البحث عن بصيص للسير في نفق جنيف السوري الطويل

إذا حافظت الجهود الروسيَّة والأميركية على مسارها، يمكن انتظار شيء مهم على صعيد الأزمة السورية. هذا لا يعني بأيّ حال حلولاً سحرية ستمطر فجأة. العودة إلى طاولة المفاوضات ستكون الإنجاز. البحث جارٍ الآن عن إطار يُمكن عبْره عقد مؤتمر «جنيف 3». بمعنى آخر، تجب بلورة «محتوى» جديد تُدعى أطراف الصراع السوريون للتفاوض حوله.

هنا تختلف التقديرات، بحسب ميول أصحابها. لكن من أصابت تقديراته سابقاً يقول الآن: ليس في الإمكان سوى المراكمة على ما بنته موسكو وواشنطن حينما ابتكرتا صيغة المسارين. هذا الابتكار اجترحته التفاهمات الروسية ـ الأميركية، ما قاد إلى انعقاد «جنيف 2»، أي أن عقد مؤتمر جديد ينتظر تطوير مبادرات جديدة، تنعقد حولها طاولة المفاوضات، على المسارين المتوازيين: مكافحة الإرهاب والتسوية السياسية.

هكذا يغدو مفهوماً حديث موسكو المفاجئ عن جمع «الأعداء» في تحالف لمحاربة الإرهاب، كما يغدو مفهوماً أيضاً تسريب واشنطن أنَّ النظام مستعد لبحث نقل السلطة. كل هذا كانت له مقدِّمات واضحة يمكن تتبعها بالتسلسل. لكن مع ذلك، فإنَّ التقدّم على المسارين، لن يعني، بأيّ حال من الأحوال، أنَّ ساعة الحلّ السياسي قد حانت: التسوية لا تزال بعيدة، تقودها ماكنة الديبلوماسية الثقيلة، على أمل إيجاد بصيص جديد لمواصلة السير في نفق جنيف الطويل.

كيف يمكن حساب رصيد مؤتمر جديد للسلام في سوريا؟ لا يخطئ من يحسب بدلالة حصيلة التغيرات الدولية. لا شيء آخر يمكن الحساب عليه، بعدما بات واضحاً وجود تفاهم بين واشنطن وموسكو لمنع الحسم العسكري. إنَّه التفاهم الدولي الوحيد الحاكم الصراع السوري، ومنه ترك إمكانية الحلّ السياسي تدور في فضاء بيان جنيف حول تقاسم السلطة. القاعدة باتت نوعاً من الاتفاقات التقليدية بين لاعبين كبيرين، من غير المقبول فيها هزيمة أحدهما. هنا بات التنافس مفتوحاً، لكن للربح بالنقاط، لا بالضربات القاضية.

ماضي جنيف السوري يرسم مستقبله

كل هذا يجعل جهود موسكو وواشنطن تتبع خيطاً واضحاً، حتى لو تعذّرت رؤيته أحياناً نتيجة حماوة المعارك وتصاعد الصراع الإقليمي. لذلك، من المفيد العودة إلى الظروف التي أنضجت «جنيف 2».

حينما كانت حمى التوقعات ضاربة، قبل انعقاده؛ شدَّد ديبلوماسي أوروبي مخضرم على أنَّه ليس من الحكمة انتظار نتائج كبيرة. الرجل واسع الاطلاع على تداولات الملف السوري، وفرش على الطاولة تعقيدات الصراع. خلاصة تحليله تقول إنَّ كل «الايجابيَّة» ستكون إيجاد «محتوى» أميركي ـ روسي، يمكن معه عقد المؤتمر.

لم يكن ذلك المحتوى سوى توليفة تجمع تضارب المصالح. قالت دمشق إنَّ أيّ بداية للحلّ يجب أن تنطلق من التوحد خلف مكافحة الإرهاب. «الائتلاف الوطني» المعارض، مدعوماً بأصدقائه، اعتبر أنَّ الأولوية هي لبحث الانتقال السياسي. خرجت موسكو وواشنطن بفتوى إنه يمكن عقد المؤتمر لبحث الأولويتين معاً، في شكل متوازٍ. بدأ المؤتمر وانتهى على وقع سجال الأولويات هذا: نبدأ بمكافحة الإرهاب أم بنقل السلطة؟ خلال استعراضه لما جرى بعد المؤتمر، بما فيه مختلف التطورات الدوليَّة، يقول المرجع الديبلوماسي إنَّ عقد جولة جديدة في جنيف «ممكن عبر المراكمة على ما سبق». يشرح أنَّ تطوير فكرة المسارين المتوازيين يمكنها أن تجلب مجدداً أطراف الصراع السوري إلى التفاوض. يمكن الذهاب خطوة أبعد بالنسبة إلى مكافحة الإرهاب، مثلما يمكن، بالتوازي، التقدّم خطوة أبعد بالنسبة إلى نقل السلطة.

يتكرر اليوم، تقريباً، سيناريو مخاضات ولادة «جنيف 2». انطلق التداول حوله في أيار 2013، بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأميركي جون كيري. خرجا حينها بإعلان مشترك حول ضرورة «جمع طرفي الصراع في سوريا على طاولة الحوار».

الهجوم الكيميائي على غوطة دمشق في آب من العام ذاته، سرّع القاطرة. تبنَّى قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2118 بيان جنيف كأساس للحلّ، داعياً إلى عقد مؤتمر دولي لتطبيقه، طبعاً إلى جانب تبنيه تدمير السلاح الكيميائي السوري. مضت نحو ثمانية أشهر على انطلاق المبادرة الثنائية، لينعقد «جنيف 2» في كانون الثاني 2014. انتهى بالفشل؟ من خطَّط له لم يصدّر آمالاً، ولا للحظة، بأنَّه سيذهب أبعد ممَّا ذهب إليه.

المصادفة جعلت الإقلاعة الجديدة، باتجاه مؤتمر جنيف ثالث، تحصل في أيار أيضاً، هذه السنة. على المنوال نفسه، جاءت الإقلاعة من مؤتمر لافروف وكيري، حينما التقاه الأخير مع الرئيس فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي. قضى كيري أربع ساعات مع الوزير، ثم أكثر من أربع ساعات أخرى مع الرئيس.

كان هناك ما يستحق انتظار صدى تلك المحادثات الطويلة. إعلان الوزيرين كان لافتاً جداً، بعدما شدّدا على «تقارب المواقف» مع إشارتهما إلى «مفاهيم جديدة» يمكن العمل عليها حول التسوية السورية. خلاصة كلامهما أكدت استمرارهما في تبنِّي صيغة وآلية المسارين: العمل على محاربة الإرهاب وإطلاق العملية الانتقالية للتسوية السياسية.

استفاض كيري حينها أكثر في عرض السياق العام للتفاهمات. على المسار الأول، أكَّد أنَّه لا يمكن تحقيق «السلام» السوري من دون «الانتقال السياسي للسلطة»، مبيِّنا أن موسكو وواشنطن تعملان على «هذه القضية». على المسار الثاني، نبّه إلى أنَّ مواجهة «داعش» وآخرين تتطلَّب حلفاً واسعاً، لأنَّها «لا تهدد فقط نظام الأسد بل المنطقة بالنتيجة».

مفاجآت روسية وأميركية لكل من يعنيهم الأمر

بعد أقلّ من شهر، بدأت تتسرَّب ملامح «المفاهيم الجديدة»، عبر طروحات جريئة في كلا المسارين. كل فريق روّج للإنجاز الممكن على المسار الذي يهمه.

البداية كانت على مسار «انتقال السلطة». في أوائل حزيران الماضي، خلال قمة مجموعة السبع في ألمانيا، خرج الحديث عن وجود «فرصة» لصفقة سياسية عبر تنحي الرئيس السوري بشار الأسد، بما يفسح المجال أمام تشكيل حكومة انتقالية مشتركة. لم يخفِ المسؤولون الغربيون حينها أنَّ هذه «الفرصة» أو «الخطط» هي نتيجة «أرضية مشتركة جديدة» مع موسكو، تبلورت خلال محادثات كيري في سوتشي.

على مسار محاربة الإرهاب، جاء الطرح المفاجئ الآخر، من الكرملين هذه المرة، بعد نحو أسبوعين من خروج الطرح الأول. فاجأ الرئيس الروسي الجميع بحديثه عن إمكانية قيام حلف إقليمي لمحاربة الإرهاب، يجمع سوريا مع السعودية وتركيا. كان يستقبل وفداً سورياً، يرأسه وزير الخارجية وليد المعلم الذي علّق بأنَّ تحقيق ذلك يحتاج «معجزة».

لم تتوقَّف عجلة التطورات، ودائماً على الطريق الذي رسمته كل من موسكو وواشنطن. في خطوة مفاجئة، ولو من عيار أخفّ، اتفق خصمان معارضان على قراءة مشتركة لبيان جنيف. خرج «الائتلاف» المعارض مع «هيئة التنسيق الوطنية»، قبل أيام، ليقولا إنَّ الأولوية هي لتشكيل «هيئة حكم انتقالية»، بالشراكة مع النظام، تنقل لها صلاحيات رئيس الجمهورية.

مثّل ذلك تحولاً في خطاب «الهيئة»، بعدما تجنَّبت لسنوات حسم موقفها من مصير الأسد. قيادات معارضة قالت لـ «السفير» إنَّ المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ركَّز في اجتماعه معهم على قضية «هيئة الحكم»، مع تأكيده أنَّ في جعبته «خططا بديلة لتحريك الانتقال السياسي».

على كل حال، فحوى التحالف المعارض تعني أنَّ «الهيئة» ستكون في عداد الوفد التفاوضي إلى «جنيف 3»، مع العمل على ضم مجموعات معارضة أخرى.

لم تقم دمشق بردّ فعل خشن تجاه تحالف «الائتلاف» و «الهيئة»، رغم أنَّ قسماً من قيادات الأخيرة تقيم في الداخل. هذا التحالف يرضي روسيا، خصوصاً أنَّ قيادات في «الهيئة» ترفع شعار الحرص على العلاقة الإستراتيجية معها. في الأساس، كان توسيع الوفد التفاوضي المعارض مطلباً شدَّد عليه لافروف، خصوصاً خلال لقاء سوتشي. بالتضافر مع ذلك، قال معارضو الهيئة إن موسكو تبث إشارات حول قبول النظام العمل على انتقال السلطة.

إيران بدورها لا يزعجها تعديل موازين المعارضة، أو الجناح الإصلاحي على الأقل. شخصيات مقرّبة من هذا الجناح تحدّثت سابقاً عن انفتاحه على التعامل مع «المعارضة المعتدلة». كرَّرت أنَّها لا تمانع في إشراك هذه المعارضة في حكم سوريا، لكن طبعاً على أن «يبقى النظام».

نجاح الملف النووي، أشاع آمالاً بمردود إيجابي على الملف السوري، سيحتاج وقتاً ليظهر. هنالك تفاؤل بإمكانية حصول تقارب إقليمي، عبر وساطات منها ما بدأه الأوروبيون.

دمشق بدورها تصدّر ما يدعم قبولها بتقدّم التفاوض وفق صيغة المسارين. الخطاب الأخير للرئيس السوري أكَّد أنَّ تقدّما «جدياً وحقيقياً» في المسار السياسي يستوجب «أن نبعد الإرهاب»، معتبراً أنَّه «لطالما أنَّهم يستخدمون الإرهاب للتأثير في العمل السياسي، فهذا يعني أن العمل السياسي لن ينجح».

كلام الأسد جاء بعد مباحثاته مع دي ميستورا. هذا يعطي سياقاً لقوله إنَّ «وقف الحرب لها الأولوية»، وأنه مستعد للتجاوب لأن «أيّ فرصة فيها احتمال ولو ضئيل لحقن الدماء هي فرصة يجب أن تُلتقط من دون تردّد».

بعد مدّة من زيارته إلى روسيا، عاد المعلّم لتقويم تقديراته. قال إنَّ مبادرة بوتين، حول التحالف مع السعودية وتركيا ضدّ الارهاب، تحتاج «معجزة» لإنجازها لكن على المدى القصير. لا أحد يتحدث عن هذا المدى. الطرحان الجريئان، من موسكو وواشنطن، يرسمان أفقاً يمكن بدء العمل عليه. أما بلوغ ذلك الأفق، على سكة «المسارين»، يمكنه أن يحدث بعدما يتوقّف العدّ في أيّ جنيف باتت المفاوضات. التسوية السورية أيضا ستحتاج «جنيفات» كثيرة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى