إيران وأميركا: ما وراء المناورات البحرية في مضيق هرمز (مصطفى اللباد)

مصطفى اللباد

 

أطلقت إيران قبل أيام قليلة مناورات "الولاية 91" التي ينفذها الحرس الثوري الإيراني في مضيق هرمز المائي، بالتزامن مع اختتام القمة الثالثة والثلاثين لدول مجلس التعاون الخليجي أعمالها في البحرين مطلقة بيانا حاد اللهجة حيال إيران. وتشتمل المناورات الإيرانية، التي تستمر لأيام، على تدريبات في المياه الإقليمية الإيرانية والمياه الدولية بمشاركة مختلف وحدات القوة البحرية للجيش الإيراني، وبضمنها الغواصات والمدمرات والفرقاطات والسفن القتالية والبوارج والمنظومات الصاروخية والقوات الخاصة، فضلاً عن الطوافات والطائرات بدون طيار وطائرات الاستطلاع البحري. وبحسب المصادر الرسمية الإيرانية تتضمن مناورات "الولاية 91" أيضاً إجراء التمارين القتالية فوق وتحت سطح المياه، والتمارين الصاروخية والجوية باستخدام الطوربيدات والطائرات بدون طيار وكذلك تمارين الحرب الالكترونية. وفي حين ذهبت وسائل إعلام غربية إلى أن إيران ربما تتسبب بإشعال الحرب بينها وبين واشنطن عند إغلاقها هذا المضيق الهام الذي يمر منه 40% من النفط الذي يستورده العالم من منطقة الخليج، فقد وصفت وسائل إعلام خليجية المناورات الإيرانية باعتبارها "تصعيداً إيرانياً جديداً ضد المصالح الأميركية في الخليج". وكان مجلس الشورى الإيراني قد صوت في 21 تموز 2012 بالموافقة على مشروع قانون لاغلاق مضيق هرمز في حال ارتأت القيادة السياسية الإيرانية ذلك، بالتزامن مع تطبيق الغرب رزما جديدة من العقوبات الاقتصادية على إيران في العام 2012. ما هي الدوافع الإيرانية وراء المناورات البحرية الضخمة واستعراض العضلات في مضيق هرمز وما هي أسباب توقيتها، في الوقت الذي تعاني فيه طهران وطأة العقوبات الاقتصادية ولا تريد عرقلة مهمة أوباما في التفاوض معها حول ملفها النووي؟ تحاول السطور القادمة الإجابة عن هذا السؤال المعقد.

مضيق هرمز وأهميته الاستراتيجية

يخلق مضيق هرمز، الجسم المائي الأهم في العالم (600 ميل)، التباسات استراتيجية بسبب أنه يفصل إيران عن الدول العربية الخليجية الواقعة على الضفة الجنوبية للخليج في شبه الجزيرة العربية. ويمتد الخليج ـ الغني بموارد الطاقة من نفط وغاز ـ شمالاً من الكويت والعراق وينتهي جنوباً عند مضيق هرمز؛ الذي يمثل "عنق الزجاجة" للخليج قبل أن تنفتح الملاحة بعده على بحر العرب والمحيط الهندي وخطوط الملاحة الدولية. وإذا كانت الضفة الجنوبية للخليج واقعة في حيازة الدول العربية، فإن الضفة الشمالية للخليج واقعة بالكامل في حيازة إيران التي تشرف على الخليج من أول نقطة في شماله وحتى آخر نقطة في جنوبه. وتسيطر إيران بحرياً وجغرافياً على مضيق هرمز تحديداً عبر جزيرة قشم وميناءي بندر لنجه وبندر عباس، وكذلك عبر سيطرتها على الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، التي تتنازع على ملكيتها كل من إيران والإمارات العربية المتحدة. وفي هذا ما يفسر تمسك إيران بالجزر الثلاث التي لا يوجد بها موارد نفطية أو غازية، إذ ترغب طهران في ضمان سيطرتها التاريخية على ممرات الملاحة في الخليج التي تشرف الجزر الثلاث عليها جغرافياً. ويستمد مضيق هرمز أهميته من مرور 40% من النفط الذي يستورده العالم من دول الخليج العربية وإيران، أي ما يناهز 17 مليون برميل يومياً. وإذ يضيق الخليج عند مضيق هرمز ليصبح عرضه 34 ميلاً فقط، تتألف الممرات الرئيسية للمضيق من ممرين، أحدهما لدخول السفن إلى الخليج والآخر لخروجها منه، فضلاً عن قناة فاصلة بين الممرين وبعرض ميلين فقط لا غير لكل من هذه القنوات. ولذلك فإغراق سفينتين من الحجم المتوسط في أي من هذه الممرات الضيقة بالمضيق سيعني إعاقة الملاحة في الخليج لمدة أسبوعين، وهو ما يمنع تدفق النفط إلى الأسواق الخارجية، ما سيدفع بأسعاره في النهاية إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ سوق النفط العالمي.

الأهداف الإيرانية من المناورات

ينطلق هذا التحليل من أن إيران لاعب عاقل يعرف مصالحه وحدود قدراته، وهو ما أثبتته السياسة الإيرانية في منعطفات مفصلية بتاريخ المنطقة خلال العقد الأخير. لذلك تبدو المناورات البحرية الإيرانية بمثابة تصعيد لكن على مستوى قشري، في حين تقول النظرة المتأنية للأمور عكس ذلك. تثبت المناورات البحرية الإيرانية المتكررة في ذات التوقيت وعين المكان لأكثر من ست سنوات، أن طهران تتوخى تحقيق أهداف بعينها وأنها تعرف طريقة صنع القرار الأميركي باعتباره محصلة توازنات لمجموعات المصالح النافذة في واشنطن. والأخيرة تتمثل في: المجمع الصناعي ـ العسكري، لوبي النفط والطاقة، لوبي المصارف وشركات التأمين. أصبحت المناورات الإيرانية في مضيق هرمز شأناً متكرراً في السنوات الست الماضية في ذات التوقيت، بحيث تنطلق سنوياً عند نهاية العام وتمتد حتى الثلث الأول من شهر كانون الثاني من العام الجديد مصحوبة بتصريحات حادة لمسؤولين عسكريين وسياسيين إيرانيين عن قدرة بلادهم على إغلاق المضيق. وبالمقابل تأتي تصريحات عسكرية أميركية مهددة ومنذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور، فيرتفع منسوب التوتر في منطقة الخليج لأسابيع، ثم لا تلبث الأمور بعدها إلا أن تهدأ. ويعني ذلك أن إيران لم ترغب طيلة السنوات الماضية في مواجهة عسكرية مع واشنطن؛ لأن ذلك لا يتفق مع تعريف طهران لمصالحها الوطنية؛ وإنما تهدف إلى رفع محسوب لمنسوب التوتر في منطقة الخليج.

لا تريد إيران الدخول في مواجهة عسكرية مع واشنطن لأنها لن تربح من تلك المواجهة، حتى لو كبدت القوات الأميركية المهاجمة خسائر كبيرة. كما أن إغلاق مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية يبقى ورقة دفاعية ممتازة بيد إيران في حال تعرضها لهجوم عسكري، أما المبادرة بحرق الورقة الردعية وإغلاق المضيق لمجرد إظهار القدرة على فعل ذلك، فلا تؤدي سوى إلى خسارة إيران أوراقها من دون فوائد تذكر. تقوم الفرضية الأساسية لصانع القرار الإيراني على انتزاع اعتراف أميركي بدور إقليمي إيراني كبير في المنطقة، عبر إجبار واشنطن على الجلوس الى مائدة المفاوضات للتفاوض حول الملف النووي الإيراني، باعتباره المدخل الممتاز للمفاوضات، ومن ثم انتزاع الاعتراف المذكور. ومع مضي الوقت تتقدم إيران في برنامجها النووي وتفرض وقائع إقليمية على الأرض، في حين يزداد الضغط الصهيوني لتوجيه ضربة عسكرية أميركية إلى إيران. وحتى تستطيع إيران المضي في سياسة إجبار واشنطن على التفاوض حول الملف النووي كمدخل للتفاوض على الدور الإقليمي الإيراني، يتوجب على طهران أن تشتت جهود خصومها للحشد في واشنطن وتدبير ضربة عسكرية لها. هنا يلاحظ أن رفع منسوب التوتر في منطقة الخليج من جراء المناورات البحرية في مضيق هرمز يؤدي إلى ارتفاع مباشر في أسعار النفط العالمية، وإلى ارتفاع كلفة شحن النفط، لارتفاع تكلفة التأمين على ناقلات النفط. هنا بالتحديد تظهر مصلحة مباشرة لمجموعتي ضغط أميركيتين نافذتين، لوبي الطاقة والنفط ولوبي المصارف وشركات التأمين، في تكرار التوتر المحسوب سنوياً.

أما دلالة التوقيت (نهاية السنة وبداية السنة الجديدة) فتستهدف مجموعة ضغط أخرى نافذة في واشنطن هي لوبي السلاح أو المجمع الصناعي ـ العسكري. ومرد ذلك أن هذا التوقيت يتزامن مع الإعلان عن فوائض الميزانية التي تحققها دول الخليج العربية المصدرة للنفط، والتي يتوجه الشطر الأكبر منها إلى مشتريات السلاح ـ من الدول الغربية عموماً وأميركا خصوصاً ـ لتعزيز قدراتها العسكرية في مواجهة إيران. وهنا تعلم إيران بأن الميزان العسكري بينها وجاراتها الخليجيات سيبقى على حاله لسنوات قادمة ـ حتى مع مشتريات إضافية خليجية من السلاح ـ، بسبب الميزان الديموغرافي المائل بوضوح لمصلحة إيران (عدد سكان إيران ضعف عدد سكان مجلس التعاون الخليجي)، وبسبب نوعية السلاح الذي تسعى دول الخليج تقليدياً إلى شرائه وغير القادر على إمالة ميزان القوى العسكري لمصلحة الدول العربية الخليجية. تكمن مصلحة المجمع الصناعي ـ العسكري الأميركي، من التوتر السنوي المحسوب في الخليج عبر المناورات البحرية الإيرانية في مضيق هرمز، في الزيادة الدورية لقدرته على تصدير السلاح إلى الدول الخليجية ومراكمة الأرباح. ولأن منطقة حافلة بالتوتر تستهلك من السلاح أكثر بكثير مما تستهلكه منطقة تشتعل لعدة شهور في معارك عسكرية (في حال اندلاع الحرب مع إيران) قبل أن تهدأ لسنوات طويلة بعدها، يبدو بوضوح أن خيار التوتر المحسوب هو الأكثر مناسبة لمصالح المجمع الصناعي ـ العسكري الأميركي.

تشتت طهران قدرة خصومها على حشد الجهود لتوجيه ضربة عسكرية إليها، عبر التأثير في خيارات مجموعات الضغط النافذة في واشنطن. بمعنى آخر تغازل إيران مجموعات الضغط الأميركية النافذة وتكبح اندفاعها المحتمل لتوجيه ضربة عسكرية، في حين تدع دول الخليج العربية تدفع من فوائض ميزانياتها فاتورة الغزل الإيراني. ومثلما تبقي طهران باب المفاوضات الخلفية مع واشنطن مشرعاً طول الوقت للتأثير في خيارات هجوم عسكري محتمل عليها، فإنها تعود لتفرض أمراً واقعاً سواء في ملفها النووي أو حضورها الإقليمي. وبين التصعيد والتهدئة، والتهدئة بالتصعيد المحسوب، يبقى بازار العلاقات الإيرانية ـ الأميركية مفتوحاً على كل الاحتمالات في العام الجديد 2013!.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى