إيران وأوباما: الأسمر النحيل إذ يراقص اللكمات (مصطفى اللباد)


مصطفى اللباد

يثير قرار الولايات المتحدة بوضع شركات وأشخاص مرتبطين ببرنامج إيران النووي على القائمة السوداء، التوقعات بشأن عقبات كثيرة تواجه "اتفاق جنيف" بين إيران والدول الست الكبرى، ويعطي إشارات مخالفة للطابع الاحتفالي الذي يعيشه حلفاء إيران في المنطقة منذ التوقيع على الاتفاق. لا يعني ذلك أن المفاوضات بين الطرفين قد انتهت إلى غير رجعة، حتى مع قرار الوفد الإيراني المتشكل من خبراء تقنيين بالانسحاب من محادثاته مع خبراء من الدول الست قبل أيام قليلة في جنيف، رداً على القرار الأميركي. دلالة الخطوة الإيرانية أن طهران تتخوف من رضوخ الرئيس الأميركي باراك أوباما لمجموعات المصالح النافذة في الكونغرس، وبالتالي قد يكون تشديد العقوبات على القطاعات التي لم يشملها "اتفاق جنيف" مقدمة لتفريغ التفاهم مع إيران من مضمونه القاضي برفع متدرج لكامل العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران في المرحلة النهائية من المفاوضات. اعتبرت إيران الخطوة الأميركية خرقاً لروحية "اتفاق جنيف"، وهددت باتخاذ تدابير مناسبة، لكن الأرجح أن عملية التفاوض بين الطرفين ستستمر بالرغم من ذلك القرار، بسبب المزايا الكامنة في الاتفاق للطرفين.

تفسير خطوة أوباما الأخيرة

كان واضحاً منذ التوقيع على "اتفاق جنيف" أن الأطراف المتضررة من المسكوت عنه في الاتفاق (تفاهم إقليمي بين واشنطن وطهران)، ستحاول تخريبه في مرحلته الأولى عبر عرقلة أوباما عن رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران. عندها سيضغط المتشددون في إيران على إدارة الرئيس الإيراني حسن روحاني لقطع المفاوضات، ليتحقق ما يريد خصوم الاتفاق المتوزعون للمفارقة على الداخل الإيراني، وخصوم إيران الإقليميون وأصحاب المصالح في واشنطن. تتعرض إدارة أوباما إلى ضغوط داخلية عنيفة بسبب الاتفاق مع إيران، وتحاول مجموعات المصالح في أميركا المرتبطة بتحالفات واشنطن في الشرق الأوسط إفشال المفاوضات، التي ستقود حكماً في حال نجاحها إلى تفاهم أميركي -إيراني على ملفات الشرق الأوسط. هكذا انتقل الصراع الإقليمي من ساحات المنطقة ليستقر في أروقة الكونغرس (مصطفى اللباد -"السفير": قراءة في اتفاق جنيف بين إيران والدول الست الكبرى 28/11/2013)، فلا يكاد يمر أسبوع دون مشروعات عقوبات جديدة في الكونغرس من نواب جمهوريين وديموقراطيين على السواء. لاقى وزير الخارجية جون كيري صعوبات كبيرة في جلسة الاستماع أمام الكونغرس التي جرت قبل أيام قليلة لإقناع الأعضاء بعدم فرض عقوبات جديدة على إيران، حتى لا ينهار "اتفاق جنيف". في هذا السياق قال دافيد كوهين، نائب وزير الخزانة لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، في جلسة استماع أمام الكونغرس قبل أيام أيضاً: "يجب علينا ألا نفقد الإجماع الغربي حيال إيران، وإذا فشلت المحادثات ينبغي أن يكون واضحا أن إيران هي السبب لا نحن. سنتشدد في العقوبات التي لم يشملها الاتفاق، حتى نصل إلى حل نهائي". بمعنى أن أوباما يهرب من الضغوط بإظهار القدرة على التشدد في ما لم ينص عليه الاتفاق من عقوبات، بغرض منع عقوبات جديدة من الكونغرس. بمعنى آخر، تريد خطوة أوباما إقناع الكونغرس بأن إدارته لن تكون ناعمة حيال إيران وأنها لن تترك فرصة لتشديد الضغط عليها كلما كان ذلك ممكناً.

خطوة أوباما في السياق الداخلي الأميركي

يمكن النظر إلى قرار أوباما بتشديد عقوبات مفروضة فعلاً على إيران باعتبارها حلقة في سلسلة، لم تبدأ بهذا القرار ولن تتوقف عنده. ويمكن القول إن شهر كانون الأول الحالي قد شهد هجوماً منسقاً على أوباما وتوجهاته الإيرانية، حيث افتتح الهجوم بمقال مشترك كتبه كل من هنري كيسنجر وجورج شولتز وزيري الخارجية السابقين في صحيفة "وول ستريت جورنال" عن واجبات الديبلوماسية الأميركية من الصفقة مع إيران. لا يخفى التأثير المعنوي لكلا الرجلين على صوغ مناخات واشنطن ونخبتها السياسية حيال قضية ما، وبالأخص ما زال حضور هنري كيسنجر ورؤاه في أذهان راسمي السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لافتاً ومؤثراً. لم يشكل المقال هجوماً لفظياً على أوباما، ولكن ما تركه الكاتبان معلقاً بين السطور يقوّض في العمق سياسة أوباما الإيرانية. حذر الكاتبان من خطر الديناميكية الجديدة مع إيران؛ لأن فترة الستة شهور الأولى من الاتفاق قد تصبح "استراحة تكتيكية" على طريق إيران نحو القدرات النووية العسكرية. ولذلك يوصي الكاتبان بوجوب كبح قدرات إيران النووية في المفاوضات الدائرة الآن؛ عبر تخفيض استراتيجي ملحوظ في عدد أجهزة الطرد المركزي التي تملكها، فضلاً عن منع إيران نهائياً من القدرة على فصل البلوتونيوم في مفاعل أراك. حلل الكاتبان مشكلة التفاوض على برنامج إيران النووي باعتبارها مشكلة عويصة، إذ اعتبرا أن قلب المشكلة يتمثل في امتلاك إيران بنية تحتية نووية ضخمة نسبياً، فضلاً عن مخزون من اليورانيوم المخصب يفوق بمراحل الكميات اللازمة لبرنامج نووي مدني (تسعة عشر ألف جهاز طرد مركزي، وسبعة أطنان من اليورانيوم المتدني التخصيب لدرجة ثلاثة ونصف في المئة إلى خمسة في المئة، وحوالي مئة وستة وتسعين كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب إلى درجة عشرين في المئة، ومفاعل تحت الإنشاء يعمل بالمياه الثقيلة في أراك سيكون قادراً على إنتاج البلوتونيوم). وأشار الكاتبان إلى اعتقاد بعض الخبراء النووين أن مئتي كيلوغرام من اليورانيوم المخصب إلى درجة عشرين في المئة قد تشكل المادة الخام لبرنامج نووي عسكري إيراني في المستقبل. يعرقل الكاتبان، كيسنجر وشولتز، بمهارة عالية القدم الثانية لأوباما، فالقدم الأولى تعرقل فعلياً في الكونغرس الآن. يريد الكاتبان بالملموس عرقلة قدم أوباما الثانية عبر رفع سقف المفاوض الأميركي خلال المرحلة الانتقالية الراهنة؛ ليضطر إلى انتزاع ما اتفق على التباحث بشأنه في المرحلة النهائية.
خلص الكاتبان في نهاية المقال إلى أن مهمة الديبلوماسية الأميركية يجب أن تتلخص في ثلاثة ملفات: أولاً تحديد مستوى البرنامج النووي الإيراني بما يتوافق مع طبيعته السلمية، ثانياً تشكيل إجراءات رقابية مستدامة بأن المستوى المتفق عليه للبرنامج النووي الإيراني لن يتم تجاوزه في المستقبل، وثالثاً ترك المجال لبناء علاقة بناءة مع إيران وتصميم سياسة شرق أوسطية جديدة وفقاً للمتغيرات الجديدة. ولا يخفى أن الأهداف الثلاثة تقع بعد انتهاء المرحلة الانتقالية لا خلالها، ما سيدفع المفاوض الأميركي في حال تبنيها إلى التشدد أكثر راهناً، وبالتالي تقوية المتشددين في إيران للضغط على روحاني للانسحاب من المفاوضات على اعتبار أن إيران لا تجني مكاسب منها توازي ما تقدمه من تنازلات.
لم ينته الهجوم داخل أميركا على "اتفاق جنيف" عند هذا الحد، بل ان أوباما ذهب إلى مركز «حاييم صبان للشرق الأوسط» التابع لمؤسسة «بروكنغز» في واشنطن، ليقدم تطمينات علنية لإسرائيل ـ المركز المذكور قريب منها – وليستدعي من القاموس الرئاسي الأميركي عبارة نسيها العالم منذ زمن جورج دبليو بوش: "كل الخيارات المفتوحة بما فيها الخيار العسكري ضد إيران". وإذ أغفلت وسائل الإعلام العربية التغير النسبي في اللهجة الأميركية الرئاسية حيال إيران، إما استمراراً في أجواء الاحتفال (حلفاء إيران في المنطقة) أو لأجواء التشاؤم من الاتفاق الضمني الأميركي -الإيراني (خصوم إيران في المنطقة)، لا يمكن للمتفحص إلا أن يرصد تشدداً أميركياً في حدود حيال إيران. لا يعني ذلك أن المفاوضات قد تم تخريبها بالفعل، فالمكاسب التي يتوخاها الطرفان منها ما زالت أكبر بكثير من التعرج الحالي في تفسير بنود "اتفاق جنيف". وفي المقابل، لا يمكن تجاهل الإشارات المتتالية الواردة من واشنطن، حيث يشتعل الصراع على "اتفاق جنيف" بغرض تخريبه وإلحاق الهزيمة الديبلوماسية بأوباما وإدارته.

أوباما الملاكم النحيل

ربما تكون خطوة أوباما، بتشديد العقوبات الاقتصادية على إيران والتي لا تشملها المرحلة الأولى من "اتفاق جنيف"، ذكية لمراوغة الضغوط الداخلية الأميركية عليه، ولكنها قد تكون أيضاً سابقة يبني عليها خصوم إيران في واشنطن لانتزاع المزيد منها في الفترة المقبلة. يبدو باراك أوباما في سعيه لمراوغة الضغوط على سياسته الإيرانية مثل ملاكم أميركي محترف: أسمر البشرة ممتلكاً القدرة على الرقص والمراوغة على الحلبة وإثارة حماسة المتفرجين. لكن المتفحص أكثر في ما يجري سيكتشف أن أوباما يلاكم أطرافاً متعددة في الوقت ذاته لا طرفاً واحداً، كما أنه يصارع خصوماً غير مرئيين، فوق الحلبة وتحتها في آنٍ معاً. وفي النهاية لن تغيب عن فطنة المتفحص حقيقة أن بنية أوباما النحيلة سيصعب عليها تحمل مجموعات إضافية مقبلة من اللكمات الخطافية. الأرجح أنه علينا الانتظار بعض الوقت لمعرفة النتيجة النهائية، حتى ذلك الحين، ومثل كل مباريات المنطقة الأخرى التي لا ناقة لك فيها ولا جمل، لا يبقى أمامك ربما أيها العربي سوى التسمر أمام المباراة وعلك حبات الذرة المقرمشة… أو تجرع مشروب غازي بارد!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى