الأحزاب النائمة في سورية (4): حزب البعث، مفارق الطرق !

حسم حزب البعث العربي الاشتراكي الصراع على السلطة مع الناصريين لصالحه في 18 أيلول 1963 بعد القضاء على حركة العقيد الناصري جاسم علوان، فاعتقل وأحيل إلى محكمة عسكرية ترأسها اللواء صلاح الضللي، ثم مالبث أن نجا من حكم الإعدام إثر تدخل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتخفيف الحكم عليه ونفي إلى القاهرة..

على هذا الأساس، بقي حزب البعث وحيدا في السلطة، وشرع في التأسيس لبرنامج ((ثورة)) على الإقطاع، إلا أن أجنحته الكثيرة لم تتوافق فيما بينها، وهذا ما جعل المرحلة الانتقالية تمتد بين آذار 1963 وبداية مرحلة الاستقرار 1970، وفي أجنحته كان يمكن ملاحظة تيارات يسارية وأخرى قومية وأخرى وسطية ناهيك عن وجود نزعات انقلابية عند بعض الضباط للاستيلاء على السلطة بمعزل عن الحزب !

صباح الثالث والعشرين من شباط عام 1966، كان كل شيء متوقعا في الصراع بين تلك الأجنحة، وكان الفريق الركن محمد أمين الحافظ يتولى موقع رئيس قيادة مجلس الثورة ويمثل فريقا حزبيا شهيرا يقوده ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومنيف الرزاز، لكنه كان يترقب تحركا عسكريا ضد جناحه ، وهذا ما حدث فجرا !

في ذلك الصباح هوجم بيته ((قصر الروضة حاليا)) وقطعت الاتصالات عنه، ومع ترامي صوت الاشتباكات في منطقة القصر على امتداد شارع قصر الضيافة ونوري باشا، عرف السوريين أن انقلابا قد وقع، وسميّ هذا الانقلاب الذي نجح خلال ساعات، والذي رافقته معركة حامية الوطيس، سميّ : حركة 23 شباط !في محصلة تلك الحركة غادر جناح القيادة القومية الذي عرف باليمين القومي الحزب، وانحصر الحكم بجناحين هما الأقوى في تلك المرحلة وأولهما ((جناح اللواء صلاح جديد)) ومعه الدكتور نور الدين الأتاسي والدكتور يوسف زعين والدكتور ابراهيم ماخوس ، وأطلق عليه الشارع السياسي فيما بعد اسم : (( جناح الشباطيين)) ، وتولد عنه حزب البعث الديمقراطي وهو الآن في المعارضة الخارجية..

أما الجناح الثاني، فهو ((الجناح المعتدل الوسط)) ويقوده وزير الدفاع آنذاك اللواء حافظ الأسد وكان معه اللواء مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وعبد الله الأحمر ..

ولم يمتد حكم حركة 23 شباط طويلا، إذ مالبث الصراع أن تجدد في المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي وتمكن ((الجناح المعتدل)) من حسم الصراع لصالحه ، وبدأت مرحلة طويلة في الحياة السياسية السورية امتدت حتى رحيل الرئيس حافظ الأسد في حزيران عام 2000 .. لابد من ملاحظة هامة في هذا السياق هي أن حزب البعث كان من أقوى الأحزاب السورية، وكانت شعاراته قد استقطبت فئات واسعة من الفلاحين الذين عانوا من الإقطاع إضافة إلى بعض المثقفين والمعلمين والبرجوازيين الصغار.

لم تكن تلك هي حالات الصراع الوحيدة التي شهدتها الحياة الحزبية للبعث، فكان هناك جناح ضعيف كان يقوده رئيس مكتب الأمن القومي عبد الكريم الجندي ، وفي وثائق الحزب حديث عن مؤامرة عرفت بمؤامرة الثامن من أيلول عام 1966، حيث احتجز الرائد سليم حاطوم كلا من الدكتور نور الدين الأتاسي رئيس الدولة، والأمين القطري المساعد للبعث اللواء صلاح جديد في محافظة السويداء، ورفض إثرها اللواء جديد المُحتجز أي مساومة مع حاطوم، وانتهت الأزمة بالإفراج عن المُحتجزين، وفرار سليم حاطوم إلى الأردن.

لقد أسست هذه الشبكة من الصراعات بين الأجنحة في حزب البعث إلى شكلين من الاستمرارية للاتجاهات السياسية فيه ، أقواها الشكل الذي أنهى الصراعات في صفوفه، وتولى حكم البلاد بعد صياغة دستور دائم ومجلس شعب وجبهة وطنية وكان الرئيس الراحل حافظ الأسد يقوده طيلة ثلاثين عاما، وبعده انتقلت رئاسة الجمهورية إلى الرئيس بشار الأسد.. أما بقايا الأجنحة الأخرى ، فظل يعمل بعضها في الحراك السياسي السوري، وسعت مجموعات منها للتأسيس لمستقبل سياسي ما ضمن مشروع خاص ، ويمكن الوقوف اليوم عند مجموعة من المعطيات خلفتها تلك الذاكرة :

أولا : أن التيار القومي الذي وجد مكانا له في العراق شكل مجموعات بعثية شاركت في الصراع الذي دار مع الإخوان المسلمين في مطلع ثمانيات القرن الماضي، ويسمى في وثائق الصراع الذي أصدرتها القيادة القطرية السورية : اليمين المشبوه ، ومع نهاية حكم صدام حسين عاد الرئيس الأسبق أمين الحافظ إلى سورية وقدم له الرئيس بشار الأسد ما يحتاجه للإقامة إلى أن توفى ، فيما تراجعت أي تمثيلات له في الصراعات القائمة..

ثانيا : حزب البعث الديمقراطي، وهو تكوين سياسي جمع كل من تمسك بالولاء لمبادئ حركة 23 شباط ((جناح الشباطيين)) ومن رموزه : الدكتور ابراهيم ماخوس، وعقد مؤتمرا عاما في أسبانيا في ثمانيات القرن الماضي ، وبرز من بين أعضائه في الأزمة الحالية : عقاب اليحيى ومنذر خدام المتحدث باسم هيئة التنسيق(الآن)، وتراجعت أسماء قيادات معروفة منه ((حسين مصطفى وآخرون )) ..

وأطلق أحد كادراته وهو الكاتب والمخرج المسرحي غسان الجباعي، المعارض، حزبا خارج البلاد هو ((حزب الجمهورية)) .

ثالثا: انضمت قيادات بعثية يسارية إلى الأحزاب الموجودة، فمنها من ذهب إلى جناح رياض الترك في الحزب الشيوعي، ومنها من ذهب إلى رابطة العمل الشيوعي الممنوعة. ومن الكادرات النشطة التي ابتعدت عن صفوف جناح الشباطيين الدكتور عبد العزيز الخير الذي انضم إلى رابطة العمل الشيوعي مع المهندس عصام دمشقي وآخرون، ثم تزعم هذه الرابطة التي صار اسمها حزب العمل بعد اعتقال رموزها المعروفين : فاتح جاموس وأصلان عبد الكريم وحسام علوش ووائل السواح . والدكتور الخير اختطف من قبل مجهولين منذ عدة سنوات بعد عودته من مؤتمر للمعارضة في القاهرة.

((.. يتبع))

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى