إنها الحرب.. فماذا أنتم فاعلون؟

سيسألنا جيل قادم: هل كانت هذه البلاد بلادكم؟ أما كنتم تعرفون أن «داعش» على الأبواب، ثم دخلتها؟ أما كنتم تدركون أنها عدو حقيقي جداً، لكل اللبنانيين، سنة أولاً، وشيعة دائماً، ومسيحيين وأقليات بلا رحمة؟ ألم تشاهدوا جرائمها، بالصوت والصورة؟ ألم تفتك بعسكركم؟ أما عرفتم طعم الذبح بالسكين؟

…فماذا فعلتم؟

سيسألنا جيل بعد جيل، هنا، إن ظل الـ«هنا» مكان إقامة لهم، وهناك، إن احتضنتهم المنافي، مهزومين ومطاردين بصور القتل ومواقف العار. سيسألنا: هل كان لبنان وطناً أم رصيف قراصنة من عتاة المذاهب والطوائف؟ سيسألنا: لماذا كنتم فينيقيين، بلا حروفهم، وكان كل شيء يباع؟

ماذا تقولون غداً، بعد سقوط «غرناطة» المشرق؟ لماذا تغافلتم وفضّلتم التخندق في الحرام، وأعدتم موقعة «الجمل» و«الفتنة الكبرى»؟

عن جد، نسأل اليوم، سؤال من يجيء بعدنا، ليسألنا من وسط الحطام والخراب الروحي والمادي والغربة حتى الجنون، هل هذه البلاد بلادنا؟ هل لبنان للبنانيين؟ بالتأكيد، وباليقين المثبت بالوقائع وإحداثيات الفجيعة المتدفقة، اننا لسنا لبنانيين.. وكذلك ليست سوريا للسوريين، ولا العراق للعراقيين ولا اليمن لليمنيين ولا ليبيا لليبيين، لا دليل على وجود هؤلاء. هذه بلاد تفيض مذاهب وطوائف وأعراقاً وعشائر وقبائل. هذه بلاد تحتلها شعوب تفتقت عبقريتها في ابتكار الاجتياحات والذبح والتدمير والتخريب والإبادة، بمشهد فسيح مرعب، لم يعرفه تاريخ العرب. ولأننا موجودون هكذا، فقد «استحقت» «داعش» وأخواتها، الإقامة عندنا.

العالم كله يستشعر خطر «الدولة الإسلامية في العراق والشام». مجلس الأمن، بدأ حربه بالقرارات. أوباما يجهز تحالفاً من أربعين دولة، (بينها لبنان الحائر بين ان يكون نائيا بنفسه، أو زاجاً بنفسه)، المجموعة الأوروبية تزوّد الجيوش العربية «الصديقة» بالسلاح. العراق ساحة حرب، كردستان ساحة قتال. سوريا، سنوات من المواجهة والكر والفر والمآسي، السعودية تستغيث وتحرص على فتاوى مضادة لـ«داعش»، ومع ذلك، فسكان لبنان (لا نقول مواطنيه) موزعون، بين منتظري حروب «داعش»، والجوائز التي سيحظون بها، وبين من يقاتل «داعش»، وبين من لا يتحسس شيئاً، وبين من يئس وغادر، أو هو قيد المغادرة.

«داعش» لم تعد على الأبواب. إنها في الداخل، وهناك من يهتف باسمها ويستدعيها، ويحرّضها على المزيد، فيما ينصرف البعض الآخر إلى ممارسة الملهاة الانتخابية، النيابية والرئاسية، بأسباب ما قبل «داعش»، وكأن شيئاً لم يكن، أو كأن لبنان، هو مقاطعة اسكتلندية، لديها من الوقت لمتعة الاستفتاء، انفصالاً أو اتحاداً، مع «بريطانيا الصغرى».

الحقيقة البيّنة، ان ما يحدث في عرسال وفي شوارع ومخيمات لبنان، لم يعد مجرد أحداث أمنية متنقلة. الحقيقة ان ما يحصل، هو جولات حرب حقيقية، محدودة الآن، وتهدد بالانتشار. والتقارير في معظمها، لا تتحدث إلا عن أيام سود تنتظر اللبنانيين، في المقبل من الأسابيع، ولا بصيص أمل، إلا بمعجزة مستحيلة.

إنها الحرب إذاً. وهي منازلة غير متكافئة، بين إرهاب يتقدم بالنقاط، وفي الجغرافيا، وفي الإحراج، وفي المناورة، وفي السفك المريع… لم يعد الجنود اللبنانيون المهددون بالقتل هم الأسرى. لبنان كله في الأسر. لبنان كله ينتظر، عاجزاً عن تحرير أسراه أو وقف تنفيذ القتل بجنوده، فيندلع غضب اللبنانيين، وهم أسرى آلامهم وانتظاراتهم، للتعبير عن فجيعتهم في البيئات الحاضنة المتحسسة لمواجعهم وفواجعهم.

لبنان يعيش أيامه وفق توقيت «داعش».

لا يستطيع الجيش تحرير جنوده، لا يستطيع استرجاع عرسال. لا يتمكن من خوض معارك، ليس لقلة في السلاح، بل بسبب انعدام الموقف السياسي المزمن، وكذبة «الوحدة الوطنية».

من مآثر التاريخ، أن الشعوب تتوحد في مواجهة العدو الخارجي. إسرائيل فعلتها مراراً، دول كثيرة تعرضت لعدوان، وتوحدت قواها للدفاع عن نفسها. إلا عندنا. كلما لاحت حرب وتقدمت من حدودنا، تقدم فريق يستقبلها، فريق يقاتلها. لدينا هواية عريقة: التحالف مع الأعداء، والاختصام على الأصدقاء… العدو يسكن ويتربى معنا. يأكل على موائدنا الطائفية ويتغذى منها. العدو معنا نعرفه على مقاعد الدراسة، يتربى معنا في الجامعات وفي المعابد وفي المواعظ وفي الصلوات وفي مجالس العزاء وفي الإعلام الموزع على أهل الملل… لدينا عقيدة اصطفاء الأعداء وإحلالهم مواقع الحلفاء.

وعليه، لا حاجة لأي جهة دولية، لإعطاء شهادة فشل للبنان. لبنان دولة فاشلة من زمان، ويزداد فشلها تطويراً لشعار «قوة لبنان في ضعفه»، ليصبح قوة لبنان في استقواء طوائفه ومذاهبه بعضها على بعض. وبسبب ذلك، يرزح تحت وطأة «داعش»، والحرب ما زالت في أولها، فكيف إذا طالت، وهي ستطول حتماً. أميركا تراها كذلك، «التحالف أيضاً»، وليد جنبلاط يراها مديدة، والدول المنخرطة قتالا ضد «داعش» تعاني من قسوتها وتفوّقها الميداني، ولا تخفي قناعتها، بأن القتال من فوق، لن يؤثر إلا قليلاً، وأن القتال من تحت، يحتاج إلى جحافل، من غير تشكيلات الجيوش، لتخوض حروبا، فوق الأرض، وتحتها، في الأنفاق.

«داعش» دولة إقليمية عظمى. تقاتل في سوريا والعراق وإقليم كردستان وعلى حدود تركيا، وتهدد السعودية والأردن، وتقيم شبه إمارة في عرسال.
إنها الحرب أيها اللبنانيون، فماذا أنتم فاعلون. «داعش» تحتل وتقصف وتذبح وتأسر جنوداً، وتخطط لتوسيع إمارتها إلى عكار وطرابلس. فمن يمنعها؟
قبل أن يفوت الأوان، ليس أمام لبنان إلا ان يعترف بأن ما يجري ليس أحداثاً أمنية، بل حرب حقيقية وطويلة. وعليه، فإن مفتاح هذا الوعي بهذه الحقيقة، ان يصار إلى لقاء مصارحة بين السيد حسن نصر الله والرئيس سعد الحريري، ينحّي الاشتباك في سوريا جانبا، ويقوم عليه الاشتباك مع «داعش»، بكل ما يملك لبنان من قوة. وأهم قواه، تطبيق الشعار «الجيش والشعب والمقاومة» في محاربة التكفير والإرهاب و«داعش».

من دون ذلك، لبنان في خطر غير مسبوق. قد يتشظى ويتفتت في حروب مذهبية. وعندها سيلعننا جيل يأتي، واننا نستحق اللعنة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى