الإسلام السياسي التركي: عثمانية جديدة! (طارق عبد الجليل)

 


طارق عبد الجليل*

 

شكل أعضاء حزب الرفاه الذي تم إغلاقه بقرار المحكمة الدستورية حزبًا جديدًا، أطلقوا عليه "حزب الفضيلة". وقد ورث هذا الحزب حزب الرفاه من جميع النواحي؛ الأيديولوجية والسياسية والبرنامج الاقتصادي.
غير أن النقطة الأبرز التي ورثها حزب الفضيلة كانت مشكلة الصراع الداخلي بين جناحي الحزب التقليدي والتجديدي، وهي المشكلة التي أخذت تتفاقم ولم يكن الحزب قد أمضى عامه الأول بعد. وما إن جرت انتخابات الحزب الداخلية بعد عام من تأسيسه حتى أشارت نتائجها إلى أن تلك المشكلة على وشك الانتهاء بانقسام بين كوادر الحزب؛ إذ فاز الجناح التقليدي بإدارة حزب الفضيلة بنسبة 51%. بيد أن الدعوى التي رفعها المدعي العام "ورال صواش" بغية إغلاق حزب الفضيلة أيضًا بسبب مخالفته لمبادئ العلمانية كانت أسبق على حدوث ذلك الانقسام داخل الحزب. فقد أصدرت المحكمة الدستورية قرارها بإغلاق حزب الفضيلة في 22 يونيو 2001.
أما حزب "السعادة" وهو آخر أحزاب الإسلام السياسي فقد تم تأسيسه على يد الجناح التقليدي لحزب الفضيلة بزعامة "رجائي قوطان" في 20 يوليو 2001. إلا أنه لم يستطع فرض حضوره السياسي في أول انتخابات برلمانية خاضها في 3 نوفمبر 2002؛ إذ لم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصل عليها 2.5% من أصوات الناخبين.
في المقابل أسس الجناح التجديدي بزعامة رجب طيب أردوغان في 14 أغسطس 2001 حزبًا جديدًا أطلق عليه "حزب العدالة والتنمية". ونجح في الخروج فائزًا من الانتخابات العامة 2002 بالمركز الأول وحصل على 34.28% من جملة أصوات الناخبين وتمكن من تشكيل حكومته منفردًا. وهكذا، نجحت قرارات انقلاب 28 فبراير 1997، والمناخ السياسي والأمني الذي ساد الحياة السياسية والاجتماعية منذ ذلك الانقلاب في إحداث ارتباك داخل صفوف الحركة الإسلامية بشكل عام، وحركة "الفكر الوطني" بشكل خاص.
لقد أدت المراجعات الفكرية التي قامت بها كوادر وأعضاء حركة الفكر الوطني إلى انبثاق حزب سياسي جديد هو "حزب العدالة والتنمية". استطاع ذلك الحزب أن يتشكل قبيل انتخابات نوفمبر 2002 ببضعة أشهر، ويخوض الانتخابات بفكر جديد، ورؤية وأجندة سياسية تختلف كثيرًا مع رؤية أحزاب حركة "الفكر الوطني" وتمثل انفتاحًا على التيارات والقوى الوطنية في الدولة معلنة تخليها عن المرجعية الإسلامية.
على ما يبدو، إن رؤية الحزب كانت أقرب إلى رؤية عُرفت بـ"العثمانية الجديدة" التي تُعد امتدادًا لرؤية الرئيس التركي الراحل تورجوت أوزال، وتقوم على الانفتاح تجاه مختلف التيارات والقوى الوطنية مع التمسك بالقيم والتقاليد الوطنية من أجل تحقيق نهضة الدولة داخليًّا وتعزيز مكانة تركيا الدولية.
وعلى الوتيرة ذاتها من التزامن مع حالة الجمود التي شهدتها أنشطة الحركة الإسلامية بفعل مناخ قرارات انقلاب 28 فبراير 1997، كانت الأحزاب السياسية الممثلة في الحكومات أو المعارضة على حد سواء تشهد حالة من عدم الاتزان والتخبط في خطاباتها وطروحاتها لحل مشكلات تركيا العصيبة، ولاسيما المشكلة الاقتصادية. تلك الأزمة الاقتصادية الهائلة التي بدأت في نوفمبر 2000 ووصلت إلى ذروتها في فبراير 2001 لتسجل أسوأ أداء للاقتصاد التركي منذ عام 1945. ولا شك أن قرارات انقلاب 1997 التي استهدفت إجهاض محاولات التيارات الإسلامية للإسهام في إدارة الدولة والمجتمع كانت ضالعة في ما وصلت إليه أوضاع تركيا السياسية والاقتصادية من تردٍ وتدهور.
إن مناخ قرارات 1997 قد انعكس إيجابًا على مراجعات قيادات الإسلام السياسي والجماعات الأخرى على حد سواء. وأدت هذه المراجعات في النهاية إلى تصدعات أيديولوجية وجيلية بين أبناء الحركة الإسلامية عامة؛ أفرزت تيارًا سياسيًا جديدًا قادرًا على إحداث توازن بين ثنائيات عديدة أخفق الإسلام السياسي التركي في حسمها مثل: الدولة الإسلامية أو الدولة العلمانية، والشرق أو الغرب، والأصالة أو المعاصرة.
كما نتلمس في تصريح أردوغان خلال زيارته لمصر عام2011 بقوله: "أنا إسلامي أحكم في دولة علمانية" ملمحًا واضحًا لرؤية التيار الأردوغاني –بعد عشر سنوات في السلطة– لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في ظل دولة لها نظامها وتقاليدها وأعرافها السياسية المتراكمة. فالجمهورية التركية دولة أسسها العسكر ووضعوا نظامها الجمهوري العلماني. ومن ثمّ قامت أركان الدولة ومؤسساتها على هذا النظام، وشكّلت بمرور الوقت تقاليد هذه الدولة وسياساتها الخاصة.
على الرغم من أن أحزاب الإسلام السياسي في تركيا شاركت منذ أربعين عاما لعدة مرات في العملية السياسية؛ وتولت إدارتها بين حين وآخر عبر صناديق الانتخابات، فإن حداثة تجربة الإسلاميين في السلطة آنذاك، قد حالت بينهم وبين الاندماج مع مؤسسات الدولة والنفاذ إلى قلب المجتمع بفئاته وتياراته المختلفة. فقد انطلقت الموجة الأولى لتيار الإسلام السياسي في تركيا من رؤية أصولية لها عراقتها وتاريخها، وحاولت غرس قيم عصر الخلافة الراشدة في جسد دولة ومجتمع لم يكن مؤهلاً لذلك الغرس، ولم تكن هذه الموجة أيضًا قد امتلكت القدرة بعد على القيام بذلك المزج والتوليف.
أما الموجة الثانية التي يمثلها التيار الأردوغاني، فلم تكن وليدة ذاتها، بل كانت ابنة الموجة الأولى؛ فكانت أكثر هدوءًا ومرونة. ولا شك أن التيار الأردوغاني قد استفاد من تجارب الأحزاب السياسية التي أسسها أربكان، وأدرك بعد انقلابات وتدخلات عسكرية عديدة في الحياة السياسية أن العسكر يحمي الدستور والدستور يحمي العسكر، وأن الدستور هو نظام الدولة السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
فقد أدرك مؤسسو وقادة الحزب طبيعة النظام السياسي التركي، وأيقنوا أن ذلك النظام العلماني لم يؤسس في الأصل ليقبل بحركة سياسية تتبنى الأيديولوجية الإسلامية، بل إنه لفظ أيضًا الأيديولوجية القومية واليسارية المتطرفة، وأغلق على مدار تاريخ الجمهورية كل الأحزاب التي تبنت هذه الأيديولوجيات.
لقد تبنّى حزب العدالة والتنمية "الديمقراطيّة المحافظة"، ولم يختزل الدين في إيديولوجية كما فعلت أحزاب حركة "الفكر الوطني" من قبل؛ بل سعى إلى تحويل القيم الثقافيّة الموجودة في الدين إلى هوية سياسية بشكل يتناسب والبنية السياسية التركية القائمة. كما انتهج خطابًا تصالحيًا بين رؤية الحزب ورؤية الدولة ونظامها وأركانها الأساسية. فقد أعلن أردوغان صراحة تخليه عن "الأيديولوجية الإسلامية" التي تبنتها الحركة الأربكانية، ووضع نهاية لاستراتيجية "المزج بين الدعوي والسياسي أو الجماعة والحزب". وانتهج "رؤية وطنية" أكثر استيعابية.
وعلى الرغم من أن الانقلابات العسكرية في تركيا كانت عقبات ضخمة في مسيرة التحول الديمقراطي، فإنها منحت القوى السياسية لاسيما أحزاب التيار الإسلامي الكثير من التجارب؛ فصقلت خبراتها ورشّدت أفكارها، وأجبرتها على إحداث مراجعات لبرامجها واستراتيجياتها داخل إطار الدستور ونظام الدولة. وما إن تحركت قاطرة التحول الديمقراطي في تركيا وفق هذه الرؤية والاستراتيجية حتى استطاعت الإرادة الشعبية ممثلة في أحزابها ومؤسسات المجتمع المدني أن تعيد ضبط وضعية العسكر في الدستور، وتفكك تلك القبضة الحديدية وفق النظم الديمقراطية المعاصرة لاسيما في مناخ الوفاء بمتطلبات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وإذا ما كانت تركيا العدالة والتنمية قد نجحت إلى حد كبير في إعادة موضعة الجيش في الدستور وفق النظم الديمقراطية الغربية فإن المؤسسة العسكرية التركية بانقلاباتها المختلفة قد نجحت هي أيضًا في توجيه مسار التيارات السياسية عامة والإسلامية خاصة، وإجبارها على اللعب داخل الملعب السياسي التركي وفق قوانينه وأحكامه.

*خلاصة بحث طارق عبد الجليل 'أثر الإنقلابات العسكرية على الإسلام السياسي في تركيا' (فبراير 2014) 'تركيا الإخوانية حضار ومستقبل حزب العدادلة' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث.


ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى