الإمبرياليّة الأميركيّة والحـنين إلى الحرب الباردة (أسعد أبو خليل)

 

أسعد أبو خليل

لم تفق الولايات المتحدة بعد من نشوة نهاية الاتحاد السوفياتي. أصابها بوريس يلتسن بالصلف. لم يكن أوّل رئيس روسي، بعد تفتيت الاتحاد السوفياتي، في حالة صحو أكثر ما كان في حالة سكر، وكان هذا مؤاتياً جداً للإدارة الأميركيّة. أغدقت عليه (شخصياً وحكوميّاً) المساعدات والهدايا، وكان وزير خارجيّته صاغراً مطيعاً لا يناقش «الأب الأميركي الحنون» حتى في التفاصيل. كان دور روسيا في مجلس الأمن الدولي آنذاك لا يختلف بتاتاً عن دور ممثّل النظام الأردني هناك هذه الأيّام. تقول له المندوبة الأميركيّة: ارفع يدك، يرفع يده. اخفض يدك، يخفض يده. تحرّك، يتحرّك. غادر، يُغادر…
مات يلتسن الذي كان في ودّ الحكومة الأميركيّة أن تُتوّجه ملكاً لروسيا وضواحيها لمدى الحياة ولن يعود. أتاح يلتسن لأميركا التأقلم مع نمط جديد من العلاقات الدوليّة استمر حتى عام 2011، عندما استصدرت الحكومة الأميركيّة القرار 1973 حول الوضع في ليبيا (باسم «حماية المدنيّين») الذي فسّرته على أنه رخصة دوليّة لغزو ليبيا وتغيير نظامها من قبل قوّات الـ«ناتو». شعرت الصين وروسيا بعدها بغباء شديد، لكن الأهم أن شعورهما تزامن مع مرحلة الضعف في بنية الإمبراطوريّة الأميركيّة.
يبالغ أنصار الممانعة في بلادنا في تقدير يوم (وساعة) أفول الإمبراطوريّة الأميركيّة. أذكر أنني قبل سنوات تحدّثت ذات مرّة عن معالم الضعف في بنية الإمبراطوريّة الأميركيّة في «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» في الضاحية الجنوبيّة من بيروت. تقدّم منّي بعد المحاضرة رجل لم أره من قبل: عرّف عن نفسه بأنه مستشار في السفارة الإيرانيّة في بيروت، وسألني بشوق شديد عن موعد سقوط الإمبراطوريّة الأميركيّة. سألته ضاحكاً: تريد الموعد باليوم أم بالساعة؟ إن عمليّة سقوط أو أفول الإمبراطوريّات لا يُحسب بالأشهر ولا بالسنوات. العمليّة تمتدّ لعقود أحياناً. متى تحدّد مثلاً يوم أو سنة أفول الإمبراطوريّة العثمانيّة؟ ليس الحساب بهذه الدقّة، خصوصاً أن الحكومة الأميركيّة متشبّثة بالنواجذ بموقعها في زعامة العالم المفروضة بقوّتها الفظّة لا بقوّتها الناعمة (متى رأى العرب الوجه الناعم للإمبراطوريّة الأميركيّة أم أن الرجل الأبيض يخشى من إظهار «الوجه الناعم» أمام السكان الملوّنين خشية خسارة التراتبية في العلاقة؟ ــ وتلك التراتبية كلّفت الرجل الأبيض قروناً من الحروب والدمار والاستعمار، إضافة إلى فكر العنصريّة والوحشيّة والاستعلاء الحضاري).
أعلنت الولايات المتحدة للعالم في صيف 2002 استراتيجيتها للأمن القومي (وقد كتبت كوندوليزا رايس تلك الوثيقة، ولا يمكن الجزم بأن جورج بوش كان قد قرأها قبل نشرها، وهو الذي يُعرف عنه أنه يجد صعوبة في قراءة مذكّرات رسميّة تتعدّى صفحاتها واحدة أو اثنتيْن). وفي تلك الوثيقة التي عادت الحكومة الأميركيّة في عهد أوباما وأكّدت التزامها بمعظمها، صرّحت الحكومة الأميركيّة بتعريفها للعلاقات الدوليّة في عصر ما بعد الحرب الباردة. هي قالت إنها مصمّمة ليس فقط على الحفاظ على موقع الصدارة في العالم بل حتى على معارضة أي محاولة من أي دولة في العالم لمنافسة الحكومة الأميركيّة في صدارتها. هذا الصلف الإمبريالي هو الذي دفع الحكومة الأميركيّة على مرّ السنوات الماضية إلى التعبير عن بالغ استيائها للزيادة المطّردة في نفقات الدفاع الصينيّة، مع أن ميزانيّة التسلّح الصينيّة تبلغ نحو خمس ميزانيّة الولايات المتحدة.
لكن الحكومة الأميركيّة قلقة. هناك من يخمّن أن الصين ستتفوّق في حجم اقتصادها على حجم اقتصاد أميركا في عقد من الزمن أو أكثر بقليل. هل سيكون هذا هو المؤشّر على بدء السقوط الذريع؟ ليس الأمر بهذه السهولة، لأن التكنولوجيا العسكريّة الصينيّة لا تزال متخلّفة بنحو 10 إلى 15 سنة عن التقنيّات الأميركيّة. ثم ماذا عن مقياس عدد حاملات الطائرات، والصين لم تزل في بداية الطريق. لكن الصين متواضعة وسريّة في تعظيم قوّتها العسكريّة، وهي فاجأت أميركا (والعالم) عندما أماطت اللثام عام 2011 عن طائرة خفيّة (تلك التي تعصى على كشف الرادارات) لم تكن الاستخبارات الأميركيّة على علم بها. من المؤكّد أن الولايات المتحدة تعي أن العالم يتغيّر بسرعة حولها، وأن حروبها في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى في العالم لم تقوِّ الوضع الاستراتيجي الأميركي بل أضعفته. كان للحربيْن هدف الردع والتخويف والإرهاب والسيطرة والهيمنة، لكن أميركا انسحبت من العراق جارّة أذيال الخيبة وهي تستجدي حميد قرضاي الذي نصّبته هي في رئاسة أرادتها صورية، كي يسمح للقوّات الأميركيّة بالوجود حتى ما بعد عام 2014 ــ وهو لا يزال يرفض التوقيع على اتفاقيّة تريد الإدارة الأميركيّة أن تفرضها عليه بأي ثمن ــ.
كان من المفروض على أوباما أن يضبط وضع الإمبراطوريّة الأميركيّة كي لا يعجّل في زمن أفولها. كان هو المُنقذ من منظور القيادة العسكريّة ــ الاستخباريّة التي أصابتها رعونة جورج بوش بالذعر الشديد. لكن أوباما (ولأسباب سياسيّة وأسباب تتعلّق بحدود سلطة رئيس في نظام بات أشبه بالإمبراطوريّة العالميّة حيث تسود مصالح اقتصاديّة وعسكريّة واستخباريّة نافذة لا يستطيع الرئيس أن يعارض مشيئتها بسهولة ومن دون دفع ثمن سياسي باهظ جداً) بدأ حروباً جديدة فيما كان يعد بإنهاء حروب بوش. وهو لا يريد أن ينهي «الحرب الذكيّة» ــ وهي تسميته لغزو أفغانستان واحتلالها على عكس وصفه للحرب الأميركيّة في العراق بـ«الحرب البلهاء».
بلغت الإمبراطوريّة الأميركيّة أقصى حدودها قبل بضع سنوات. الميزانيّة العسكريّة ستخفّض بنحو 500 مليار دولار في مدة عشر سنوات، ووزير الدفاع الأميركي أمر بتخفيض حجم الجيش الأميركي إلى ما بين 440000 و450000 من العدد الحالي (520000)، وهذا يُعدّ أصغر حجم للجيش منذ 1940. وسيكون هناك تخفيض في عناصر كل قوى القوّات المُسلّحة من دون استثناء (والتخفيض كان سيكون أكبر لولا معارضة شديدة من أعضاء الكونغرس، لأن تقليص عدد العناصر المُسلّحة يؤدّي إلى إغلاق قواعد عسكريّة في ولايات متعدّدة، وهي تعود على الاقتصاد المحلّي بالخير المالي الوفير).
عرّف لينين الإمبرياليّة بأنها أعلى مراحل الرأسماليّة، لكنّ أطواراً وحقبات من الإمبرياليّة الأميركيّة فاتت الرفيق لينين. كان عليه أن يضيف أنها أكثر مراحل الرأسماليّة صفاقة ووحشيّة. تعريف الإمبرياليّة هو في أن الحكومة الأميركيّة تسمح لنفسها بوعظ روسيا بشأن عدم أخلاقيّة اجتياح دولة ما مستعينة بذرائع واهية (لم تفت تلك المفارقة حتى على الكثير من الأميركيّين). زادها جون كيري صفاقة عندما حاضر في برنامج أسبوعي يوم الأحد، عندما أكّد لبوتين أن فعلته (التي لم تكن قد حصلت بعد) لا تنتمي أخلاقيّاً إلى القرن الواحد والعشرين (سألتُ جون كيري هذا على «تويتر»: وإلى أي قرن تنتمي أفعال الإمبراطوريّة الأميركيّة؟ إلى القرن العاشر أم الحادي عشر قبل الميلاد؟ لم يجبني بعد).
تعريف الإمبرياليّة؟ هو أن تنشر الولايات المتحدّة قواها العسكريّة في قواعد مُقامة على أكثر من 135 دولة في العالم (هذا من دون الانتشار السرّي للقوّات الخاصّة مثل الصومال واليمن وغيرهما) فيما تعترض أميركا بشدة على وقاحة روسيا في إقامة قاعدتيْن بحريتين في سوريا وفي القرم. الإمبرياليّة هي أن أميركا غزت دولة غرانادا المسالمة عام 1983 (وتحت اسم «الغضب الطارئ») بذريعة أن دزينة من الطلاّب الأميركيّين هناك يعانون من الضيق (بجدّ) وأن خطراً خيّم على أجوائهم. غزت أميركا غرانادا وغيّرت نظامها وسرقت ما أرادت من وثائق ومعدّات أثبتت فيها بالقاطع أن منظمة التحرير الفلسطينيّة تقيم علاقات إرهابيّة مع حكومة غرانادا. لكن أميركا ترفض رفضاً قاطعاً ذريعة روسيا بشأن الخوف على مصالح الروس في القرم وفي أوكرانيا. الإمبرياليّة تكمن في رفض التدخّل العسكري (النظري) لروسيا في شؤون جارتها التي تمعن فيها أميركا وأوروبا تخريباً وتدخّلاً مع الاحتفاظ بحق دول الغرب في غزو أي دولة في العالم وتحت مسمّيات وذرائع مختلفة. الإمبرياليّة هي في محاولة استخدام مجلس الأمن الدولي من أجل تسويق حروب أميركا وغزواتها، في الوقت الذي تطلب فيه أميركا بصورة عاجلة إصدار قرار من الأمم المتحدة ضد روسيا (وتستنكر أميركا استخدام روسيا لحق النقض مع أن أميركا استخدمت هذا الحق أكثر من 42 مرّة في العقود الماضية لخدمة مصالح احتلال وعدوان الكيان الصهيوني الغاصب).
لا تعطي الصحافة العربيّة الصحافة الغربيّة حقّها: تتعامل معها بإجلال واحترام شديديْن. لكن هل تلوم الصحافة العربيّة التي تتعامل مع بربارة وولترز (وهي التي أدخلت صحافة الإثارة والمشاهير إلى الصحافة الرصينة سابقاً) على أنّها مثال للإعلام المهني الوقور؟ إن الصحافة الغربيّة في تغطيتها للسياسة الخارجيّة لا تحيد البتّة عن تأييد الحروب والغزوات الغربيّة. في السياسة الخارجيّة، يمكن اعتبار الصحافة الغربيّة أنها صحافة حكوميّة مثلها مثل «تشرين» و«عكاظ». هناك من يكتب في نقد السياسة الخارجيّة أحياناً، لكن يكون ذلك عادة للدعوة إلى مزيد من الغزوات وإلى مزيد من الحروب وإلى مزيد من الاحتلالات. يقود الإعلام الغربي حملة مسعورة ضد روسيا لم نر مثلها منذ أيّام الحرب الباردة. لكن الأزمة الحاليّة حول المسألة الأوكرانيّة والصخب الغربي الذي يصاحبها لهما دلالات حول طبيعة الحرب الباردة نفسها.
لم تكن الحرب الباردة تتعلّق بالحريات والديمقراطيات. لم تكن تلك إلا شعارات، ولم يصدّق المزاعم الأميركية الخطابية إلا السذّج من سكان أوروبا الشرقيّة (الذين استوردوا التفاوت الطبقي وسيطرة الأثرياء على كل مقدّرات البلاد باسم حريّة تتوزّع نسبيّاً بناءً على ثروة كل فرد) إضافة إلى من كان يعمل في الأجهزة الدعائيّة لدول الخليج العربيّة. لم تكن جريدة «النهار» تتورّع مثلاً عن دعم الولايات المتحدة في الحرب الباردة وعن شنّ حملات مبتذلة على صفحاتها في الخمسينيات والستينيات ضد الشيوعيّة والاشتراكيّة في الوقت الذي كانت تغرّد فيه ــ قبل تدشين عصر «تويتر» ــ مدحاً وتعظيماً لطغاة الخليج (كان غسّان تويني يطلق وصف «الأمير المُثقّف» على سلمان بن عبد العزيز، ربما لأنه الوحيد بين إخوته الذي أكمل الدراسة الابتدائيّة). كيف تكون الحرب الباردة هي حرب من أجل الحريّات في الوقت الذي كانت فيه أعتى الديكتاتوريّات في صف حاملة مشعل الحريّة الأميركيّة؟ لا، لم تكن الحرب الباردة حرب عقائد، كما أن تأثير العقيدة كان يتضاءل باستمرار في المقلب السوفياتي إلى درجة أن زبغنيو بريجنسكي أفتى في أواخر الستينيات في كتاب «الأيدلوجيا والسلطة في السياسة السوفياتيّة» بأن الماركسيّة ــ اللينينيّة ليست مُقرّرة للسياسة الخارجيّة بقدر ما هي لغة السياسة الخارجيّة (وكان هذا الرأي مثار جدل يومها، لأن السلطة السياسيّة في واشنطن أرادت أن تروّج لمقولة ان عقيدة الحريّة تتصارع ضد عقيدة التسلّط الشيوعي ــ وقع الشعب الأميركي تحت خديعة أن الاشتراكيّة لا تتآلف إلا مع الحكم التسلّطي، مع أنها ازدهرت في أفضل النظم الديمقراطيّة مثل السويد منذ الحرب العالميّة الثانيّة). رفضت أميركا حتّى أن تقرّ بأن الصراع هو صراع بين نظاميْن اقتصاديّين: فضّلت أن تجعل من الصراع كذبة عن تصارع بين حريّة وبين معتقلات، فيما كانت أميركا تدعم بقوّة أبشع أنواع التسلّط في العالم، خصوصاً في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة والشرق الأوسط.
تماثيل لينين تتهاوى الواحد تلو الآخر في أوروبا الشرقيّة، وأخيراً في أوكرانيا (مرّة أخرى). نشرت صحف يمينيّة في أوروبا الشرقيّة خرائط بكل مواقع تماثيل لينين التي تهاوت تحت ضربات زمرة من المتظاهرين الأشدّاء. نعلم اليوم من منشورات الوثائق الديبلوماسيّة الأميركيّة أن مسؤول الشرق الأوسط في وكالة الاستخبارات الأميركيّة في 1953 ابتاع زمرة من الإيرانيّين الأشدّاء الأوغاد كي يقوموا بأعمال شغب لتعطيل المسيرة الديمقراطيّة الواعدة هناك. نعلم اليوم أن الولايات المتحدة أخرجت وأنتجت وهندست وصمّمت مسرحيّة إسقاط صدّام حسين في ساحة الفردوس في بغداد في عام 2003، مستعينة بأوغاد أشدّاء من جماعة أحمد الشلبي (الذي خلع عنه عباءة العلمانيّة والمدنيّة وتدثّر بعباءة مقتدى الصدر كي يحصل على مقعد في مجلس المحاصصة الطائفي في بغداد). لكن ما علاقة تمثال لينين في أوكرانيا؟ إن الحكم الروسي والحكم الأوكراني (الذي كان يميل إليه) هما نظامان شديدا الرأسماليّة. مات لينين عام 1924 ومسرحيّة إسقاط التماثيل لم تتوقّف. هي مثل الحروب الإعلاميّة المُستمرّة التي تشنّها أبواق أمراء آل سعود حتى الساعة ضد جمال عبد الناصر. هذه تسديد حسابات. وعندما ترى تماثيل للينين تتهاوى تعلم أن يد الاستخبارات الأميركيّة تتحرّك وراءها، كما أن الاستخبارات «الإقليميّة» كانت تتحرّك في أوّل يوم احتجاجات في سوريا عندما رأينا صوراً لحسن نصرالله تُحرق في تظاهرات (كان ذلك قبل التدخّل في القصير وقبل يبرود وقبل وقبل). أميركا تثأر من الحرب الباردة ومن الشيوعيّة التي مُنيت بضربة قاصمة من جراء التصاق صورتها وسمعتها بالتجربة السوفياتيّة ومثيلاتها. لا تنام الإمبراطوريّات على ضيم ــ والضيم هو تحدّي الإمبراطوريّات باليد أو باللسان أو بتلك البندقيّة التي صمّمها رجل سوفياتي لم ير في صنعتها تجارة.
يحار أوباما في أمره. يجول كيري على عواصم الغرب. تتهدّد الصحافة الغربيّة وتتوعّد. والصحافة النفطيّة والغازيّة تعتبر كل معارك وحروب الإمبراطوريّة الأميركيّة معاركها وحروبها هي. بوتين هتلر جديد في الصحافة الأميركيّة. لكن هل هناك من عارض المشيئة الأميركيّة بعد سقوط الحرب الباردة مَن لم يوصف بهتلر؟ هو مجنون، كما أن أحمدي نجاد وذريّة كيم إيل سونغ والقذّافي وصدّام وبشّار وتشافيز مجانين. الجنون في عصر الإمبراطوريّة هو في مقارعة الإمبراطوريّة. من يجرؤ بعد على الجنون؟ وفي الجانب الآخر، تتحمّس صحافة «الممانعة» لنصرة القومي العربي بوتين الذي حافظ في سنوات حكمه على أفضل العلاقات مع العدوّ الإسرائيلي، والذي لا يجرؤ على بيع العرب أسلحة تثير اعتراضات إسرائيل.
المصير بات واحداً في حرب عالميّة تعيد الأمل بإمكانيّة منازعة الإمبراطوريّة الأحاديّة. لم يكن المصير العربي إلى هذه الدرجة من تسليم المقدّرات. عبد الناصر لم يكن دمية بيد الاتحاد السوفياتي (وفرض حلّ الحزب الشيوعي المصري ــ الذي لعاره قبِل أن يحلّ نفسه بنفسه) وربما هذا قلّص من مساعدات الاتحاد السوفياتي له. هل كان على عبد الناصر أن يجعل من مصر قاعدة متقدّمة للاتحاد السوفياتي؟ لمَ لا؟ ألم يكن هذا الخيار أسهل على العرب من تسليم أنور السادات كل مصر للراعي الأميركي والإسرائيلي؟
تتقلّص خيارات الإمبراطوريّة الأميركيّة. لو أن الإعلام العربي مستقلّ جزئيّاً عن أنظمة النفط والغاز، لكان العرب قد فهموا مدى خسارة وهزيمة أميركا استراتيجيّاً في العراق وأفغانستان. حتى حميد قرضاي يخالف الأوامر ويستدرّ الدموع على ضحايا القصف الأميركي في أفغانستان. جملة من العقوبات الاقتصاديّة القاسية باتت غبّ الطلب. صهاينة الكونغرس تعلّموا الأمثولة وهم على أهبة الاستعداد لمعاقبة بوتين على سوريا في أوكرانيا.
تريد أميركا أن تتفرّد في حكم العالم، لكنّها يساورها حنين إلى الحرب الباردة فقط كي تخوض غمار الصراع الذي تريد أن تهزم فيه روسيا مرّة أخرى. تريد أميركا أن تهبّ مارداً من جديد، لكنّها مثقلة بالديون والهموم والترهّل. لا، لم تنته دورة هذه الإمبراطوريّة التي تستحقّ الزعامة العالميّة بقدر ما يستحق سعد الحريري جائزة نوبل في الفيزياء، أو بقدر ما يستحق وليد جنبلاط تلك الجائزة التي منحها الاتحاد السوفياتي لأبيه (في كلمته في الجامعة الأميركيّة في بيروت لمناسبة افتتاح معرض كمال جنبلاط، استشهد جنبلاط كعادته بوالده، ونوّه بدعمه للقضيّة الفلسطينيّة «بناءً على حلّ الدولتيْن»، مع أن كمال جنبلاط لم يدعم مرّة في خطابه أو كتاباته «حلّ» الدولتيْن). تصرّ الإمبراطوريّة الأميركيّة على السيادة العالميّة بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب السلم والأمن العالميّين.
لم تنشأ مشاكل أوكرانيا وانقساماتها بسبب الشيوعيّة. اعترف السفير (الجمهوري) الأميركي الأسبق في روسيا، جاك متلوك، بأن مشاكل أوكرانيا تعود إلى فشل القيادات والأحزاب في أوكرانيا في بلورة هويّة وطنيّة جامعة. لم يكن لينين مسؤولاً عن ذلك. لكن أميركا تريد أن تسجّل سابقة أن الهيمنة والغزو والاحتلال هي حقّ مقدّس لها فقط. وكل من يقلّدها مُعتدٍ تجب معاقبته فوراً.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى