أردوغان حيال الانقسام الكبير وسؤال الديموقراطية

وفقاً لنتائج الاستفتاء التركي الرسمية المعلنة، نجح الرئيس رجب طيب أردودغان في تمرير التعديلات الدستورية التي ستخوّله مزيداً من الصلاحيات عبر تحويل تركيا إلى النظام الرئاسي، وهو الحلم الذي راوده سنوات، فسخّر كل الإمكانيات المتاحة أمامه لتحقيقه.

النتائج تقول أيضاً إنّ أردوغان نجح في شقّ المجتمع التركي وتهديد استقراره. ذلك أنّه بعيداً من التشكيك في نزاهة الاستفتاء، وشبهة التلاعب والتزوير التي دفعت بالمعارضة إلى تقديم الطعون والمطالبة بإعادة فرز الأصوات في عدد كبير من الدوائر، وبصرف النظر عن الظروف الملتبسة التي جرت في ظلّها «الحملة الانتخابية»، بعد كل ما شهدته البلاد من انتهاكات واسعة للحريات، واعتقالات بالجملة للمعارضين بذريعة محاولة الانقلاب الفاشلة، وهي كلها مسائل تستوجب النظر عند مناقشة النتيجة، بعيداً من ذلك كله، وعلى افتراض أنّ الاستفتاء سليم مئة في المئة، فإنّ فارق الفوز الطفيف يؤكّد أنّ المواطنين الأتراك منقسمون بين مؤيّد للنظام الجديد ورافض له.

أصحاب «لا» لم يسلّموا بهزيمتهم، ولا يبدو أنّهم سيرضخون بسهولة للأمر الواقع. فبعدما رفضت اللجنة العليا للانتخابات الطعون التي تقدّمت بها المعارضة لإلغاء نتائج الاستفتاء، من دون أن تكلّف نفسها عناء النظر الجدّي فيها، على رغم صدورها عن أحزاب ذات شعبية واسعة ولها كتل وازنة في البرلمان، عبّر معارضون عن نيّتهم الاحتكام إلى المحكمة الدستورية التركية، ثم إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، إذا اقتضى الأمر، ولم يستبعد آخرون احتمال النزول إلى الشارع، علماً أنّ وزير العدل التركي أعلن أن «المحكمة الدستورية سترفض أيّ طعن تقدّمه المعارضة في نتائج الاستفتاء».

هذا يعني أنّ حالة «الاستقرار» الاجتماعي والسياسي في البلاد وانعكاسات ذلك الاقتصادية، مرشّحة لمواجهة امتحان ليس من السهل توقّع تجلّياته على الأرض، فالأمر لا يتعلّق بقانون إجرائي ما أو تعديل بسيط للدستور وإنما يتناول آلية توزيع وممارسة السلطة في الدولة عبر تغيير شكل ومضمون نظامها السياسي برمّته.

وإذا كان الاستفتاء قد «حسم الجدل في شأن شكل نظام الحكم في تركيا»، وفق ما رأى بعضهم، فإنّه سيعيد الجدل حول حقيقة علاقة الأحزاب ذات الخلفية الأيديولوجية الإسلامية بالديموقراطية، لا سيما أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يعدّ ذروة ما توصّلت إليه تجربة «الإسلام السياسي» في المنطقة حتى اللحظة، وهو المثال المحتذى لكثيرٍ من الأحزاب والحركات الإسلامية.

سيقول بعضهم لماذا التحامل على أردوغان وحزبه، أليس هناك دول ديموقراطية تقوم على النظام الرئاسي؟ الجواب نعم، هناك بالفعل ديموقراطيات عريقة تبنّت النظام الرئاسي. لكن من الأفضل لهؤلاء مقارنة نظام أردوغان الرئاسي المقبل والصلاحيات الاستثنائية التي سيتمتع بها بسواه من الأنظمة الرئاسية الديموقراطية في العالم، وما تتضمنه من التزام تامّ بمبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها، فلا يمكن الرئيس أن يتجاوز السلطة التشريعية، ولا سلطة له على القضاء وهكذا. هاكم النموذج الأميركي، وهو النظام الرئاسي الأبرز في العالم، يقدّم مثالاً حيّاً على ذلك، حيث تتمتع السلطة القضائية باستقلالية تجعلها ندّاً للرئيس لا تابعاً له على نحو ما تفضي إليه التعديلات الأردوغانية.

وعودةً إلى افتراض ما جرى غاية في النزاهة، فإن الانقسام التركيّ المستجد يشكّل فرصة لفتح باب النقاش حول الأدوات الإجرائية في الديموقراطية نفسها وما قد يترتّب عليها، لاسيما «صندوق الاقتراع» التي يكاد الإسلاميون لا يرون في الديموقراطية سواه فيختزلونها به. ماذا لو طرح حزب ما أو زعيم كاريزميّ النظامَ الديموقراطي نفسه على التصويت، وصوّت الناخبون «بديموقراطية» على إلغائه، فهل يجب القبول بذلك بدعوى «احترام رغبة الغالبية»، أم أنّ الأجدى تحصين المجتمع من انحرافات استبدادية كهذه بإقرار مبادئ فوق دستورية غير قابلة للمساس. في مثال آخر، كيف للنتائج الصندوقية أن تعبّر في شكل عادل عن الإرادة الشعبية في القضايا الكبرى، عندما تتيح لغالبية النصف + واحد البتّ فيها، في حين أن حسمها يفترض أن يحتاج إلى ما يشبه الإجماع الوطني.

في مثال الاستفتاء التركي الأخير، «قرّر» نصف الشعب تغيير نموذج الحكم إلى آخر يرفضه النصف الثاني من الشعب. من المفارقات هنا أن الدستور التركي الحالي اشترط لعزل رئيس الجمهورية بتهمة الخيانة العظمى، موافقة غالبية ثلاثة أرباع عدد أعضاء الجمعية الوطنية (المادة 105)، فهل يستقيم أن يحتاج بتّ عزل الرئيس نسبة 75 في المئة من النواب، بينما تكفي نسبة تزيد قليلاً عن النصف في الاستفتاء لتغيير نظام الحكم ومنح الرئيس صلاحيات شبه مطلقة.سيكون من المفيد للمحتفين بنجاح «نعم» تأمّل الشبه الكبير بين حجم الصلاحيات الهائل في النظام الرئاسي بطبعته الأردوغانية والنسخة الأسدية المعمول بها في سورية منذ عهد الأسد الأب، حيث يهيمن «الرئيس» على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقاً لأحكام الدستور. فإذا أضيف إلى المشهد نزوع أردوغان السلطوي الذي كشفت عنه ممارساته وخطاباته، فضلاّ عن الهزّات الكبرى التي أصابت الديموقراطية التركيّة في عهده، لا سيما بعد المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي أودت تداعياتها بالكثير من مكتسبات الأتراك على صعيد الحريات العامة وحقوق الإنسان، وقد قيل في ذلك الكثير، فلن يكون من الصعب توقّع أيّ مستقبل ينتظر الديموقراطية في تركيا.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى