الإسلام السياسي التركي … نشأة الخطاب (طارق عبد الجليل)

 

طارق عبد الجليل*

لعبت شخصية زعيم حركة "الفكر الوطني" نجم الدين أربكان دورًا محوريًا في صياغة سمات خطاب الإسلام السياسي. فالسمات الشخصية لأربكان من النواحي العلمية والسياسية والاقتصادية، كانت تعبر عن تواصل في الخط الفكري والرؤية الذهنية التي تبلورت لدى رواد الحركة الإسلامية منذ نهايات العهد العثماني من حيث الاهتمام بالعلوم والاقتصاد وتطور النظم السياسية على الرغم من رفض التغريب وتأثيراته السلبية على المجتمع وهويته الثقافية.
وقد شكلت في البداية "الطريقة النقشبندية" الكادر الأساس لحركة "الفكر الوطني"، وهو ما يمكن اعتباره تطورًا في مسار الطرق الصوفية في تركيا؛ حيث إن شيوخ هذه الطريقة وكثيرًا من المنتسبين إليها بانخراطهم في العمل السياسي، استطاعوا إعادة بلورة رؤية الطريق للحياة والمجتمع وللعالم في نسق عقلاني واقعي إلى حد كبير. وقد تجلت انعكاسات هذه الرؤية في مؤسسات المجتمع المدني الثقافية والأوقاف الخدمية التي أسسوها خلال العقود الأخيرة بعيدًا عن العمل السياسي؛ ليتم بذلك إعادة موضعة "دور الطريقة" في خدمة المجتمع.

الحزب النظام الوطني

تأسس "حزب النظام الوطني" في 26 يناير 1970، واعتمد على أعضاء الطريقة النقشبندية، الذين كانوا يمثلون بدورهم ثقافة "الإسلام الشعبي" في الأناضول، ويضطلعون بمهمة الحفاظ على التقاليد الإسلامية المتوارثة.
وكان أربكان قد ترشح نائبًا مستقلا لمحافظة قونية في انتخابات عام 1969، وسخرت جماعة إسكندر باشا التابعة للطريقة النقشبندية كل إمكاناتها المادية والمعنوية لدعم أربكان، حتى حققت له الفوز بمقعد برلماني. وبعد تأسيسه لحزب النظام الوطني انضم إليه عدد من النواب المستقلين، فازداد ثقل الحزب تدريجيا داخل البرلمان.
وقد اتسم خطاب "حزب النظام الوطني" بخطين متوازييْن هما النهضة الأخلاقية/ المعنوية، والنهضة المادية أو ما عُرف بحملة الصناعات الثقيلة. وحمل حزب النظام الوطني منذ تأسسه إشارات وإيماءات لتوجهه الإسلامي مثل: اسم الحزب الذي يعني في موروثه التراثي "نظام الحكم الإسلامي"، وكذلك "اتخاذه من إصبع التشهد باليد اليمنى رمزًا له".

حزب السلامة الوطني

بعد إغلاق المحكمة الدستورية حزب النظام الوطني، شكَّل تيار الحركة الأربكانية حزبًا جديدًا باسم "حزب السلامة الوطني"، واجتهدت قيادات الحزب في تقديم برنامج الحزب ورؤيته في صورة أكثر تطورًا ومرونة من خلال طرح خطاب يجمع بين الاستيعابية والتميز.
فقد رأى حزب "السلامة الوطني" نفسه متمايزًا عن غيره من الأحزاب الأخرى من عدة حيثيات مثل المرجعية والأهداف والاستراتيجيات. واعتمد على قوة ناخبة كبيرة يعلم جيدًا تأييدها له، فقد كان حزب السلامة الوطني، الذي يمثل اتفاقًا بين جماعة "إسكندر باشا" وهي أحد فروع الطريقة النقشبندية، وجماعة النور، يُدرك أنه سيحظى بتأييد قوي من أغلب الجماعات الإسلامية.
نجح حزب السلامة في أن يصل بخطابه إلى قطاعات عريضة من بين أبناء المجتمع؛ فأسس علاقات مع عدد من مؤسسات المجتمع المدني البارزة مثل: اتحاد كتاب تركيا، واتحاد الأعضاء التقنيين، ووقف الاقتصاديين الثقافي، وجمعية المعلمين المتميزين، وجمعية النشر العلمى.
كان "حزب السلامة ليس حزبًا إسلاميًا أو مطالبًا بالشريعة، لكنه حزب الإسلاميين أو المسلمين… ولا يمكن تخيل حزب السلامة بديلاً عن الحركة الإسلامية… وعلينا ألا ننسى ذلك أبدًا؛ فحزب السلامة وسيلة في الدعوة الإسلامية. ويمكن أن يُقضى عليه – ذات يوم– من قِبل القوى الداخلية أوالخارجية للنظام الحالي. أما الحركة الإسلامية فلا يمكن أن يُقضى عليها من بعد".

الخطاب السياسي لحزب الرفاه

تأسس حزب الرفاه العام 1983، بيد أنه لم يستطع خوض أول انتخابات برلمانية جرت في 1983. وجدير بالذكر أن اختيار اسم "الرفاه" يأتي في سلسلة التمرحل الأيديولوجي للحزب الأساسي، فقد كان حزب "النظام" يعبر عن نظام الشريعة المبدأ والهدف الأساس للحزب، وحزب "السلامة" يعبر عن البعد المعنوي، والهدف الأخلاقي للحزب، ثم حزب "الرفاه" يعبر عن المرحلة الثالثة للحزب في تركيزه على النهضة الاقتصادية. حيث قدم حزب الرفاه برنامجه هذه المرة تحت اسم "النظام العادل"، وهو برنامج اقتصادي في المقام الأول.
ودخل حزب الرفاه انتخابات 1991، متحدًا مع حزبي العمل القومي، والإصلاح الديمقراطي، ووصلت نسبة الناخبين لهذا الاتفاق الثلاثي في الانتخابات العامة المكبرة في 20 أكتوبر 1991 إلى 16%.
وكانت هذه هي المرة الأولى، لدخول حزب الرفاه المجلس منذ انقلاب 12 سبتمبر.
بالإضافة إلى النساء، ذوات المظهر المعاصر في لوحات الانتخابات، ظهرت لوحات أيضًا من أجل الباحثين عن حقوقهم، والعمال الذين يرفعون رؤسهم ضد الاستعمار والمعارضين للقهر والتعذيب، والمثقفين الباحثين عن الحرية، والشباب الثائر ضد الإمبريالية، والمطالبين بحل المشكلات البيئية. وعند النظر إلى هذه اللوحات، فإنها تعطي إيحاءً بأن حزب الرفاه حزب تقدمي يساري. وهذا الخطاب الجديد، كان خطوة مهمة بالنسبة للرفاه. فبينما كان يسعى الحزب من ناحية لتأصيل جذوره الفكرية، سعى أيضًا لتوجيه رسائل إلى كتل انتخابية جديدة برسائل معاصرة، محل اهتمام المواطنين كافة.
جرت الانتخابات البلدية الدورية في تركيا في 27 مارس 1994، وتبين بعد فرز نتائج الأصوات أن الفائز الثالث فيها كان حزب الرفاه الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان. إذ ارتفعت نسبة الأصوات التي حصل عليها من 8.9% عام 1989 و16.9% عام 1991 إلى 19.7% عام 1994. بل فاز باثنتين من المحافظات الكبرى في تركيا هما: إسطنبول وأنقرة.
غدا 1994، عام الانتصار للإسلام السياسي المنظم في تركيا. فقد أظهرت نتائج الانتخابات المحلية 27 مارس، نجاحًا غير متوقع لصالح الرفاه. ولم يكن ذلك النجاح مفاجأة كبيرة بالنسبة له، على قدر ما كان صدمة للأوساط العلمانية. فقد حصل حزب الرفاه على رئاسة مجالس 28 بلدية محافظة تركية، وبلغ مجموع بلديات المحافظات والمدن التي حصل عليها 338 بلدية.
وكانت أساليب الدعاية الانتخابية التي انتهجها حزب الرفاه قد أدت إلى زيادة نسبة مؤيديه؛ حيث أجرى استبيانات واستطلاعات للرأي حول مستقبل البلاد في ظل الحزب الذي سيفوز في الانتخابات، ومن خلالها استطاع الحزب بلورة أفكاره وطرح برنامجه. والأكثر من ذلك أنه فضح ملفات الفساد الاجتماعي، والسياسي للأحزاب المنافسة في أمرين في آن واحد:
1- الدعاية لنفسه وبرنامجه، والتعريف بخططه ورؤيته المستقبلية.
2- إبراز مواطن ضعف الأحزاب السياسية الأخرى.
وكان لطرح الحزب برنامجه الاقتصادي المعروف باسم "النظام العادل" أثر كبير داخل المجتمع الذي كان يمر بأزمة اقتصادية طاحنة.
ويعود هذا الفوز بالدرجة الأولى إلى انقسامات اليمين واليسار، وإلى آليات الدعاية الانتخابية النشطة التي تميزت بها حملة الرفاه وزعيمه نجم الدين أربكان، وكذلك إلى ازدياد الشعور الإسلامي في تركيا، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية، وأحداث البوسنة، التي لم تتخذ السلطات العلمانية أي إجراء عملي بصدد دعم الشعب المسلم فيها، الذي تعرض لحملة من التصفيات العرقية والدينية.


*خلاصة بحث طارق عبد الجليل 'أثر الإنقلابات العسكرية على الإسلام السياسي في تركيا' (فبراير 2014) 'تركيا الإخوانية حضار ومستقبل حزب العدادلة' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى