الأسد يَعترف بإفشال المَشروع الغَربي لتفتيت بلاده ولكنّه يَتحفّظ عن الحَديث عن إعلان النصر

أن تَبث قناة “الجزيرة” خِطاب الرئيس بشار الأسد على شاشتها، وهي التي احتضنت بلادها النّواة الأولى للمُعارضة السورية (المجلس الوطني)، وأن تَصفه لأوّل مرّة بالرئيس السوري بعد سبع سنوات من وصَفه برئيس النظام، فهذا يعني حُدوث مُتغيّرات كثيرة في المَشهدين السوري والإقليمي معًا، بات من الصّعب تجاهلها والقَفز عنها، لكل من أراد الموضوعيّة والمهنيّة.

تركيز الأضواء على هذهِ الظاهرة المُلفتة للنّظر، لا يبخس الخِطاب حقّه في الأهميّة، فهو في رأي هذه الصحيفة “رأي اليوم” من أهم الخِطابات التي ألقاها الرئيس السوري مُنذ بِدء الأزمة في بلاده، لما تضمّنه من معالم خريطة طريق نحو المُستقبل، نحو “سورية الجديدة”، كما يراها تحديدًا.

الخِطاب الذي أُلقي في افتتاح مؤتمر لوزارة الخارجية السورية يوم أمس، عَكس ثقة صاحبه، واطمئنانه لخُروج سورية من عُنق الزجاجة، وسَيرها على طريق التعافي بشكلٍ مُتسارعٍ، واستعدادها لمَرحلة إعادة الإعمار، ماديًّا ونفسيًّا.

الرئيس الأسد أشاد بالحُلفاء ودورهم في صُمود بلاده في وجه المُؤامرة، وتوقّف بالذّات عند روسيا والصين، ودون أن يُغفل إيران وحزب الله، مثلما وجّه انتقادات حادّةً إلى الغرب، والولايات المتحدة الأمريكية التي وقفت في الخندق المُعادي لبلاده، ولعبت دورًا كبيرًا في الدّمار الذي حلّ بها.

المُحلّلون الإسرائيليون اعتبروا هذا الخطاب بأنّه خِطاب ما قبل إعلان النصر الذي أصبح قريبًا، وقال أحدهم على أحد القنوات التلفزيونية الإسرائيلية الرئيسية “أن العجلة لم تنقلب على الأسد، بل إن الأسد هو الذي يَنقلب عائدًا إلينا”، وعندما ننقل رأي هؤلاء الأعداء، فالغَرض من ذلك التذكير بشأن براهينهم شِبه الرّاسخة على سُقوط النظام السوري، وانضمامهم إلى القائلين، وعلى أعلى المُستويات، بأنّ أيّام الأسد باتت مَعدودةً.

ما بثّ الخَوف في نُفوس الإسرائيليين في اعتقادنا أن الرئيس الأسد أعاد التأكيد في هذا الخطاب على الثوابت التاريخية السورية، وهي أن إسرائيل هي العَدو المُحتل، وأن الهوية العربية لسورية راسخة وليست مَوقع نقاش، وأن دعم بلاده للمُقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي سيستمر ويتصاعد، وأن وحدة سورية الجغرافية والديمغرافية لا تنازل عنها مُطلقًا.

النّقطة الأبرز في هذا الخِطاب أيضًا، أن الرئيس السوري تجنّب الشعارات الرنّانة، مِثلما تجنّب إعلان الانتصار عندما قال “إفشال المشروع الغربي لا يعني أننا انتصرنا، هم فشلوا (أي الغرب وحُلفائهم)، ولكن المَعركة مُستمرّة”.

من الواضح أن الرئيس السوري استوعب كل دروس الزّعماء الآخرين الذين راهنوا على الغرب ووضعوا كل بيضهم في سلّته، واطمأنوا لحِمايته، وانتهوا بطريقةٍ مأساويةٍ، مثل الرئيس الفلسطيني الرّاحل ياسر عرفات وتوقيعه لاتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض، أو الرئيس حسني مبارك، ونظيره التونسي زين العابدين بن علي، وقبل هؤلاء جميعًا شاه إيران، وماركوس الفلبيني، والقائمة تطول، وهذا ما يُفسّر قوله في الخِطاب أن الصمود في وجه المُخطّطات الغربية ومُؤامراتها، على طريقة إيران وكوريا الشمالية وكوبا، هو الخيار الأشرف والأقل كُلفة في نهاية المَطاف.

وانطلاقًا مما تقدّم، يمكن الإشارة إلى ما قاله في الخطاب من توصيات للحُكومة والسفراء، بالتوجّه إلى الشرق، إلى الهند والصين وروسيا والدول الآسيوية كخيارٍ استراتيجي، والتأكيد بأنه لن يكون هناك أي تعاون أو فتح سفارات مع أي دولة “إلا إذا قطعت علاقاتها بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ، لا لبس فيه، مع الإرهاب والإرهابيين”.

غابت نغمة “رحيل الأسد سِلمًا أو حربًا” عن ألسنة خُصومه، وشاركت 43 دولة في معرض دمشق الدولي، وبدأت دول أوروبية وعربية تُؤكّد “أن الأسد باقٍ”، وأبرزها فرنسا والمملكة العربية السعودية، وهذا الاعتراف يَعكس تسليمًا بالواقع السوري، وانهزام المشروع الأمريكي.

يَظل لِزامًا علينا أن نُعيد التأكيد مُجدّدًا بأن “سورية الجديدة” التي يتطلّع مُعظم السوريين إلى صُعودها من بين رُكام الحرب والدمار، يجب أن تَقطع صِلاتها بكُل مُمارسات الماضي التي ساهمت في وُصول البلاد إلى ما وَصلت إليه، “سورية الجديدة” يجب أن تتحقّق فيها المُساواة وتتجذّر، على أرضية الحُريّات الديمقراطية وحُقوق الإنسان والتعايش بين كل الطوائف والأعراف في إطار من المحبّة والاحترام، وتَحقيق المُصالحة الوطنية، وحينها يُمكن الاحتفال بالنّصر بمُشاركة كل السوريين وحُلفائهم، فرأسمال سورية وثَروتها الحقيقيّة هم أبناؤها المُبدعون الخلاّقون، ولا نَصر دون عَودة هؤلاء ومُشاركتهم في بناء مُستقبل بلادهم، في أجواء من التقدير والاحترام الذي يَستحقونه، ولا نعتقد، أن الرئيس الأسد لا يُدرك ذلك، أو هكذا نأمل.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى