التقدم مسؤولية الجيوش (جميل مطر)

 

جميل مطر

درست في مرحلة من مراحل تعليمي على يد أستاذ هندي، اشتهر بين زملائه في التخصص بنظريته عن تقدم الأمم وانتقال المجتمعات من الزراعة إلى الصناعة ثم إلى التكنولوجيا والخدمات. كان يقول ويكرر أن لا مجتمع في التاريخ حقق تقدما إلا وكان الدافع للتقدم هو حماية الأمن والدفاع عن البشر والأرض. الطرق السريعة في ألمانيا والولايات المتحدة، السكك الحديدية في بريطانيا ومستعمراتها بما فيها مصر والهند، الفنون البحرية كالسفن العملاقة وأجهزة الإرشاد، الصناعة الثقيلة الضرورية لصنع المدافع والطائرات والمدرعات والحصون، تعليم العلوم والبحث العلمي كشرط لإنتاج الذرة والصواريخ والطائرات من دون طيار والحشرات والكتائب الآلية، والإصرار على قهر المستحيل، كالصعود إلى القمر والبحث عن علامات الحياة في الكواكب كان ضروريا لإقامة اقمار اصطناعية تتحكم في الاتصالات العسكرية وتحدد الأهداف وتساعد في حمايتها من مواقعها في السماء. جميع أو أكثر الإنجازات التي حققتها البشرية خلال مسيرة تقدمها، نشأت الحاجة إليها لتعزيز الدفاع عن الأوطان.
[[[
منذ أن تلقيت هذا الدرس وانا أحاول صياغة الأسئلة المناسبة سعيا وراء فهم أوسع للعلاقة بين الجيوش وتقدم المجتمعات أو تدهورها. كان السؤال الأهم الذي يلح دائما وفرض نفسه على صدارة قائمة الأسئلة هو المتعلق بعملية استشراف التهديدات العظمى التي تنتظر الوطن في المستقبل، لأنه بناء على هذه التهديدات ستصدر الإيحاءات وتبذل الضغوط أو تصدر الأوامر إلى الصناعيين والتربويين والممولين لتلبية حاجات الدفاع لصد هذه التهديدات التي ستأتي بعد سنوات معدودة.
مرت سنوات، انشغلت في بدايتها بالبحث في دور الجيوش في التنمية السياسية، كان اهتمامي شديدا بالتجربة المصرية باعتبار أنها كانت من التجارب الرائدة في العالم الثالث، خاصة منذ أن كتب فاتيكيوتيس، عالم السياسة المصري من أصل يوناني، كتابه الشهير عن العلاقات المدنية العسكرية ليلحق به أنور عبد الملك بكتابه بعنوان: «مصر مجتمع عسكري»، عن دور الجيش في بناء الدولة المصرية الحديثة. وبعده ظهر كتاب فاينر بعنوان: «رجل على ظهر حصان». ولم يمض وقت طويل بعد نشر هذه الكتب الثلاثة، إلا وكانت رفوف العلوم السياسية والتنمية في مختلف مكتبات الجامعات محشوة بالمئات من الكتب، عن دور الجيوش في تنمية الدول حديثة الاستقلال، والانتقال بها إلى عصر الصناعة.
وللأمانة، لم أخف يوما خلاصة ما توصلت إليه نتيجة ممارسة عملية ويومية مع جيوش في الحكم في العالم العربي وأميركا الجنوبية، وقراءة مستفيضة عن أدوارها في التنمية والسياسة، وهي أن معظم التجارب التي كانت الجيوش تحكم بنفسها وتتولى مسؤوليات سياسية عادية انتهت في أسوأ الظروف بفشل أو بكوارث، وانتهت في أحسن الظروف بتعطيل النمو السياسي، بمعنى «إعطاب» قدرة الطبقات الوسطى على تشكيل أحزاب وحركات مدنية وبناء المواطن والوطن. وحدث في معظم التجارب التي مارست فيها الجيوش الحكم بنفسها أنها انشغلت بمشكلات الحكم والسياسة عن دورها الأساسي كقاطرة حضارة وتقدم، ومركز لتطوير التكنولوجيا، وطاقة هائلة لا تتوفر لغيرها من مؤسسات الدولة للقضاء على الأمية وتوجيه مؤسسات التربية والتعليم لتخريج بشر مؤهلين لقيادة سفينة النمو والأمن.
[[[
تذكرت هذه المرحلة من حياتي الدراسية عندما وقع في يدي تقرير نشرته صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» في الخريف الماضي. يستعرض التقرير المناقشات التي دارت في مؤتمر تبناه «البنتاغون»، وشركات تصنيع السلاح وممولون كبار، كان الهدف من المؤتمر تحديد أهم الأخطار التي يمكن أن تهدد أمن وسلامة الولايات المتحدة والأمن العالمي في «المستقبل العميق»، أي بعد عشرين أو ثلاثين عاما، لا أكثر. قيل إن الهدف من تحديد هذه الأخطار وحشد التوافق اللازم حولها هو «الاستعداد لمواجهتها». تبدأ خطوات الاستعداد بقيام ضباط وزارة الدفاع بوضع مؤشرات دفاعية عامة لصد كل تهديد محتمل، بعضها استباقي والآخر للمواجهة، وتتولى الشركات بناءً على هذه المؤشرات تقديم مقترحات عملية عن أسلحة جديدة وتكنولوجيات حديثة وتصميمات لهذه الأسلحة والتكنولوجيات، ويتولى الممولون مسؤولية تخصيص الاستثمارات اللازمة لتنفيذ هذه التصميمات.
[[[
كانت المفاجأة أن المؤتمر قرر بموافقة جميع المشاركين ، ضباطا كانوا أم خبراء في المستقبليات أم صناعيين وعلماء أم ممولين ومستثمرين، أن، ازدحام المدن وانتشار العشوائيات، سوف يكون أحد أهم ثلاثة أخطار كبرى تهدد الأمن والاستقرار السياسي في العالم، ويهدد بصفة خاصة مصالح أميركا الخارجية خلال وبعد العشرين عاما القادمة. قرر المؤتمر أيضا أن الخطر الثاني سوف يأتي نتيجة الآثار الناتجة من ثورات الربيع العربي، إذ اعتبر عدد كبير من المشاركين أن الآثار الحقيقية والأهم لهذه الثورات لم تظهر بعد، وأنها أكبر وأكثر من كل ما يتوقعه القادة الغربيون وزعماء المنطقة وقادة حركاتها السياسية. أما التهديد الثالث المتوقع للأمن القومي الأميركي، والعالمي أيضا، فمصدره التطور الهائل في تكنولوجيا إنتاج نماذج متقدمة من الطائرات بدون طيار و«الروبوتات» التي تصلح للاستخدام الشخصي. بمعنى آخر، يتوقع المشاركون في المؤتمر أنه في خلال أو في نهاية العقدين القادمين سوف يكون في حوزة عدد متزايد من الأفراد العاديين طائرات بدون طيار يستخدمونها لأغراض شريرة وإجرامية ومعادية للوطن أو لأغراض بريئة مثل شراء الخضر واللحوم وتبادل الرسائل الغرامية والتنصت على الجيران وعلى مؤسسات الدولة، وسيكون في حوزتهم أيضا عدد وفير من الروبوتات ووسائط الاتصال الإلكترونية، لا يقدر العقل الراهن على تصور ما يمكن أن يفعله بها الحائزون لها.
[[[
على هذا النحو يجب أن تفكر الجيوش وتعمل. تتجاوز الجهود اليومية في حماية حدود الدولة وحفظ الأمن والاستقرار، إلى التفكير في الطرق والسبل الكفيلة بإقناع جامعات الدولة بتخريج شبان مؤهلين للتصدي لتهديدات واقعة ومحتملة بعد عشرين أو ثلاثين عاما بل وافتراضية أيضا. تتجاوزها كذلك للانشغال بوضع خطط للدفاع عن مصادر قوة الدولة الناعمة والصلبة على حد سواء ضد تهديدات يجب توقعها بناء على التجارب الماضية وتجارب الأمم الأخرى. لاحظت مثلا أن العسكريين الأميركيين يتوقعون أن يغلي الشرق الأوسط خلال السنوات القادمة بالصراعات المذهبية، ويقترحون الاهتمام بإنشاء وتطوير ميليشيات شبه عسكرية ملحقة بالجيوش أو منفصلة في شكل حرس وطني أو قوات دفاع مدني، يعتبرونها الوسيلة المثلى لمواجهة هذا النوع من التهديدات التي لا تقدر عليها الجيوش المنظمة.
يدركون أيضا أن الدبابة أو المدرعة العريضة والثقيلة لن تتحرك بسهولة في أزقة العشوائيات لمواجهة تهديدات خطيرة، وأن مركبات في حجم التوكتوك قد تكون أفضل وأكفأ. تظل الدبابة مفيدة لحماية الحدود الصحراوية والأماكن المفتوحة، ومن الضروري الاستمرار في انتاجها، ولكن بعد عشرين عاما ستكون معظم مسارح الحرب كثيفة السكان وغير مفتوحة، وهذه ستحتاج إلى آليات نقل أصغر وطائرات من دون طيار صغيرة الحجم وروبوتات مجهزة خصيصا للتسرب في الحواري والأزقة الضيقة تتسلل منها إلى المساكن لتقتل أو تدمر، أو لتصطاد روبوتات العدو وطائراته من دون طيار المخبأة في عشوائيات المدن.
[[[
المستقبل العميق أقرب مما نتصور ويحمل من التهديدات لحياتنا وأمن مجتمعاتنا أكثر مما نتخيل. أجدى للجيوش أن تنشغل بخطر التهديدات المتوقعة في المستقبل والاستعداد لها والمساهمة في قيادة جهود التقدم العلمي والحضاري من أن تنشغل بتفاهات السياسة وفسادها وبمناورات الحكم ومتاعبه.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى