الإخوان المسلمون والحركات الاحتجاجية في مصر (نجلاء مكاوي)

 

نجلاء مكاوي*

ينقسم موقف الجماعة من الحركات الاحتجاجية بعد ثورة يناير إلى مرحلتين، الأولى تخص مسلكها عقب سقوط رأس النظام وإبان حكم المجلس العسكري، والثانية تتعلق بالفترة الحالية، منذ وصولها إلى سدة الحكم.
قبل هذه وتلك، برزت خاصية لافتة، هي صعوبة تفاعل تنظيم الإخوان، تحالفا أو تنسيقا، مع كافة الأطراف المكونة للمشهد السياسي، وخاصة تلك المعارضة للسلطة، أيا كان وزنها. ولهذا أسباب بنيوية تخص التنظيم وروحيته من جهة، وتخص من جهة أخرى علاقته بالسلطة وتوافقاته معها، وتخص ثالثاً استراتيجية الإخوان في العمل السياسي. الذين خرجوا في يناير ورفعوا مطالب تحولت إلى شعارات للثورة، وكانت امتداداً لحركات احتجاجية سبقت هذه بسنوات، وهو ما وفر شروط نجاح موجتها الأولى. بينما الجماعة، التي كانت أكبر فصائل المعارضة، فضلت "اللعب" مع النظام داخل الإطار السياسي التقليدي، وانفصلت عن القضايا الاجتماعية التي تبتنها الحركات الاحتجاجية.

ارتباك قبل الثورة

قبل 25 يناير وعلى امتداد سنوات المخاض، بدت الجماعة غير مستعدة للانخراط في مواجهة النظام الحاكم، واتسمت مواقفها تجاه المشاركة في إضرابي "6 أبريل"، و"4 مايو" بالارتباك والتقلب، وتحفظت تجاه الحراك الاحتجاجي عموماً، فصرح أحد قادتها في خطاب استعلائي بأن "حركة متجذرة في الشارع المصري كالإخوان، لن تنساق إلى دعاوى بلا دراسة أو تنسيق". كانت الحركة حائرة بين حدين: الميل لاستغلال الحركات الاحتجاجية التي تتعاطى مع الجماهير، وربما تتسع مساحتها مع زيادة قمع النظام لها، والخوف من دفع أثمان باهظة لا تستطيع الجماعة تحملها في حال انسداد أفق النجاح أو في حال تطورها بالشكل الذي يخرجها عن السيطرة.
سقوط مبارك
بعد 11 شباط/ فبراير 2011 وسقوط رأس النظام السابق، راهن الجنرالات على الإنهاك والتجاهل حتى تتآكل مساحة الاحتجاج، وتستنزف طاقات المحتجين. في هذا الوقت، برز "التناقض الاجتماعي": أخذت الأوضاع المعيشية للناس بالتدهور، نتيجة ارتفاع أسعار الغذاء، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض احتياطي النقد الأجنبي، وركود السياحة، وانخفاض تحويلات العمال المصرين من الخارج، وانخفاض معدل النمو، وعجز الميزانية… والعجز عن معالجة هذا الانهيار. وطال ذلك المكونات القاعدية لجماعة الإخوان نفسها (الطبقة المتوسطة الصغيرة، والطلاب، وفقراء الأطراف)، فانطلقت موجة جارفة من الإضرابات والاعتصامات المهنية والعمالية، وتوسع تأسيس النقابات المستقلة، وكان أهم ما ميز الحركة هو الاندماج بين السياسي والمطلبي، فرفعت معظم الحركات الاحتجاجية والإضرابات، بجانب مطالبها، شعارات تطالب باستكمال إسقاط النظام، بتطهيره من سيطرة الرموز الفاسدة على أجهزة الدولة، ومحاكمتهم. كما اتسم الحركة بدرجة عالية من الصلابة والوعي والثقة في القدرة على التغيير. وهو ما لا ينفيه غياب التنظيم الثوري، صاحب البرنامج السياسي.
واجهت سلطة الجنرالات بداية الاحتجاجات بقانون أصدرته الحكومة في آذار/ مارس 2011 يجرم الإضرابات والاعتصامات التي تعطل أداء المؤسسات والخدمات. لكن الحكومة فشلت في تطبيقه، على الرغم من شنها بواسطة آلاتها الإعلامية، وبالشراكة مع الإسلاميين، حملة منظمة ضد الإضرابات التي وصفتها بـ "الفئوية"، واتهمت من يقومون بها بأنهم "لا يأخذون في اعتبارهم مصالح البلاد، ويتسببون في الفوضى، ويهددون الانتقال السلمي للسلطة". ومع ذلك استمر أصحاب المطالب، باختلاف فئاتهم، في الإضراب والتظاهر والاعتصام، فانتهجت السلطة القمع والعنف لاحتواء الاحتجاجات (مثل فض اعتصام طلاب كلية الإعلام، والقبض على مئات النشطاء في كافة أنحاء البلاد، تعرض الكثيرون منهم للتعذيب، ومحاكمة الآلاف من المدنيين أمام المحاكم العسكرية).
في ذلك الوقت وقفت جماعة الإخوان المسلمين مع العسكر، ولم تكف عن التصريح بأن "الجيش خط أحمر"، وعن الثناء على دوره في "حماية الثورة". بل سيطر على خطاب الاخوان اللغة ذاتها التي اعتمدها العسكر: "تدوير عجلة الإنتاج والتنمية"، و"المظاهرات الفئوية تتسبب في انهيار الاقتصاد المصري"… وبخلاف التصريحات، عملت الجماعة على الأرض لإفشال كثير من الإضرابات والاعتصامات. فمثلاً حاول الإخوان كسر الإضراب الكامل للأطباء بمحافظة الدقهلية ووقفتهم الاحتجاجية في أيار/ مايو 2011، وعملوا على شق صفوف الأطباء. كما قرر معلمو جماعة الإخوان المسلمين عدم المشاركة في إضراب المعلمين، الذي دعت لتنظيمه مع بدء العام الدراسي (2011- 2012) حركات تعليمية مستقلة. وبعد امتداد الإضراب في جميع أنحاء الجمهورية، اشتبك الإخوان مع المعلمين المضربين في بعض المحافظات لكسر الإضراب بالقوة، واستخدموا المساجد لحث أولياء الأمور من خلال مكبرات الصوت على فض الإضراب. وجابت سياراتهم شوارع المدن تدعو التلاميذ للذهاب إلى المدارس، مرددين: "يا ايها المدرسون اتقوا الله في أولادنا".
وبالمقابل، سعى الإخوان لاستخدام الاحتجاجات كورقة في معركتهم على السلطة مع الجنرالات، فحاولوا إقناعهم بالقدرة على استيعابها، وهو ما كان يحتاج اليه المجلس العسكري الذي عانى فشلاً وضعفًا وأزمة "شرعية" في مواجهة الشارع وقواه الحية. أدركت الجماعة المعادلة، فقدمت تطمينات للجماهير الغاضبة بأنها حال وصولها إلى البرلمان ستنظر في مطالب كل المحتجين. وهم امتلكوا ما أسموه "شرعية البرلمان"، وسارع نوابهم بعد جلوسهم على أكبر عدد من مقاعده إلى تقديم مشروع قانون جديد "ينظّم" حق التظاهر والإضراب، أي يضبطه ويحول دونه.

لكن الاحتجاجات مستمرة

بعد تولي الرئيس محمد مرسي حكم البلاد، تفجرت موجة جديدة من الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، وتعاظمت حتى وصلت إلى مقر الرئيس، الذي قدم وعوداً كثيرة أثناء حملته الانتخابية، ما لبث أن تخفف منها.
وفي آذار/ مارس 2013 اجتاحت الإضرابات والوقفات الاحتجاجية محافظات مصر، وتعددت أشكال الاحتجاج وتباينت فئاته والمطالب المرفوعة من العمال والموظفين المؤقتين من أجل تثبيتهم، إلى طلبة الجامعات والمدارس أيضا، إلى العاملين بالقطاعين الحكومي والخاص، اعتراضا على السياسات ومطالبة بمستحقاتهم المالية. فأصبح المشهد الرئيسي المألوف في مصر هو خروج الأهالي في عدة مدن (من شمال مصر لجنوبها) وقطع الطرق، وتعطيل حركة القطارات، احتجاجا على الانفلات الأمني وانتشار السلاح، وللمطالبة بتوفير فرص عمل، وتحسين الأحوال المعيشية، وإقالة المسؤولين على مستوى المحافظات، هذا فضلاً عن المسيرات الاحتجاجية التي تجوب مصر اعتراضا على سياسات الرئيس محمد مرسي، بشكل عام. ويحدث هذا بالتزامن مع إضراب الشرطة، واتساع قاعدة الإضراب في الجهاز الأمني، خاصة ضباط وجنود الأمن المركزي الذين رفضوا استخدام العنف المفرط مع المتظاهرين بمحافظتى الدقهلية وبور سعيد، والدخول في مواجهات مباشرة معهم. وهو ما اعتبرته الجماعة انحيازا من الشرطة المضربة "للثورة المضادة" (على أساس ان الثورة انتصرت واُنجزت!) وأنها "فرصة للبتر وإصلاح الاعوجاج قدمها الفاسدون على طبق من ذهب" على حد تعبير أحد قادة الجماعة. لقد غطت الجماعة فشل الرئيس ومستشاريه في السيطرة على الموقف، بهجومها على كل المحتجين، واتهامهم بتلقي أموال من الخارج والداخل، و"بالعمالة لأمن الدولة"، كما كالت الاتهامات لخصومها السياسيين متهمة إياهم بـ"التحريض".
"الخط الاحمر" يمتلئ بما يشاؤون
استبدلت تصريحات قادة الإخوان في مواجهة الجماهير الغاضبة على سياسات العسكر، التي كانت تُذيل بـ"الجيش خط أحمر"، بجملة "هيبة الدولة والقانون خط أحمر"، واعتبرت الرئاسة الاحتجاج "ليّا لذراع للدولة"، كما قال مستشار الرئيس. بينما طالب حلفاء الجماعة من الإسلاميين الرئيس بالضرب بيد من حديد، وعدم الاستجابة لمثل هذه المطالب "الفئوية". وتنفيذًا لتصريحات أول وزير للقوى العاملة ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين التي وصف فيها الاحتجاجات بأن معظمها له هدف سياسي أكثر من كونه هدفا شرعيا وقانونيا، وستواجه بـ "القانون"، حُررت محاضر "تخريب وبلطجة" ضد كثير من العمال، وقامت الشرطة بتفريق المظاهرات العمالية، وإلقاء القبض على منظمي الإضرابات المحلية، كما تم إنهاء خدمات موظفي القطاع العام المشاركين في الأعمال الجماعية، أو نقلهم، بالإضافة إلى إطلاق يد أصحاب الأعمال في افتراس الموظفين المعتصمين، وتأجير بلطجية للاعتداء عليهم جسديا، ثم يتم القبض على المعتدَى عليهم ويحقق معهم!
تستخدم الجماعة وهي في السلطة، المنطق الذي استخدمته السلطات السالفة عليها، أي حكم مبارك وحكم العسكر، التي كانت تدّعي أن استمرار الاحتجاجات هو سبب الأزمة الاقتصادية. كما استخدمت الأدوات القمعية ذاتها، بل طورتها. إذ لا يملك الاخوان تصوراً شاملاً لمصر، اقتصاديا واجتماعيا. بل يتبعون برنامجاً انتخابياً فحسب. وهذا قد يمكنهم من الوصول الى السلطة لكنه يفضح عجزهم في السلطة، بما هي مسؤولية مواجهة مشكلات البلاد وتلبية حاجات الناس وتوفير مصالحها.

* باحثة بمركز النيل للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، مصر

صحيفة السفير اللبنانية (السفير العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى