أمريكا «العظيمة»

ليس غريباً أن يستخدم دونالد ترامب الرئيس الأمريكي الخامس والأربعون، الذي فاز في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، الشعار ذاته الذي استخدمه الرئيس رونالد ريغان قبله بأكثر من ثلاثة عقود ونصف (1981-1989)، وهو «اجعل أمريكا عظيمة مرّة أخرى»، فقد شهدت السنة الأولى من حكم ترامب تطبيقات لسياسة انعزالية و«حمائية» واستفزازية، جعلت الولايات المتحدة وسمعتها مصدر تندّر من لدن دول العالم أجمع، بما فيها حلفاء واشنطن.

وكانت تصريحاته الأخيرة (12 يناير 2018)، التي وصف فيها الدول الإفريقية «بالحثالة» مشبعة بالروح العنصرية، حين قال عن المهاجرين إنهم يأتون من «بلدان قذرة»، وهي تعابير تنمّ عن استعلائية، ناهيك عن كونها ذات فجاجة، فكيف تصدر عن رئيس «أعظم» دولة في العالم؟ يضاف إلى ذلك مواقفه الابتزازية إزاء العديد من البلدان، ولا فرق في ذلك، أكانت من حلفائه في أوروبا، أو من «العالم الثالث»، أو غرمائه من روسيا والصين. وقد أدت هذه السياسة إلى تراجع الدولار الأمريكي لدرجة لم يسبق لها مثيل منذ عام 2002، ارتباطاً مع مخاوف سياسية واقتصادية جراء نهجه المتخبّط.

ولعل الوجه الثاني لاستفزاز الرأي العام العالمي، هو تصميمه على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، في حين تُمعن «إسرائيل» في سياستها العنصرية «الاستيطانية»، حيث سبق للأمم المتحدة أن اعتبرت العنصرية والاستيطان «جريمتين دوليتين»، فكيف يُقدم زعيم أكبر دولة في العالم على مثل هذا الإجراء الاستفزازي، ويتحدّى ما يُطلق عليه الشرعية الدولية؟

وكان ترامب قد افتتح عهده بإقدامه على فضّ بعض تحالفاته التجارية، وتحلّله من عدد من المعاهدات الدولية مثل اتفاقية الشراكة في المحيط الهادئ، التي تم توقيعها في فبراير/شباط 2016، واتفاقية باريس حول المناخ، التي تم توقيعها في ديسمبر/كانون الأول 2015، وكلاهما أبرمتا في عهد الرئيس باراك أوباما.

وهكذا لم يبق حقل من حقول السياسة أو الاقتصاد على المستوى الداخلي أو في ميدان العلاقات الدولية، إلا وكانت هناك شكوى مريرة من سلوكه وتصرفاته، ليس من جانب أعدائه وخصومه فحسب، بل من شركائه التقليديين، وهم بالأساس حلفاء الولايات المتحدة، ناهيك عن كبار موظفي البيت الأبيض الذين أطاح ببعضهم. ويمكن القول إن سنة 2017، هي الأسوأ في تاريخ السياسة الأمريكية خلال العقد ونصف العقد الماضي.

وبالعودة إلى تراجع الدولار، فإنه في الواقع يعتبر ركيزة أساسية في النظام النقدي الدولي، منذ اتفاقيات برتون وودس النقدية في عام 1944، التي تضمّنت اعتباره «العملة الوحيدة» التي تم تحويلها مباشرة إلى الذهب، بعد الحرب العالمية الثانية، وهو النظام الذي عُرف اقتصادياً ب«نظام الذهب الدولي»، والذي هو امتياز لا مثيل له، تمكّنت بواسطته الولايات المتحدة، ولأسباب أخرى عسكرية وسياسية وتكنولوجية وعلمية، من الهيمنة على نظام العلاقات الدولية، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي شارل ديجول في ستينات القرن الماضي، إلى التذمّر منه والسعي للتحلّل من تبعاته، حين طلب من وزير ماليته فاليري جيسكان ديستان، استرجاع الذهب الفرنسي المودع لدى الولايات المتحدة.

ومع أن الدولار قطع علاقته بالذهب في 15 أغسطس/آب 1971، في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، إلّا أنه لا يزال المرتكز الأساسي لنظام النقد العالمي بلا منازع كبير، وهو يحتل 42% من التجارة الدولية التي تتم بواسطته، و59% من القروض المصرفية، وذلك حسب معطيات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة، وحتى الآن لم تستطع دول البريكس (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا)، أن تكون بديلاً أو حتى موازياً متكافئاً مع الولايات المتحدة، على الرغم من تراجع هذه الأخيرة.

كما أن المصارف الدولية تستخدم الدولار في 64% من احتياطاتها، حيث يعتبر «وحدة حساب» و«أداة تبادل»، و«الاحتياطي ذا القيمة»، ويلعب النظام المصرفي الأمريكي والاحتياطي الفيدرالي، دور «مصرف العالم»، الذي يستثمر رأس مال الآخرين. وتتمدّد المصارف الأمريكية الكبرى مثل ميريلانج بنك، وسيتي غروب، وغولمان ساكس، وجي بي مورغان شاس، ومورغان ستانلي، في العالم أجمع بما فيه أوروبا التي تحتل نحو 37.2 بالمئة من سوقها الاقتصادية (قبل أزمة عام 2008).

وقد كشف الرئيس أوباما قبل مغادرته البيت الأبيض، عن أن سر تفوّق الدولار هو «الحماية العسكرية» التي توفّرها الولايات المتحدة للعديد من الدول، فاليابان مثلاً تخشى من توترات بحر الصين؛ لذلك أصبحت أكبر حامل لسندات الخزانة الأمريكية، وعلى عكس اليورو، فالدولار وراءه قوة سياسية عملاقة، في حين أن ظهر اليورو مكشوف.

أما العملة الصينية (الرنمينبي)، فهي مشتبه بها حتى إشعار آخر، بسبب النظام السياسي الذي يقف خلفها، حيث لا يزال دور الدولة مهيمناً وقوياً، لكن استمرار سياسة ترامب قد تكون وراء صعود العملة الصينية، إلى وقت ليس بالقصير.

صحيفة الخليج الإماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى