تركيا والسعودية.
وقد يكون أبرز تجليات العام 2013 على هذا الصعيد، اتساع المناورات الديبلوماسية الروسية التي دخلت من بوابة الأزمة السورية، لتشمل ملفات اقليمية، مع الحفاظ على الحضور الأكبر في الملف السوري، لأنه يحظى بأهمية خاصة ويشكل الحجر الأساس الآن في السياسة الروسية في المنطقة.
وقبل تقويم الموقف الروسي في الشرق الأوسط، من وجهة نظر خبراء روس يلعبون أدواراً بارزة في تقديم المشورة لصناع القرار، لا بد من التوقف عند «الإنجاز» الروسي الأكبر في هذه السنة، والذي اعتُبِر «أهم انتصار لروسيا منذ عقود» كما وصفه بعضهم، والمقصود اتفاق تدمير الترسانة الكيماوية السورية.
وُظِّف الحدث في روسيا على نطاق واسع اعلامياً وسياسياً، باعتبار ان موسكو نجحت في منع حرب كانت حتمية وجنّبت المنطقة ويلات انفجار واسع كان وشيكاً.
ويرى ديبلوماسيون روس أن هذا الاتفاق شكّل نقطة التحول الأبرز، إذ أعاد المسألة السورية برمتها إلى مسار الحل السياسي، بما في ذلك على صعيد شكل الاتفاق النهائي الذي يتطلع صنّاع السياسة الروس إلى صوغه عبر مؤتمر «جنيف2»، والأهم أن الاتفاق ساهم في بلورة موقف يعزز فرص إعادة تأهيل النظام السوري، بصفته طرفاً في الحل المقبل.
وخلافاً لوجهة النظر القائلة أن «المبادرة» الروسية لقيت قبولاً سريعاً من واشنطن، لأنها وضعت سُلَّماً للرئيس باراك اوباما للنزول من أعلى الشجرة، فحفظت بذلك ماء وجهه، يرى خبراء في روسيا أن المبادرة لم تكن وليدة لحظتها ولم تأتِ عفوية وبفعل «التقاط زلة لسان» وقع فيها وزير الخارجية الأميركي جون كيري عندما تحدث عن ضرورة أن يسلّم الرئيس بشار الأسد سلاحه الكيماوي ليتجنّب ضربة عسكرية، بل تمّ التحضير لها جيداً وعلى مراحل.
يشير خبراء إلى أن النقاش الروسي- الأميركي حول ضرورة التخلص في شكل نهائي من المخزون الكيماوي السوري، بدأ قبل ذلك بسنة كاملة، واتفق الطرفان في البداية على أهمية مراقبة هذا السلاح ومنع استخدامه تمهيداً لإيجاد فرصة سانحة لفرض سيطرة كاملة عليه. وعلى رغم أن حديث الرئيسين اوباما وفلاديمير بوتين خلال لقاء دام عشرين دقيقة على هامش قمة مجموعة العشرين في سان بطرسبورغ، في 6 أيلول (سبتمبر) كان متوتراً بسبب إلغاء قمة رسمية كانت مقررة، وبسبب إعلان واشنطن نيتها توجيه ضربة لسورية، توصل الطرفان إلى تفاهم خلال الحديث، بأن الوقت حان لوضع الترسانة السورية تحت الرقابة الدولية. وكان أوباما أول من أطلق إشارة قبل وزير خارجيته بأيام، تشي باستعداده للتعامل مع مبادرة سياسية، عندما قال من على منبر قمة مجموعة العشرين إنه لا يرى مبادرات سياسية مطروحة على الطاولة، ويمكن ان تشكل بديلاً عن معاقبة النظام السوري عسكرياً.
وأعربت مصادر روسية عن اقتناعها بأن موسكو ناقشت مع واشنطن ليس فرض رقابة على السلاح الكيماوي فحسب، بل كذلك تدميره تماماً في مرحلة لاحقة، وذلك قبل مجزرة «الغوطتين»، وأن الجانب الإيراني اطلع على الأمر.
ولا يخفي بعضهم أن المبادرة «الكيماوية» هدفت بالدرجة الأولى إلى انقاذ الموقف الروسي، إذ أن موسكو عندما شعرت بجدية التوجه الأميركي لتوجيه ضربة إلى سورية باتت مقتنعة بأنها ستخسر كل أوراق الضغط التي تملكها في الملف السوري دفعة واحدة، مجلس الأمن باعتبار أن الضربة تأتي من دون موافقته، والنظام الذي ترى موسكو أنه كان هشاً، قابلاً للانكسار مهما كانت محدودية الضربة، ما سيسبب ضرراً فادحاً لمكانة روسيا وسمعتها، لأنها ستبدو في موقف العاجز عن حماية حلفائه.
بعبارة أخرى كانت الديبلوماسية الروسية عشية الحرب المحتملة تشهد مرحلة حرجة.
وجاءت المبادرة لتنقذ روسيا، يقول خبراء، وفتحت آفاقاً أمام الكرملين لتعزيز صورتها بصفتها محامياً مدافعاً عن القانون الدولي، وعن الاستقرار والسلام ومبادئ عدم التدخل في شؤون الدول وعدم فرض أجندات من الخارج.
رئيس مجلس السياسة الخارجية والأمن فيودور لوكيانوف يرى أن موسكو استفادت كثيراً من حال الارتباك الغربي والتردد، وأن الغرب تقبّل الدور الروسي الناهض لأنه لم يكن راغباً في التورط بالمنطقة، ولأنه يزداد اقتناعاً بأن المعارضة السورية أضعف من أن تواجه الفوضى المحتملة في حال سقوط النظام، كما أن نظام الرئيس بشار الأسد بدا أكثر تماسكاً مما كان الغرب يظن.
ويعتبر خبير مقرّب من الكرملين، أن موسكو نجحت في تقديم صورة «الحليف الذي يسير على خط ثابت طوال الوقت»، بصرف النظر عن تقويم هذا الخط سلباً أو إيجاباً.
ولا يستبعد ان يبقى صوت موسكو مسموعاً لسنوات مقبلة في رسم ملامح المنطقة، وتسوية ملفاتها الاقليمية، باعتبار أن الشرق الأوسط «دخل مرحلة طويلة من الاضطرابات التي تقود إلى عملية إعادة بناء شاملة، قد تستغرق عقدين على الأقل وستطاول كل المنطقة».
بهذا المعنى يجيب لوكيانوف بنعم على السؤال الأبرز: هل تشكل عودة روسيا القوية مقدّمة للبقاء طويلاً؟ ويضيف: «روسيا تعمل كل ما بإمكانها من أجل بقاء طويل الأمد»، لكنه يستدرك أن «لا روسيا ولا الغرب يعرفان سلفاً شكل الشرق الأوسط الجديد» ما يعني أن حسابات الكرملين قد تخطئ وقد يخسر على المدى البعيد، لكنه يتقدم الآن.
ويعترف خبراء كثيرون في روسيا بينهم لوكيانوف بأن هذا لا يعني أن تشغل روسيا مكان الولايات المتحدة، فهي «لا تريد ذلك، وليست قادرة عليه»، على رغم أن الفراغ الذي بدأ ينشأ في المنطقة يبدو مغرياً لبلدان مثل روسيا والصين.
وهكذا، تبدو الرؤية الروسية حالياً قائمة على مرتكزات أساسية: أولاً روسيا تكسب مكانة متعاظمة وسمعة جديدة، عبر مواجهتها «أخطاء الآخرين» بنظرية تستند إلى العودة إلى القانون الدولي والحفاظ على مبادئ السيادة، وهي أمور أقل ضرراً من السياسات الغربية التي قادت إلى مشكلات جدّية للمنطقة.
ثانياً: لا تخشى روسيا كثيراً فقدان أنظمة صديقة، لأن التجربة دلت إلى أن التعاون معها سيبقى ضمن دائرة اهتمام الجزء الأكبر من بلدان المنطقة. والمثال العراقي واضح، إذ استعادت روسيا بعد قطيعة كاملة مع العراق لسنوات، بعد الحرب، كل عقودها تقريباً في هذا البلد، وعادت شركاتها الكبرى للعمل في مشاريع بنى تحتية، كما ان بغداد عاودت طلب سلاح روسي.
الأمر ذاته ينسحب على مصر، وعلى بلدان باتت ترغب اكثر في الاقتراب من روسيا على رغم عدم وجود علاقات تعاون تاريخية.
ثالثاً: روسيا مقتنعة بضرورة مواجهة التطرف الإسلامي في المنطقة، وعدم انتظار انعكاساته عندها، وكلما كان تأثيرها أقوى في الشرق الأوسط ستكون أكثر قدرة على فهم الوضع والتعامل معه، وكلما ازداد التطرف في المنطقة ستكون خسائرها الداخلية أعلى ثمناً.
تفسِّر تلك النقاط آليات التحرك الروسي الحالي، لكن الخبراء يسارعون إلى التحذير من فهم هذا التوجه باعتباره يقود إلى «حرب باردة جديدة»، ويفضلون استخدام كلمة «تنافس» على «المواجهة». ويضاف تعريف جديد لروسيا كبلد محافظ، وهو تعبير أطلقه بوتين أخيراً، ولم يسبق أن استخدمه منذ وصل إلى السلطة عام 2000.
وبذلك تكون روسيا «الجديدة» اختارت هويتها وايديولوجيتها في القرن الواحد والعشرين، كقوة محافظة تعارض التغيرات الراديكالية والثورات بطبيعة الحال، وتبني مواقفها على أساس الدفاع عن المبادئ الانسانية الأساسية «أهملتها أوروبا»، وهي لذلك اختارت نغمة «القانون الدولي وسيادة الدول ومبدأ عدم التدخل».
في مقابل هذا الترويج الذي بدأ يطغى بقوة في روسيا، يقول محللون معارضون أن هذه السياسة تشكل توجهاً نحو «الهروب إلى أمام».
بمعنى أن روسيا التي خاضت مواجهة قوية في الشرق الأوسط واستفادت بقوة من نقاط ضعف منافسيها، لم تكن خططت للخطوة اللاحقة، وبات عليها أن تفكر فيها جيداً، وتغلفها بالإطار الأيديولوجي المناسب.
ظهر هذا الارتباك مثلاً في حديث نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف قبل شهور، عن ضرورة «ان نستعد لمرحلة ما بعد الأسد». حينها كانت تغطية سريعة على حديث بوغدانوف باعتباره زلة لسان.
لكن ألكسندر شوميلين الخبير المتخصص بشؤون الشرق الأوسط اعتبر أن كلمات بوغدانوف عكست توجهاً جدّياً لدى صنّاع القرار الروس نحو وضع رؤية شاملة لسياسة الكرملين الشرق الأوسطية، بصرف النظر عن خسارة الأسد أو غيره من الأعمدة التي استندت إليها موسكو في سياستها خلال السنوات الثلاث الماضية.
بعض مراكز الدراسات القريبة من الكرملين طرح رؤية تقوم على ضرورة تعزيز التحالف بمحور «إيران- العراق- سورية- لبنان» لأنه أولاً يلبي المصلحة الروسية الآن، ويشكّل حزام توتر حول بلدان لا تعدّ حليفة للروس.
يرى بعضهم أن هذا لا يعني أن موسكو تعمّدت إقامة نوع من التحالف «الاستراتيجي»، فالوضع نشأ بحكم التطورات الجارية في المنطقة، لكنه بات مفيداً للسياسة الروسية، ما يعني ضرورة البناء عليه باعتباره «تطوراً منطقياً للوضع الحالي». لكن آخرين يشككون في قدرة هذا الطرح على الحياة طويلاً، لأن العنصر الأقوى في هذا المحور، والمقصود إيران، لا يقيم علاقات تحالف كامل مع موسكو، بدليل فتح طهران خط التقارب مع واشنطن، وميلها إلى تطبيع العلاقات في شكل متزايد.
ومع السجالات الكثيرة حول الموضوع، يميل خبراء إلى تأكيد حقيقة أن الرهان الروسي يستند على المدى القصير، إلى تعزيز العلاقات مع ذاك المحور، لكن موسكو تعمل في خط موازٍ لصوغ رؤية شاملة لتعزيز وجود طويل الأمد في المنطقة، أبرز نقاطها وفق مشروع وضعه أخيراً فريق من الخبراء المقربين من الكرملين:

1- فتح قنوات اتصال مع كل الأطراف واللاعبين السياسيين في المنطقة، ومواجهة محاولات تغييب أي طرف.

2- تبنّي خطوات قصيرة الأمد، وبلورة سياسة بعيدة لمواجهة احتمالات تمدد خطر التطرف الإسلامي، وعودته إلى روسيا.

3- تعزيز المؤسسات والهياكل الإقليمية وعلى رأسها «مجموعة بريكس» لدعم الموقف الروسي، وإيجاد حال توازن أمام تحالفات أخرى غربية قد تعمل لعرقلة التوجه الروسي.

4- تنفيذ سياسة إعلامية ترويجية نشطة لروسيا، في المنطقة وعلى المستوى الدولي.

5- استخدام وجود روسيا كمراقب في منظمة التعاون الإسلامي وتعزيزه على مسارات، بينها إطلاق نشاط ديبلوماسي لتقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران.

6- التعاون مع مؤسسات وهياكل إقليمية تشاطر روسيا مواقفها.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى