أزمة أميركا الأخيرة (سمير كرم)

 

سمير كرم

على مدى ثلاثين عاماً من مراقبة الشأن الاميركي والسياسة الاميركية، لم تبدُ اميركا مأزومة كما تبدو اليوم. صحيح انها ليست وحدها التي تعاني ازمة شديدة، لكن الازمة الاميركية ـ شأنها شأن كل ما هو اميركي ـ تتميز بحجم غير عادي وشدة استثنائية. في هذا الاطار، فان الازمة الاميركية لا تقتصر على ميدان محدد انما تتسع لتشمل كل الشؤون الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية. لا تكاد تفلت منها اي الميادين.
ويبدو ان الادارة الاميركية ـ التي تتحمل مسؤولية رفع هذه الاعباء عن كاهل الشعب الاميركي ـ غير مهتمة بأداء هذه المهمة الخطيرة. مستخفة بالازمات المضاعفة التي تلم بها. تعتبر واشنطن ان دول العالم الغنية ـ خاصة تلك التي يسهم النفط في غناها ـ يمكن ان تتحمل الديون الضخمة التي تدين بها الولايات المتحدة لهذه الدول. ومن مظاهر النظر باستخفاف الى الازمة الاقتصادية الاميركية، ان الولايات المتحدة تستمر في تخصيص مبالغ من ميزانيتها السنوية الاتحادية كـ«مساعدات» للدول النامية. كما أنها تستمر في اعتماد مبالغ هائلة لميزانيتها العسكرية. فهي تنتج اسلحة جديدة كما توسع مجالات وجودها العسكري في انحاء العالم. وهي في كل هذا، تبدو غير معنية بأوضاعها الاقتصادية قدر اهتمامها بأوضاعها العسكرية وبما تشعر انه ثقلها المعنوي في العالم. وعلى الأرجح ان دولا تدين الولايات المتحدة لها بمبالغ طائلة ـ كـ المملكة العربية السعودية ـ تنظر الى هذه الديون المستحقة على انها ثمن لا بد من دفعه لتستمر في نيل الدعم الاميركي العسكري.
والولايات المتحدة مدينة لدول على الجانب الآخر من العالم كالصين. والأخيرة تقترب باطراد من احتلال المركز الذي سبق ان احتلته أميركا عالمياً، وهو مركز الدولة الأغنى. لكن الصين لن تعيش طويلا في حالة قبول للديون الاميركية المستحقة لها. ويسود اعتقاد مثير للقلق مفاده أن الولايات المتحدة قد تجد نفسها مضطرة لخوض حرب مع الصين في محاولة لإنهاء مشكلة ديونها للحكومة الصينية وللشركات العملاقة الصينية كذلك.
ولقد كشفت احدى النشرات الاقتصادية الاميركية ـ التي تصدرها مؤسسة تنمية المشروعات ـ عن دراسة جديدة تكشف ان نحو نصف السكان الاميركيين يعيشون إما في حالة جمود اقتصادي او حالة تراجع بدأ منذ ست سنوات، أو حالة أزمة. كما أن نحو نصف الاميركيين اصبحوا يفتقرون الى النقود السائلة. وقد كتب بول كريغ روبرتس بحثا ـ ضمن سلسلة البحوث التي يجريها منذ ترك الخدمة في الحكومة الاميركية ـ يحمل عنوانا مباشرا هو «كيف قتل اقتصاديونا وصانعو سياساتنا اقتصادنا». ويكشف روبرتس في هذا البحث كيف ان المؤسسات الاميركية ترسل رؤوس اموالها، الى ما وراء البحار، ما يعني ان الدخل والقاعدة الضريبية وفرص العمل التي ترتبط بالوظائف انما تذهب الى الخارج. ويضيف انه «عندما سمح صانعو السياسة للبنوك بأن تصبح مستقلة عن تقلبات السوق فقد جعلوا منها عبئاً على الاقتصاد». كما أكد ان السلطات المالية الاميركية لم تعد توفر تقريراً نزيهاً عن أحوال البنوك.
وفي تحقيق تحت عنوان «البطالة الجماعية في أميركا» كتب الاقتصادي الاميركي اندريه دامون «عن إنذارات اقتصادية متصاعدة تحذر من احتمال ان تواجه الولايات المتحدة في المستقبل القريب جموداً اقتصاديا ونسبة عالية من البطالة. ففي أميركا رسمياً اليوم عشرة ملايين عاطل بعدما كان العدد 6,8 ملايين في العام 2007. وتفيد الارقام الرسمية ان 3,6 ملايين شخص انتقلوا الى حالة البطالة منذ 27 اسبوعا وهذا الرقم يزيد ثلاث مرات عما كان عليه في عام 2006..
ثمة حالة من التشاؤم تسود أوساط القوى العاملة الاميركية في السنوات الاخيرة. ويزيد من شعور العمال الاميركيين بالخوف من احتمالات زيادة أعداد العاطلين شعور عام بأن الولايات المتحدة تتراجع بكل المقاييس الدالة على النمو الاقتصادي والمنافسة الخارجية. مع ذلك ثمة من يعتقد أن الولايات المتحدة لا تزال تجد نفسها مضطرة إلى الاستمرار في المنافسة في مجالات التكنولوجيا، خاصة تلك التي تتصل بالنواحي العسكرية. ويعيدون الأمر إلى تمكن أميركا من تصميم عدد من الحروب والانقلابات في بعض مناطق العالم ـ وخاصة الشرق الاوسط ـ من دون ان تنفق عليها دولاراً واحداً. ومنذ ايام اعلن خبراء المخابرات الاميركية ان الحرب في سوريا قد تستمر لعشر سنوات اضافية. وأمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الاميركي قال المحلل الاستراتيجي ديفيد جارتنشتاين روس «الآن أصبح واضحاً ان سقوط الأسد لم يعد حتمياً كما كان يعتقد كثيرون من المحللين قبل عام واحد… إن السيناريو الأكثر احتمالا هو الذي تتوقعه المخابرات الاميركية الآن، وهو أن الحرب ستستمر عشر سنوات إضافية وربما أكثر من ذلك».
ومن الواضح مثلا ان حسابات واشنطن الخاصة بالوضع السوري تقوم على اساس أن غيرها يدفع التكاليف الباهظة للحرب السورية. لكن الوضع هذا ليس من المضمون ان يستمر طويلا. إذ أن أحداً ممن يدفعون تكاليف الحرب في سوريا لن يستمر في الدفع الى ما لا نهاية. فقد كان يظن عندما بدأت هذه الحرب انها لن تستمر لأكثر من عدة شهور. كيف ستواجه الولايات المتحدة هذا الاحتمال؟ إنها لا تريد ان تدفع ثمن ما تحصل عليه. وقد بدأت دول تساهم بالتمويل والتسليح، منها السعودية، تظهر رغبة في الانسحاب من هذا المأزق.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى