الإخوان السوريون… كلام ما قبل السلطة! (صلاح نيوف)

هل سيلتزمون بما وعدوا: ‘حماية المواطنين من الاستبداد، والاستعباد، والقوانين الجائرة، والأحكام العرفية، ومن أي شكل من أشكال الظلم’.

منذ نشوء حركات الإسلام السياسي في سورية، كان من أهم ثوابتها غير القابلة للتغير، هو أن ينص دستور الدولة على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، ورغم ظهور هذه الحركات بمظهر احترام الأقليات الدينية الأخرى، الموجودة في سورية، في حالات الاستقرار أو الحالات الطبيعية، إلا أنها ما تلبث أن تنسى عهودها ومواثيقها، في حالة الأزمة أو اللا استقرار، ويكون العنف أحد خياراتها المتاحة، بحيث إنها لم تستطع التوصل إلى قرار نهائي وجماعي لا رجعة عنه؛ باستبعاد العنف المسلح، كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية أو طائفية.
إن الموافقة على مطالب هذه الحركات، بتحديد دين الدولة، هو إنكار لتاريخ البلاد منذ وجودها، لأن هذا التحديد يعني في الوقت نفسه، أن التاريخ السوري لم يبدأ إلا مع دخول الإسلام إلى سورية، وأن مفهوم الأغلبية والأقلية، ليس مفهوماً متداولاً في اللعبة، أو الصراع السياسي، أي ليس مفهوماً مرناً، متحركاً ومتطوراً، بل هو مفهوم أبدي أزلي مصدره الشرائع السماوية، أي أنه ثابت لا يتغير.
وةهذا تناقض كبير، لأنه لو كان مفهوم الأغلبية/الأقلية ثابتاً لا يتغير لما كان السنة في سورية في لحظة تاريخية معينة، أصبحوا في العدد هم أكثر من نصف السكان، أما بعض زعماء هذه الحركات القائلين: إن سورية بلد إسلامي كبقية الدول العربية الأخرى، فإن هذا قول مجافٍ للحقيقة، والسبب أنها مثل مصر ولبنان، تشكل استثناءً في التركيب الطائفي والديني، بمعنى آخر، ما يمكن تطبيقه في بلدان إسلامية «خالصة»، لا يمكن تطبيقه في بلد شديد التنوع؛ لأنه في حالة «أسلمة» مؤسسات دولة متنوعة طائفياً ودينياً، فإنه وفي ظروف وبنية التفكير العربي/الإسلامي القائمة، ستقود هذه العملية إلى اللاستقرار الدائم.
منذ دستور سوريا الشهير، في العام 1950، قاد الإسلام السياسي في سوريا حملة؛ لتضمين الدستور مادة «الإسلام هو الدين الرسمي للدولة»، وليس ديناً لرئيس الدولة. وفي العام 1958، وأثناء الوحدة السورية المصرية، لم ينص الدستور على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمية، ما أدى إلى انتفاضة ليس في سوريا فقط، بل ومعها مصر أيضا؛ لتعود الأزمة أيضاً من جديد مع دستور الجمهورية العربية السورية، في العام 1973، كما ذكرنا، فأسلمة دستور الدولة، من أهم أهداف تلك الحركات في بناء الدولة، وقد عبر الإخوان المسلمون عن ذلك، في بيانهم الشهير.
اعتبر الإخوان المسلمون، في سوريا، أنفسهم حملة راية الجهاد، في جميع بياناتهم ومبادئهم، الصادرة في أوقات السلم و«الحرب»، أما هدف هذا الجهاد، فهو إقامة شريعة الله في الأرض؛ للقضاء على «الشر والظلام والجاهلية».
يذكر هنا أن مؤسسي «الإخوان» في سوريا، كانوا أكثر انفتاحاً واستشرافاً للمستقبل، من الأجيال التالية، التي تزعمت هذه الحركة، ونتذكر في هذا الصدد قول محمد المبارك: «يجب علينا العمل من أجل تقوية جميع الأديان، الإسلام والمسيحية معاً، فكلاهما يدعو إلى: التسامح، والأخوة، والعدالة، نحن نريد نهضة الإسلام، وليس إحياء التعصب».
وكان مصطفى السباعي يحمل الأفكار نفسها، حول تضامن الأديان، أما عما ورد في البيان، نذكر المقطع التالي: «إن الثورة الإسلامية، في سوريا، ترى في بروز الاتجاهات الطائفية، منذ بواكيرها في التاريخ الإسلامي، مؤشراً على السقوط والانهيار»، مع ذلك نلاحظ التناقض الدائم في فكر هذه الحركات بين النظرية والتطبيق، فرغم هذا الفهم العميق للتاريخ الإسلامي، إلا أن هذا لم يمنعها من القتل على الهوية في لحظات الأزمة.
على صعيد رؤيتها المستقبلية، تركز الحركة في بيانها أو «المنهج البديل»، على العديد من النقاط، سنبينها بشكل مختصر بعد تقديمها بشرح لسعيد حوى، يبين فيه أسس «الإخوان» في ثورتهم الإسلامية: «إن جوهر حركة الإخوان المسلمين، هو أنها حركة تجديدية للإسلام، وللشخصية الإسلامية؛ بالسير في الطريق العملي لذلك، وهذا يقتضي أن تكون لهم نظريتهم الثقافية والتربوية، وأن يكون لهم نظامهم وتنظيمهم، وأن تكون لهم استراتيجيتهم المحلية والعالمية، وأن تكون لهم خطتهم العملية؛ لتحقيق أهدافهم واحداً فواحداً؛ لتنال هذا العالم رحمة الإسلام».
أما بالنسبة للبرنامج المستقبلي، والذي صدر في دمشق، في 9/11/1980، عن «قيادة الثورة الإسلامية في سوريا»، باسم سعيد حوى، علي صدر الدين البيانوني، وعدنان سعد الدين، فأهم نقاطه، هي:
«الثورة الإسلامية الزاحفة في سوريا، تعلن بأعلى صوتها أن حاجة الأمة إلى استعادة حرياتها، كحاجتها إلى الهواء والماء والغذاء، إن حركة الجهاد المباركة لتعلن على الملأ لكل المواطنين، وللناس أجمعين المبادئ الدستورية التالية:
المساواة بين المواطنين: الناس كلهم عيال الله (…) وهم جميعاً متساوون أمام القانون، لا يستثنى من ذلك أحد، مهما بلغت منزلتُه.
حماية المواطنين: من أولى واجبات الدولة: حماية المواطنين من الاستبداد، والاستعباد، والقوانين الجائرة، والأحكام العرفية (…)، ومن أي شكل من أشكال القوى الظالمة في المجتمع.
الحفاظ على كرامة المواطنين: ضمان حرية المواطن من التعذيب الجسدي والنفسي (…)، واعتبار أي لون من ألوان التعذيب جريمة، يحظرها الدستور، ويعاقب عليها القانون، وإلغاء السجون السياسية، التي أصبحت تنافس المدارس في عددها.
الثورة الإسلامية تعلن استمساكها بالشورى، وحرية تأليف الأحزاب السياسية، والدعوة إلى فصل السلطات، إن هذه الحقوق ليست صادرة عن رأي شخصي، أو اجتهادي فقهي طارئ، أو موقف تكتيكي، أو قرار حكومي، وإنما هي من أحكام الإسلام الأساسية، التي أثبتتها النصوص، وطبقها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأي مساس بها أو تساهل فيها، إنما هو خروج على قواعد إسلامية ثابتة.
واجتماعياً إعلان الأخوة بين الناس، والنهوض بالرجل والمرأة جميعاً، وإعلان التكامل والمساواة في الحقوق، وحماية الطفولة ورعايتها، ورعاية اليتيم وكفالته، وتشجيع الزواج ودعمه، وحماية الأسرة، وتوفير الحاجات الأساسية للناس، وتأمين العلاج والمسكن للمواطنين، وتوفير العمل للقادرين عليه، ومحو الأمية، ومكافحة الجريمة.
المشروع الذي وضعه «الإخوان»؛ لمواجهة التحديات السياسية والفكرية، في القرن الواحد والعشرين، ومحاولة منهم لتلافي أخطاء ماضية، ورغبة في التجديد. يتألف المشروع من كتابين رئيسيين:
الأول: المنطلقات الفكرية والنظرية، التي تشكل خلفية المشروع.
الثاني: سياسات المشروع والبرنامج العملي.
والمشروع بأكمله موجود على الموقع الإلكتروني لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا؛ لذلك نفضل هنا إبداء ملاحظتين عليه، بدلاً من عرض أفكاره المتيسرة للجميع، والتزاماً بالمساحة المعطاة لكتابة هذا البحث.
بالنسبة لمرجعية الفكر السياسي الإخواني، يشير المشروع إلى أن «الشريعة الإسلامية في مصدريها الخالدين: الكتاب والسنة، هي مصدر رؤيتنا لصياغة مشروع حضاري».
بالنسبة «للكتاب»، فإننا نعتقد بأنه ليس تحليلاً سياسياً، ولا فلسفة أو نظريات سياسية، كما أن النبي العربي، ليس كاتباً أو مُنظراً ومؤلفاً للعديد من الأعمال السياسية، فهو قائد سياسي، ربما من طراز نادر، ولكنه لم يكن مُنظراً سياسياً، كما تريد له جماعات الإسلام السياسي.
والمشكلة الثانية الفكرية السياسية أمام «الإخوان»، أن مصدرها ليس داخل العقل، بل داخل الوحي، فهي من مصدر غريب عن هذا العالم، وعن الإنسان الباحث عن اكتشاف محيطه، إنها تأتي من الله «صاحب السيادة»، فكيف نغير ونقوم بالإصلاح والتجديد -كما يدعي الإخوان- لكلام مرسل إلينا من السماء.
من جهة أخرى، هناك تناقض كبير بين المرجعيات الفكرية السياسية الدنيوية والأخرى اللاهوتية، فالعقل عندما يرتقي ويرتفع إلى البحث عن المتعالي والسماوي، نراه ينتج ويبدع، ثم يحقق سلاماً وأمناً، ولكن العقل المنتمي مسبقاً إلى كلام مُنزلٍ هو مضطر ومرغم؛ ليكون «فعل ثقة»، بمعنى آخر التسليم بلا مناقشة، والابتعاد عما يدركه العقل، أو يمكن أن يدركه، فالحركات الدينية هي خضوع من غير تذمر لأوامر الله، التي تدعي هذه الحركات أنها تفهمه، وبالتالي خضوع المجموع لها بلا تذمر؛ لأننا نحن البشر مجرد مخلوقات ضعيفة، خاضعة أمام أزلية وأبدية الله، وسنكون كذلك في حالة وصول هذه الحركات إلى السلطة، حيث نعتقد أن الإخوان المسلمين ليس لديهم ما يقدموه، كإضافة على الجمهورية «الإسلامية» الإيرانية.
وأيضاً المسلمون في دولة «الإخوان» هم ملزمون بالخضوع والالتزام بمجموعة من الأحكام المنزلة إليها، وهي ذات طابع ديني شامل، يدير الحياة العامة والخاصة، على حساب المساحة المتبقية للنقاش والحوار، ففي دولة دكتاتورية، ربما يستطيع الفرد أن يتمتع بحرية دينية وليس سياسية، أما في دولة الإخوان، فلا حرية دينية، ولا حرية سياسية.
بمعنى آخر، ليس في التشريع الماورائي أو الميتافيزيقي قانون مدني أو قانون دستوري، يقبل النقاش أو التجديد؛ فالانتماء الروحي أو الإيماني، الذي كلف «الإخوان» أنفسهم برعايته وحمايته، يسجل ضمن ما يمكن أن نسميه: «العمل الكنسي» للإسلام السياسي يراقب المؤمنين، وهم يعيشون في «الزمني»، وليس «الروحي»، والمشكلة هنا أن من يريد العمل كوكيلٍ أو منتدب عن «الروحي»، فالزمني ليس من تخصصه، بل عليه في فكره السياسي أن ينتمي على الأقل إلى مجتمعات تاريخية وسياسية، وليس مرجعيات غيبية.
في هذه الحالة، ما زالت معضلة «الإخوان» قائمة من غير حل، ولا نعتقد أنهم سيصلون إليه قريباً، فلا بد إذن من إعادة التفكير، في ما هو «سياسي»، وفي ما هو «ديني»، أو بشكل آخر للقول: تحديد طبيعة عملهم، هل ينتمي إلى الزمني أم إلى الروحي؟ فلا يمكنك الجمع بين العمل؛ من أجل الخلاص الروحي، وإدارة البورصة، وصناديق الاقتراع، في لحظة واحدة.
يستخدم «الإخوان» مصطلحات سياسية، تنتمي جميعها إلى حضارات وثقافات أخرى: «مواطنة»، «ديموقراطية»، «تعددية»، «تمثيلية»، وفي الوقت نفسه يحتفظون باسمهم التاريخي: «الإخوان المسلمون»، وهذا يتعارض مع استخدام هذه المصطلحات؛ لذلك مشروعهم السياسي، استند كبقية الأحزاب السياسية العربية إلى مفاهيم تم سلخها عن سياقها التاريخي، والاجتماعي، والسياسي.
بمعنى آخر، كيف يمكن الاستناد إلى المواطنة والديموقراطية، كمرجعية سياسية فكرية لحزب سياسي، يعبر عن جماعة دينية أو طائفية، فأية مواطنة يُنادي بها حزب أو تيار سياسي، مؤلف فقط من الذكور، ومنذ نشأته؛ لم نلحظ دوراً محورياً أو مهماً للمرأة في هذا الحزب! وكيف تبني حركة سياسية مشروعها الديموقراطي وتطالب بالتغيير، بينما زعيمها أو «أمينها العام»، يبقى في مكانه، ويعاد «انتخابه» بشكل دائم!
فيما تبقى من المشروع، فإنه يتطابق إلى حد بعيد، مع بيان «الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها» 9/11/1980، وفي جميع المجالات التي يتطرق إليها، مع الاعتراف هنا بأن «الجماعة» مالت قليلاً أو أكثر من الماضي، نحو الإقرار بوجود أكثر من خلفية ثقافية، تاريخية وحضارية للشعب السوري، كما أنها حاولت جاهدة التركيز على الدولة المدنية، دولة المؤسسات والقوانين.
ولكن، في اعتقادنا الشخصي، تبقى أية حركة سياسية في سوريا، لها مرجعية طائفية، تشكل حالة غير صحية؛ بسبب عدم القدرة على توفير ضمانات دائمة، أن هذه الحركات لن تتحول في لحظة معينة إلى حركات مسلحة تستخدم العنف، لاسيما أن مفهومها «للجهاد»، هو مفهوم فضفاض، ويمكن للكثيرين الاستفادة منه؛ بنية حسنة أو غير ذلك.
كذلك بالنسبة للحركات السياسية، ذات المرجعية العرقية والدينية؛ فجميعها تشكل خطراً على بناء المجتمع المدني ودولة القانون، وكما ذكرنا سابقاً؛ لأن مرجعياتها ليست من هذا العالم، فهي تنتمي إلى عالم لا نعرفه بشكل مباشر، بل هذه الحركات تعتبر نفسها وصية أو وسيطاً؛ للحصول على هذه المعرفة، ووكيلاً سماوياً مكلفاً بمراقبة تطبيقها، في النهاية لكل فرد، أو جماعة، الحق المطلق في التعبير عن الرأي، لاسيما السياسي منه، أما الاختلاف في الرأي، فلا يعطينا الحق في إقصاء صاحبه، وحرمانه من العيش والوجود.

 

ملخص مِن بحث صلاح نيوف ‘خريطة معرفية للإسلام السياسي في سوريا’ ضمن كتاب المسبار 32 أغسطس 2009 ‘الإخوان المسلون في سوريا’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى