إيران بين “الخامنئية” و “الرفسنجانية” (د. إياد العرفي)

د. إياد العرفي

 

لم يكن آية الله السيد علي حسيني خامنئي الذي ولد في 16 تموز من العام 1939، أبرز شخصية سياسية أو دينية في إيران عندما تولى منصب المرشد الأعلى للثورة عام 1989، بعد وفاة روح الله آية الله السيد الخميني "قائد" الثورة الإسلامية ومؤسس جمهوريتها. وفي مقارنة بينه وبين سلفه، الذي تولى السلطة عندما كان عمره 77 عاما، كان خامنئي أصغر بكثير، سواء بعمره أو بثقله الديني والسياسي، فكيف وصل هذا الرجل إلى منصب "المرشد الأعلى"، أو "القائد"؟
في عام 1979، إثر إصابته بأزمة قلبية، قلص آية الله الخميني دوره الفعلي في الحياة السياسية بصورة كبيرة، وقد تمتعت في هذه الفترة دائرة من المستشارين المقربين، على رأسهم ابنه أحمد الخميني وأكبر هاشمي رافسنجاني، بأدوار هامة في إدارة البلاد. وعندما توفي الخميني، خلفه رجل الدين والسياسة الشاب علي الخامنئي، في خطوة تم من خلالها تجاوز العديد من المرجعيات الدينية وكبار آيات الله المؤهلين أكثر منه لتولي هذا المنصب، فكيف حصل ذلك؟
لم يكن تعيين خامنئي مرشدا أعلى في عام 1989 انتخابا "طبيعيا"، بل إنه اختير فعليا من قبل عدد من أفراد النخبة السياسية ذات النفوذ، قبل أن يجتمع مجلس الفقهاء ويتم انتخابه رسميا. ولاشك أن هاشمي رفسنجاني " ثعلب الثورة الإسلامية الإيرانية" هو مهندس وصول خامنئي إلى هذا المنصب، حين خاطب مجلس الخبراء، المجتمع لتسمية "مرشد أعلى" جديد، قائلا "سألت الخميني في أواخر أيامه ماذا نفعل بعد رحيلك؟ فأجابني: لا تخافوا فخامنئي بينكم"، فكانت هذه الكلمات هي التي أدت لحصول الخامنئي على أصوات 54 عضوا من بين ثمانين من أصوات مجلس الخبراء، وهكذا أصبح مرشدا أعلى. فمن هو هذا الرجل الذي كان وراء وصول الخامنئي إلى منصب المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، والذي قال في مذكراته أنه "هو الذي قدم السيد علي خامنئي إلى السيد الخميني"، لأن الخميني لم تكن لديه معرفة ب"رجل الدين المجهول هذا". وهو الذي منح "حجة الإسلام" علي خامنئي لقب ” آية اللـه ” في خطبته التي ألقاها في أول صلاة جمعة تلت انتخابه لمنصب المرشد العام بعد وفاة الإمام الخميني.
هو آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني، 75 سنة، يوصف بأنه رجل سياسة بوجهين، واحد ثوري و الآخر براغماتي، وهو يلقب في إيران ب "صانع الملوك" لدوره الرئيسي في وصول المرشد العام علي خامنئي إلى منصبه بعد وفاة الخميني، ولدوره المحوري في انتخاب "الإصلاحي" محمد خاتمي للرئاسة في العام 1997، إضافة إلى "صنعه" العديد من القيادات وفي مختلف المجالات السياسية والأمنية والعسكرية وحتى الدينية. وقد اعتبرت مجلة "فورين بوليسي" رفسنجاني بأنه "من الشخصيات العشرة المؤثرة على السياسات العالمية".
بعد انتصار الثورة الإسلامية، أسس رفسنجاني حزب "الجمهورية الإسلامية" لمواجهة التيار العلماني المتصاعد وقتذاك. تولى رئاسة مجلس الشورى خلال الأعوام 1980 و 1989 ، كان خلالها أيضا قائدا gلقوات المسلحة بالوكالة، بقرار من الخميني. انتخب رئيسا للجمهورية، بعد وفاة الخميني، لفترتين متتاليتين خلال الفترة 1989-1997، وهي فترة ما بعد الحرب العراقية الإيرانية، قام خلالها بدور كبير في إعمار البلد الذي دمرته تلك الحرب. أفصح رفسنجاني عن وجهه البراغماتي خلال توليه قيادة القوات المسلحة، حين أجرى مفاوضات سرية مع "الشيطان الأكبر" (الولايات المتحدة الأمريكية) للحصول على السلاح خلال الحرب العراقية – الإيرانية. ولم تكن براغماتيته أقل حين اعتمد سياسة الانفتاح الاقتصادي وسمح للشركات الأجنبية بالمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار بعد الحرب.
بعد وفاة الخميني وشغور منصب المرشد الأعلى لم يكن بإمكان رفسنجاني، آنذاك، احتلال هذا المنصب كونه من ذوي "العمائم البيضاء"، أي أنه يفتقر للقب "سيد"، لذلك فقد سعى إلى إضعاف هذا المنصب، الذي كان يرى أنه فصل ليناسب فقط الإمام الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، بفضل وضعه التاريخي وشخصيته الكاريزميه ومكانته الدينية.
وبتنصيب الخامنئي، الذي يفتقد إلى كل من التفوق الديني والسياسي بالإضافة إلى الكاريزما، اعتبر رفسنجاني، أن منصب المرشد الأعلى أصبح صوريا، لكنه أغفل أن الخامنئي، رغم افتقاده لصفات عديدة، لم يكن يفتقد للذكاء والدهاء السياسي. فمع معرفته بأنه وصل إلى منصب المرشد الأعلى بسبب ضعفه، بدأ منذ اليوم الأول بإعادة بناء منصب "المرشد الأعلى" لتحويله من موقعه "الإشرافي"، إلى "قيادة" فعلية ومؤثرة. فعلى النقيض من الخميني، الذي لم يهتم مطلقا بمنصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، أدرك خامنئي أهمية السيطرة على المؤسسة العسكرية في سعيه لبسط سيطرته على البلاد، لذلك فهو لم يتخلى مطلقا عن سلطته، التي كفلها له الدستور، على الجيش و الحرس الثوري والاستخبارات لصالح أي شخص آخر. فبعد وصوله إلى المنصب، كان أول قرار اتخذه هو تعيين مساعدين له عملا سابقا في وزارة الاستخبارات هما غلام حسين كلبايكاني، وأصغر حجازي، ليكون الأول مدير مكتبه، والثاني نائبه الأمني. كان كلبايكاني وحجازي رجلي دين أمضيا العقد الأول من عمر الجمهورية الإسلامية في الجيش والحرس الثوري و وزارة الاستخبارات، وقد كان لهما الكلمة العليا في تكوين المكتب التنفيذي للمرشد الجديد، وتعيين قادة الحرس الثوري و ضباط الاستخبارات. وهكذا أصبح مكتب "المرشد الأعلى"، الذي يضم حاليا أكثر من ألف موظف، في عهد خامنئي مقر القيادة المركزية لكل من القوات المسلحة وأجهزة الاستخبارات. وفي مسعاه لتعزيز قوته وبسط سيطرته المطلقة، جير خامنئي دستور الجمهورية الإسلامية لصالحه إلى أقصى درجة، مستفيدا من جميع نصوصه التي تساعده في مسعاه، وخاصة ما يلي:
– أن المرشد الأعلى، حسب الدستور، هو منصب دائم، في حين أن الهيئات المنتخبة ديمقراطيا تتولى مناصبها لفترة محدودة.
– الدستور يمنح المرشد الأعلى سلطة إلغاء أي انتخابات و تغيير نتائجها.
– مجلس صيانة الدستور، الذي يتم تعيين ستة من أعضائه الفقهاء مباشرة بواسطة المرشد الأعلى، هو من يختار المرشحين للرئاسة، وهو يصادق على نتائج الانتخابات.
– المرشد الأعلى، وفقا للدستور، هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، بما فيها الجيش والشرطة والحرس الثوري والباسيج.
– الدستور يمنح المرشد الأعلى سلطة تعيين رئيس السلطة القضائية ورئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية.
لقد غير أسلوب خامنئي في القيادة طبيعة "الجمهورية الإسلامية" التي أسسها الإمام الخميني. ونظرا لامتلاكه السلطة المطلقة، حول خامنئي الجمهورية الإسلامية من الحكم "الثوري" إلى "الاستبداد العسكرو- ديني" من خلال:
أولا: محاولاته المستمرة لتهميش الجيل الأول من السياسيين الثوريين، ذوو الاتجاه الإصلاحي، أمثال أكبر هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي ومير حسين موسوي، وإعادة تشكيل المشهد السياسي بخلق جيل جديد من السياسيين الذين يتسمون بالضعف ويدينون له بأوراق اعتمادهم السياسية من أمثال الرئيس أحمدي نجاد.
ثانيا: تغيير طبيعة النظام بتحويله إلى نظام عسكري لا يعتمد على الدستور أو المؤسسات السياسية والدينية، بل بالدرجة الأولى على المؤسسة العسكرية الممثلة بالحرس الثوري والجيش والباسيج.
ثالثا: تحجيم دور رجال الدين اللذين لا يدينون له بالولاء المطلق في التأثير في الحياة السياسية . فقسم رجال الدين إلى "طيبين" و"أشرار"، وجعل المؤسسة الدينية تعتمد اقتصاديا وبيروقراطيا عليه.
بدأ افتراق رفسنجاني عن المرشد الأعلى خلال الانتخابات الرئاسية عام 1997، حين وقف إلى جانب المرشح الإصلاحي "محمد خاتمي" في مواجهة مرشح الخامنئي "أكبر ناطق نوري"، في أول تحد لسلطة المرشد الأعلى، وهكذا وصل خاتمي إلى سدة الرئاسة بدورتين من العام 1997 إلى 2005.
تعمق الافتراق بين الرجلين خلال الانتخابات الرئاسية عام 2005، عندما أوصى الخامنئي رفسنجاني بعدم الترشح في مواجهة مرشحه "أحمدي نجاد"، الذي قيل أن الخامنئي يريده لأنه أراد "سكرتيرا له وليس رئيسا للجمهورية". وانتهت الانتخابات في آخر المطاف لصالح نجاد بعد عملية تزوير لصالحه ، وقد قال رفسنجاني في حينها "سأشكو إلى الله لأني لا أرى حكما صالحا أشكو إليه". فكانت هذه نقطة التحول لدى آية الله هاشمي رفسنجاني الذي أصبح، عمليا، منذ تلك اللحظة "عراب التيار الإصلاحي"، فقرر وضع نفوذه وماله وصحفه وجميع إمكانيته في خدمة هذا التيار. وبإصراره رشح "مير حسين موسوي" في الانتخابات الرئاسية عام 2009 التي انتهت بالتمديد لنجاد، بالتزوير أيضا، لكنها تمخضت عن الظهور العلني ل "المعارضة الإصلاحية".
السبب الأخير لافتراق الرجلين الأقوى في إيران، هو شعور الخامنئي بأن رفسنجاني يعتقد بأن "الوقت حان لتوليه منصب الرشد العام للثورة". فقد كشفت وثيقة أميركية يعود تاريخها إلى عام 2009، سربها موقع ويكيليكس، عن أن "آية الله خامنئي، يعاني من مرض سرطان الدم في مراحله النهائية، وأن هاشمي رفسنجاني يخطط لخلافته".
إذا خامنئي لا يخشى من خطط رفسنجاني الإصلاحية فحسب، بل الأخطر بالنسبة له هو طموح غريمه رفسنجاني في خلافته في المنصب الذي يعتقد أنه أرسى دعائمه. الخامنئي لا يخشى موسوي أو كروبي، زعيمي المعارضة الإيرانية، لأنه يعرف أنه ليس لموسوي أو كروبي قواعد في الحرس الثوري أو المؤسسة الأمنية، بينما لرفسنجاني قواعد فيها، فالمئات من رجال الحرس هم من الموالين له ولديهم علاقات متينة به منذ قيادته للجيش إبان الحرب العراقية – الإيرانية، كما أن النخب الاقتصادية والمالية الإيرانية تدعم نهجه الاقتصادي الليبرالي، ناهيك عن صلاته الدولية الواسعة.
رفسنجاني، الذي استطاع، حتى وقت قريب، أن يبقى في رئاسة  مؤسستين هامتين ورئيسيتين في النظام هما "مجلس تشخيص مصلحة النظام"، الذي يعتبر هيئة تحكيمية، و"مجمع الخبراء"، المكلف الاشراف على عمل المرشد الاعلى، والذي يمتلك ايضا صلاحية عزله، خسر مؤخرا هذا المنصب الهام بترتيب من الخامنئي. ففي شهر آذار 2011 أجبر رفسنجاني على الاستقالته من رئاسة مجمع الخبراء. وفي خطاب الاستقالة قال رفسنجاني : "القائد هو، بحسب موقعه، والد للجميع، أما البعض فيحبون أن يضعوه في تيار معين". وأضاف "إن القائد ملك للجميع، وإذا كان هناك أحد يمكنه أن يوحد الصفوف فهو القائد، ونحن بإمكاننا أن نساعده لكنه هو الذي يجب أن يفعل". كلمات كان لها صدى كبير تردد في جميع أنحاء البلاد. ومع إنهاء رفسنجاني كلمته، انتخب مجلس الخبراء آية الله مهدوي كاني، الموالي للخامنئي، رئيسا له بغالبية 64 من أصل  86 صوتاً.
وبخسارة رفسنجاني لرئاسة "مجلس الخبراء"، يكون نظام الخامنئي قد خطا الخطوة الأولى نحو تكريس هزيمة "الرفسنجانية" لصالح "الخامنئية"، وقد تكون الخطوة الثانية هي إقصاء رفسنجاني عن رئاسة "مجمع تشخيص مصلحة النظام" لمصلحة آية الله شهرودي، الذي يبدو أنه مرشح  الخامنئي لخلافته كمرشد أعلى. وإذا ما نجح الخامنئي في خطوته الثانية فإنها ستكون بداية لمواجهة علنية وشاملة بين رفسنجاني وخامنئي. مواجهة لن تكون سهلة على المرشد العام، فرفسنجاني ليس شخصية سياسية فحسب بل هو زعيم تيار يضم مجموعة سياسية اقتصادية عسكرية وأمنية بالإضافة إلى "الشارع الإصلاحي"، و رفسنجاني هو القادر على توفير المال والتدابير العسكرية والأمنية لهذا التيار. كما أن رفسنجاني بحظى بدعم أسرة مؤسس الجمهورية روح الله آية الله الخميني، والعديد من كبار آيات الله في قم.
كيف ستنتهي المواجه بين "الخامنئية" و"الرفسنجانية" ؟ لا شك أن الحرس الثوري، القوة الأهم في إيران، ستكون له الكلمة العليا في حسم المواجهة بين الطرفين، فهو يسيطر على المؤسسة العسكرية (حوالي 130000 مقاتل في جميع أصناف الأسلحة البرية والجوية والبحرية) وتحت قيادته جميع الأسلحة الاستراتيجية الإيرانية، والبرنامج النووي الإيراني، بالإضافة إلى سيطرته على ثلث الاقتصاد الإيراني.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى