استعصاء التاريخ..! (ماهر سليمان العيسى)

ماهر سليمان العيسى

 

ربما يكون أحد أوجه المهارة السياسية بتعريف مبسط، هو إنتاج أو تخليق واقعٍ على الأرض يفرض على الخصم والحليف الاعتراف به والتعاطي معه باعتباره واقعا؛ وهذا نوع من المهارة التي تتوفر فقط لدى قوى تمتلك الموارد اللازمة لذلك، أو القوى التي تجيد أو تملك خبرة الاستفادة من التناقضات والصراعات لدى أصحاب الموارد كي تخلقه لنفسها وتستفيد من وجوده، وهذه مهارة وخبرة نادرة لا نطمع أن تكون متوفرة حالياً لدى السوريين .
ومن الأكيد أيضاً أن يكون للركود الاستنقاعي؛ الأثر العميق في الحياة السياسية والتنظيمية السورية على مدى نصف قرن كاملة، حيث استمر متراكماً لهذه العقود حتى ألفته وتعايشت معه الأطراف الدولية والإقليمية، راضية به مادام يؤدي الغرض المطلوب منه، ويجب ألا ننسى أن هذا من الاستنقاعات القليلة التي باركتها كل القوى الدولية والإقليمية بما فيها الأصدقاء والحلفاء والأعداء!.
لهذا من الطبيعي أن يكون الناتج، كما نراه، العجز والتوهان في أوساط المعارضة السورية جراء التجريف اليومي والمستمر، الذي دام لأكثر من أربعين عاماً للرحم الوطني السوري على المستويين السياسي والتنظيمي، ومن الطبيعي أن تفشل هذه المعارضة في تنظيم نفسها، وأن تعجز عن اجتراح إستراتيجية سياسية ناضجة وشاملة وموحدة للتغيير، منسوجة بمعايير علمية ومهنية، ومن الطبيعي أيضاً أن لا تكون قادرة على إقناع الأطراف الدولية المختلفة بقدرتها على الإمساك بزمام الأمور، وتقديم نموذجها للإدارة السياسية "حيث لا تفهم معاييرها"، فما بالكم في إدارة صراع أغلب؛ إن لم نقل جميع أدواته ومدخلاته ومخرجاته خارج تحكمها أو حتى خارج آليات فهمها.
لقد تطورت الرياح السورية تدريجياً إلى إعصار عرف باسم الثورة السورية، فرضت نفسها على العالم كحدث أول، وخلطت كل الأوراق وحركت المياه الآسنة إلى مستوى الأمواج، ورمت فيها عديد الكيميائيات المتفاعلة، فأنتجت الغليان في غير جهة وزاوية، ما أربك كل الذين وضعوا طويلاً أقدامهم في الماء البارد الآسن متناسين ومنسجمين مع أسانته وجعلهم يتقافزون، أو يبتعدون تفرغاً للمشاهدة بعد أن تحول إلى ماء يغلي!.
هنا لا يختلف أحد أن الأكثر تقافزاً والتساعاً في هذا الغليان هو المعارضة السياسية السورية، التي اتضح أنها صدمت بحجم المهمة وطبيعة الكفاءة المطلوبة منها، دون أن تكون مستعدة لها أو مدركة لواجباتها، فقد اقتصرت كل خبراتها السابقة على الالتفاف حول نفر قليل من منتجي الأفكار الحالمة بالحرية والعدالة، دون أن تبحث أو تخبر  ولو لمرة واحدة، كيف يمكن أن تنزل الفكرة الوردية من السحاب إلى الأرض..! أو كيف ولماذا تعد الاستراتيجيات وخطط الطريق؟ وما الفرق بينها وبين آليات تنفيذها؟.. فدخلت في "حيص بيص"، وأولى ردود فعلها أن انقسمت إلى ثلة ورطت نفسها بالاختباء تحت عباءة التوافقات الدولية، واستطابت أن يطلق عليها مؤقتاً اسم "المعارضة الداخلية" إلى أن سحب الاسم منها لصالح أطراف، أكثر داخلية! فيما تلطى القسم الآخر "معارضة الخارج" وراء شعارات الثورة للاحتماء بها دون القدرة على خدمتها، منتظراً ومراهناً أن يصل المجتمع الدولي إلى قناعاته ويدعمه مالياً وعسكرياً.. هذا رغم أن الأطراف الدولية أقرت بوجوب التغيير، إلا أنها ومنذ اليوم الأول أوضحت "ألا مصلحة لها في تغيير لا يعرف مداه..!".
وهذا لأسباب تتعلق بالتوازنات الدولية وتقاسم مناطق النفوذ، وعدم الرغبة في التورط بإحداث تغيير دراماتيكي في جزء ذي حساسية خاصة من العالم، فاتورته ليست واضحة، فاتفقت الأطراف الدولية على إعادة توصيف بنية الجسد الوطني السوري باعتباره مجمع "دمامل" للطائفية والأقلية، لكل منها حقوق ويجب أن تطمئن! في نظرة ذرائعية لا تبعد كثيراً عن المفاهيم الاستشراقية، وعلى هذا اختار الجميع الانتظار لعل الواقع والأرض ينتجان ما يمكن أن يغير المعادلة ذاتياً، أو أن ينتشر فعلاً كناتج لصراع داء الدمامل "الاستشراقي" في الجسد الوطني السوري، ليعتل تماماً وينهك ويتشظى، فيشخص أكثر وتصبح الفواتير المطلوبة أكثر دقة ووضوحاً والحصص المحتملة أكثر تحديداً، لهذا فالانتظار والمشاهدة البليدة للمشهد الدموي السريالي، كان خيارهم الأمثل، هذا في الوقت الذي استمر  فيه داعمو النظام بسخائهم فهو يقاتل عنهم .. ثم عنه..!
هذا تحديداً ما دفع معارضة الخارج للانكفاء أكثر على عجزها بعد أن تفاقم إحراجها وشللها، ولم تجد أمامها إلا الاستمرار في ترديد مقولاتها عن الظلم والدمار والدماء الطاهرة التي تهرق. وبمعنى أوضح لم تجد من بد إلا ممارسة "الممانعة" الثورية في استعارة من لدن النظام وإبداعاته.. حتى غضب منها من رأى أن صوتها ودورها أصبح مجرد "نق وتشويش!" وعجز عن المواكبة وفشل في الجاهزية حين الطلب. فأجبروها على إعادة إنتاج نفسها بمسمى جديد، وبإضافات جديدة وقديمة لا تزيد ولا تنقص عنها كفاءة وخبرة، مؤونتها وعود وعهود جديدة يسوّق ويلاك ورقها عبر وسائل الإعلام كغذاء بديل، يستهلك في الوقت الإضافي اللازم صرفه انتظاراً حتى تنضج طبخة حلٍ "ما"! مكوناتها لحم السوريين البسطاء، ووقودها دماؤهم، ووعاء الضغط الذي تطبخ فيه هو مخيمات اللاجئين في الداخل والخارج التي تنتهك أبسط مقومات إنسانيتهم. وتحولهم بالحد الأدنى من بشر إلى أرقام!.
في سياق هذه التراجيديا السوداء تتالت الانقسامات والإستنباتات المعارضة، عبر مجموعات غاضبة أو ناشئة هنا وهناك، تبحث عن دور لها أو عن فعالية أكثر جدوى، بعد أن شعرت بالفراغ وتأكدت من استمراره، وأنست لنفسها أنها قادرة على ملئه؟! ولم تتردد بعض المستنبتات الفطرية بالخارج في الاستفادة من الحاجة وضنك العيش، والخوف على الحياة الذي انتشر في كل زاوية من المدن المنكوبة، فوجدتها سوقاً واعدةً لشراء الذمم، والتجارة السياسية والعقائدية!.
من جهتها وفي عالمها المنفصل؛ استمرت الثورة من حيث كونها فعلا شعبيا عريضا، تنمو وتتسع وتأخذ أشكالاً عديدة وتدخل وتخرج منها قوى مجموعات مختلفة دون تحكم أو ضابط إيقاع؛ محرضها الأول على الاستمرار والتكاثر والانشطار، هو عنف النظام الجنوني وخياراته البلهاء، التي لا يمكن أن توصله إلى أي هدف يتضمن نجاته والحفاظ على البلاد في آن واحد، فاستخدامه العاري لامتيازه الوحيد "وحدات عسكرية وأجهزة أمن بصبغة طائفية تفرغ طويلاً لإعدادها لمثل هذه الأيام"، كان له أكبر الأثر في التحريض اليومي على الثورة وعلى تجذريها وتوفير وقودها، بل تحولت إلى أهم تبرير لشعارات الثورة التي حسمت مسألة بقاء هذا النظام أو بقاء أي جزء منه، بعد أن أصبح لكل بيت في سوريا ثأر معه، وبعد أن أكدت الأغلبية الساحقة رأيها في أنه المهدد الأول لوحدة البلاد ومصيرها.
الثورة السورية الآن بتعقيداتها ومفرزاتها ومكوناتها والمؤثرات عليها، أكبر بكثير من أن تحصر دون بحث تفصيلي ومنهجي، والمأزق الآن في الاتجاهات المتعاكسة التي تدفع بهذه الثورة إلى التشظي، يلاقيها في المقلب الآخر انحسار النظام الذي استقال مبكراً من مهمته السياسية بل والخدمية أيضاً، واختصر نفسه ودوره بعسكريين وأمنيين طائفيين أو مجموعات من القتلة!، كل هذا أنتج فراغاً سياسياً قابلا للتوسع دون هدى، واستمراره قابل فعلاً لأن يحول سورية إلى دولة فاشلة!، وبهذا لن ينتج التاريخ ناتجه الطبيعي والإيجابي، ونكون فعلاً قد دخلنا في مرحلة استعصاء التاريخ!.

وكالة نوفوستي الروسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى