الإسلام والسياسة (حسين العودات)

 

حسين العودات

إن تسييس الدين وإدخاله في اللعبة السياسية، ليس جديداً ولا يقتصر على "المـتأسلمين"، الذين طرأوا على تاريخنا العربي المعاصر منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928.
والمفارقة هي أن القديس أوغستين، هو أول من طرح فكرة الحاكمية ونادى بهيمنة رجال الدين على السلطة والمجتمع، وإخضاع السياسة للدين وليّ عنقه لإدخاله في الحياة السياسية اليومية وفي تكوين الدول وتوجيه سياساتها.
وقد عاش أوغستين في القرن الرابع الميلادي، ورأى أن السلطة هي معطى من الله ومن يعصيها إنما يعصي الله، لأنها سلطة إلهية لا بشرية. وفي ضوء هذه الأفكار استبدت الكنيسة الأوروبية بالأنظمة السياسية وبالملوك طوال قرون، فلم يكن بإمكان أي ملك أن يباشر عمله دون أن يباركه البابا، وأحياناً دون أن يضع التاج على رأسه.
وقد تسببت آراء القديس أوغستين هذه فيما بعد، في حروب دينية خسرت الشعوب الأوروبية جراءها مئات آلاف القتلى، وقد انشق المذهب البروتستانتي عن الكاثوليكية ونادى بعدم تدخل الكنيسة ممثلة بالبابا، والإكليروس ممثلاً برجال الدين، في الشؤون السياسية، واضطرت الكنيسة بعدها للاعتراف بالانشقاق، وكفت يدها عن الهيمنة على الأنظمة والسلطات والحكومات، وذلك في صلح وستفاليا 1648.
ومنذ ذلك الوقت لم تعد الكنيسة في أوروبا حاكمة ولا شريكة في الحكم، وعاد الدين ديناً فقط، لا حزباً سياسياً ولا فئة اجتماعية، وبالتالي انهارت نظرية القديس أوغستين وابتعدت المسيحية عن السياسة نهائياَ بعد هيمنتها عليها طوال قرون، وبدأت النهضة الأوروبية الحديثة انطلاقاَ من أن المرجعية للشعوب ومصالحها وتخضع لخياراتها.
لم يكن الأمر في البلدان العربية والإسلامية كذلك، فخلال العصور الأموي والعباسي والمملوكي والعثماني، لم يجرؤ رجال الدين على التدخل مباسرة في الشؤون السياسية، وبقي الأمر كذلك حتى انهيار الخلافة العثمانية عام 1924، حيث رأى حكام عرب ومسلمون عديدون إمكانية وراثة هذه الخلافة، واعتبروا الدين مدخلاَ مناسباَ لذلك.
وفي هذه الفترة تأسست حركة الإخوان المسلمين، ونادى حسن البنا المرشد العام للحركة، للمرة الأولى في التاريخ العربي الإسلامي بشعار "الإسلام دين ودولة"، ولم يكن البنا يملك أي تصور عن مضمون هذا الشعار وكيفية تطبيقه، وكان هدفه إطلاق شعارات ومسوغات للتدخل في شؤون الدولة.
ولذلك لم تحاول حركة "الإخوان" خلال ما يقارب القرن، شرح مضمون هذه الفكرة أو بيان السياسة المطلوبة لتحقيقها، أو رسم هيكلية الدولة المرغوبة ونشاطها وأهدافها وأساليب عملها، وهذا يوضح أسباب إخفاق الحركة في أول امتحان خاضته ذي علاقة بالدولة والسياسة في مصر وتونس.
بل أتاح غموضهم للمتشددين الإسلاميين، أن ينادوا بشعار حاكمية الله وبإلغاء دور البشر كلياً في تقرير مصيرهم واختيار النظام السياسي الذي يريدونه، متجاهلين قول رسول الله "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".
إن الخطورة في توجه "الإخوان"، هي أنهم حولوا الإسلام إلى حزب سياسي تتبعه فئة من أبناء المجتمع، بينما هو دين عام شامل لجميع الناس، لم يحدد شكل الحكم ولا بنية الدولة.
وما محاولة حركة الإخوان إغراق الإسلام بشؤون السياسة، إلا خروج عن الإسلام نفسه، ووضعه في أيدي فئة صغيرة، وإبعاده عن فلسفته الشاملة. ودائماً ما يحاولون تبرير مواقفهم السياسية بأن الرسول (ص) أقام دولة المدينة ولهم أن يقيموا دولاَ مماثلة، ويبررون شعاراتهم السياسية بهذا المنطق الضعيف والحجج المتهافتة.
ويتجاهلون أن دولة المدينة التي يزعمون لم تكن دولة، وأن الاتفاق الذي أجراه الرسول (ص) مع اليهود هو تنظيم للتعايش بين المسلمين وبينهم، ولم تنص وثيقة المدينة على شكل الدولة ولا على أهدافها، ثم إن الذي عقد اتفاقية المدينة هو رسول الله، وليس حزباً سياسياً أو رجلاً من عامة الناس، وما تبرير تسييس الدين بصحيفة المدينة إلا تجن على الإسلام والمسلمين.
لم تمتلك جماعات "الإخوان" الجرأة الكافية لتقول إننا حزب سياسي يحتمي بالدين ويسعى لتولي السلطة، حزب يضم بشراً كغيرهم من البشر وكغيره من الأحزاب، وليس لحركاتنا أي قدسية ولا مرجعيات دينية، ولم ينص على مشاريعنا القرآن الكريم ولا الأحاديث الشريفة. ولو فعلوا ذلك لكان أفضل لهم وللناس، وسهل عليهم قبول الاجتهادات والتفسير والتأويل.
ولكنهم سعوا إلى تقديس حركاتهم، وهي في الواقع أحزاب، وإدخال التعليمات والطقوس والتقاليد الدينية في شؤونها وحراكها، لتسهيل الزعم أنها، أي الحركات، مكلفة بنشر الدين والحفاظ عليه. لكنهم سقطوا في أول امتحان عندما تسلموا السلطة في بعض البلدان العربية والإسلامية، وأشير خاصة إلى مصر وتونس.
ففي مصر لم يكن قادة جماعة الإخوان أتقياء في ممارستهم للسلطة، بل سعوا كغيرهم لهيمنة الحزب عليها وتعيين الأنصار في مفاصل السلطة، وإخضاع الدولة لتأمين مصالحهم، وسعوا حثيثاَ لتسلم المناصب وإقصاء الآخر والاستئثار بالسلطة وامتيازاتها، والأمر نفسه حدث في تونس.
وأخيراَ، إن جماعة الإخوان المسلمين، أينما كانت، هي مجموعة من الأفراد الذين يعملون بالسياسة ويبحثون عن مصالحهم بواسطتها، ويستغلون الدين الإسلامي العظيم لهذا الهدف، ويحاولون تقديس قراراتهم وحراكهم على حساب الشعوب ومصالحها، وربما كان مخطئاَ من يعتقد غير ذلك.

صحيفة البيان الأماراتية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى