الجماعة وأطوارها: المحظور والمحظوظة والملفوظة (فرانسوا باسيلي)

 

فرانسوا باسيلي
 
 بعد سبعة أشهر من وصول د. محمد مرسي لكرسي رئاسة الجمهورية واتضاح الأداء المتدني لحكم الأخوان في كافة المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، بما في ذلك أمن مصر القومي، وتصاعد النقد الشديد لهم في الشارع وفي مواقع التواصل الإجتماعي بشكل غير مسبوق في تاريخ الجماعة، يمكن القول أن الجماعة في طريقها لأن تصبح "جماعة ملفوظة"، بعد أن كانت منذ صعودها لترث الثورة المصرية تعتبر "جماعة محظوظة"، وكانت قبلها في عهد الرئيس مبارك تسمى "الجماعة المحظورة ".
هي إذن أطوار مختلفة للجماعة ذات التاريخ الممتد لحوالي خمسة وثمانين عاما، منذ أن قام مؤسسها الشيخ حسن البنا بتكوينها كجماعة دينية دعوية ذات طموحات ضخمة تتضمن العالمية.
لم تمض فترة طويلة على تأسيس الجماعة في مدينة الاسماعيلية ثم انتقال مركزها مع مؤسسها الشيخ إلى القاهرة حتى بدأ اصطدامها بالنظام السياسي الحاكم في مصر، والذي وصل ذروته بعد قيامها بعدد من الاغتيالات لشخصيات سياسية مصرية هامة باقدام الحرس الحديدي للملك فاروق على اغتيال حسن البنا.
تمحور الصدام أساسا حول طموح الجماعة في الانشغال بالسياسة أملا في الوصول إلى سدة الحكم وإعلان عودة الخلافة الاسلامية التي كان انهيارها قبل سنوات قليلة من تأسيس الجماعة هو أحد أهم دوافع تكوينها. ومازال هدف إعادة الخلافة الاسلامية هو الحلم الجاثم في خلفية كافة تطلعات وانشغالات قيادات الجماعة الذين تفلت منهم من وقت لأخر تصريحات وخطب يتوهج فيها هذا الحلم الهائل.
منذ أن بدأ العمل السياسي للجماعة – والذي سريعا ما صاحبه العمل شبه العسكري للتنظيم السري الخاص الذي كونه حسن البنا تحت دعوى العمل الجهادي ضد المحتل الانجليزي – بدأت الأنظمة المختلفة تضع الحظر تلو الآخر على أنشطة الجماعة السياسية والعسكرية. وفي مقابلة شهيرة بين الزعيم الوفدي الكبير مصطفى النحاس وحسن البنا، قال له النحاس أن على البنا أن يختار أحد مسارين، فإما أن يقتصر على العمل الدعوي الديني وفي هذا ستكون له حرية العمل بلا تدخل من الحكومة، وإما أن يختار العمل السياسي وعندها يعلن جماعته حزبا سياسيا وفي هذه الحالة عليها الابتعاد عن العمل الدعوي الديني، أما الخلط بين الاثنين فهو ممنوع في الديمقراطيات الحديثة التي كانت مصر تسعى أن تكون بينها.
وتظاهر البنا بالموافقة على الابتعاد عن السياسية ولكن الجماعة ظلت دائما تضع عينا على الدعوة وعينا أخرى على الحكم أملة أن تجمع بين الاثنين بالصعود إلى السلطة وإعلان عودة الخلافة حيث تكون "الحاكمية لله" كما راح ينادي بعد ذلك سيد قطب وهو الرجل الثاني في الأهمية التاريخية بعد حسن البنا في تطوير وبلورة المرجعية الفكرية للجماعة.
بدأت الجماعة إذن وجودها كجماعة دعوية سرعان ما أصبحت "محظورة" بسبب تطلعاتها السياسية العسكرية وأعمال العنف التي مارستها ضد النظام الحاكم ورموزه في الشارع وأدى اصطدام الجماعة مع نظام الملك فاروق باغتيال مؤسسها حسن البنا.
ثم أدى اصطدامها مع نظام عبد الناصر ليس فقط إلى اعتبارها "محظورة" ولكن أصبحت في الواقع جماعة "مطرودة" فمن لم يسجنه عبدالناصر من قادتها بعد محاولة اغيتاله، طردهم إلى خارج مصر فاحتضنتهم السعودية ذات التوجه الوهابي المشابه للتوجه الاخواني في مزج الدين بالسياسة وفي الرؤية الدينية المتزمتة للمجتمع والحياة. ولم يعد للإخوان وجود أو تأثير داخل مصر بقية حكم عبدالناصر منذ عام 1955 وإلى وفاته في عام 1970.
ثم سمح السادات لهم بالعودة للتأثير في الشارع المصري وأخونة المجتمع بشكل إزداد وإكتمل في عهد مبارك الذي راح يراقصهم سياسيا ويناورهم أمنيا دون أن يستطيع أن يقدم بديلا فكريا أو اجتماعيا أو اقتصاديا لهم. فاستحوذوا على المجتمع المصري منذ بداية التسعينات حتى قاموا بفرض رؤيتهم على الشارع المصري وأصبح ما أعلنوا أنه "الزي الشرعي" هو الزي المستخدم من معظم نساء مصر المسلمات وزادت الجرعة الدينية في المجتمع المصري إلى حد بلغ حالة تقترب من الهوس الجماعي والدروشة الدينية غير المعروفة سوى في مجتمعات أخرى قليلة جدا كالسعودية وباكستان وافغانستان.
من اللافت للنظر أن المجتمع المصري لم يزدهر اجتماعياً وثقافياً وابداعياً وعلمياً بشكل متوهج وواعد إلا منذ منتصف الخمسينات وحتى رحيل عبدالناصر عام 1970، أي في فترة غياب الاخوان عن الساحة المصرية وانحسار تأثيرها بشكل شبه كامل أمام الطوفان السياسي – الفكري – الحضاري الذي أشعله اليسار المصري أساسا خاصة في الستينيات. وهذا ليس غريبا فاليمين الديني في كل مجتمع – وليس في المجتمع الاسلامي فقط – يحمل في جيناته الفكرية ورؤيته المتزمتة عداء تاريخيا للعلوم والفنون وللإبداع بشكل عام وخاصة الابداع الفكري والفني والأدبي والعلمي، وهذا واقع سواء في المجتمع الاميركي أو المجتمع المصري.
ظلت الجماعة "محظورة" سياسيا رغم سيطرتها اجتماعيا وفكريا في مصر طوال عهد الرئيس مبارك الذي فشل في مواجهتها وسلم لها الشارع المصري تسيطر عليه سيطرة كاملة. ولذلك لم يكن غريبا أن تكون الجماعة مستعدة تماما لكي ترث نظام مبارك. فمن كان مسيطرا على المجتمع كله بقاعدته العريضة لم يكن صعبا عليه القفز على القشة الوحيدة المتبقية وهي كرسي السلطة. ولهذا فالمسؤول عن وصول الإخوان للحكم واستيلائهم الكامل على مصر – مجتمعا ودولة- هو الرئيس مبارك ولا أحد سواه.

من المحظورة إلى المحظوظة
حينما اندلعت ثورة 25 يناير الفريدة في تاريخ الثورات والشعوب بمبادرة شباب مصر المثقف المتعلم مستخدم الفيسبوك وتويتر، والذي استطاع أن يملأ ميادين مصر ضد طغيان وبطش أجهزة الأمن السادية المتوحشة في حمايتها لنظام مبارك وليس للوطن مما أثار إعجاب بقية الشعب المصري فنزل حوالي خمسة عشر مليونا من مواطنيه إلى مدن القاهرة والإسكندرية وبقية مدن مصر الكبرى في الدلتا والصعيد وقناة السويس، قررت وأعلنت الجماعة المحظورة أنها لن تشارك فيها. ولكن بعد استمرار ملايين المواطنين في النزول إلى الشوارع والميادين لثلاثة أيام متواصلة بلا تراجع، شعرت الجماعة أن تقاعسها عن المشاركة سيعزلها عن بقية المصريين ويعرضها لخسارة معنوية ومادية كبيرة، فراحت تنزل بداية من جمعة الغضب في 28 يناير. ومازال دورها محل جدل وقضايا واتهامات قد تتضح مع الوقت، وإن كنت أميل إلى الاقتناع بأن الإخوان شاركوا في حماية الثوار في ميدان التحرير فلم تكن لهم مصلحة مع النظام وليس من المنطق تصور أنهم كانوا ضد الثوار. ولكن الجماعة أيضا لم تقطع حبال تواصلها مع النظام فلم تكن متأكدة من انتصار الثورة وأرادت أن تمسك العصا من الوسط فهرولت للقاء اللواء عمر سليمان الذي أصبح نائبا لرئيس الجهورية ووافقت على عقد صفقة معه تحميها في حالة فشل الثورة ولا تلزمها بشيء في حالة نجاحها.
بعد تنحي مبارك عن الحكم تحت ضغط الملايين في الشارع أساسا وإعلان الجيش موقفه بعدم اطلاق الرصاص على المتظاهرين في اعتقادي لأن قيادة الجيش أدركت أنها غير قادرة على السيطرة على خمسة عشر مليونا من المصريين بجانب عدم حماسها للدفاع عن رئيس كانت كل العوامل السياسية والانسانية تقول انه يجب أن يكون خارج الحكم منذ عشر سنوات على الاقل. راح المجلس العسكري بعد ذلك يدير البلاد بشكل رأي فيه الكثيرون قصورا في الاداء وفشلا في تحقيق أهداف الثورة، بل رأى البعض أنه قد حدث نوع من التفاهم بين المجلس وبين الجماعة التي قد أصبحت – فجأة- غير محظورة، إذ راحت تظهر على المسرح السياسي بشكل متزايد. وما زاد من ريبة القوى الوطنية والثورية أن المجلس العسكري وافق على طلب الإخوان أن تكون الانتخابات البرلمانية لمجلس الشعب لها الأولوية وليست كتابة دستور جديد للبلاد.
أما أهم التنازلات التي قدمها المجلس العسكري للجماعة فكانت موافقتهم على قيام الجماعة بتأسيس حزب سياسي بمرجعية دينية أسموه الذراع السياسي للجماعة، رغم أن الدستور والإعلان الدستوري الذي حل مكانه، والقانون المصري، كانوا جميعا يمنعون قيام أحزاب سياسية على خلفية دينية. وكان هذا التنازل هو السبب الأساسي في نجاح الجماعة ومعها التيار السلفي في الحصول على الأكثرية في مجلس الشعب، بعدما سمح لهم أيضا باستخدام الشعارات الدينية في الحملات الانتخابية واستغلال المساجد للترويج السياسي.
النجاح الساحق للإخوان وحلفائهم السلفيين أدى إلى تحويل الجماعة من جماعة محظورة إلى جماعة محظوظة، ووصل هذا الحظ إلى ذروته بفوز ممثل الجماعة د. محمد مرسي برئاسة الجمهورية في انتخابات لم تخلُ هي الأخرى من التأثير الديني، بالأضافة إلى هرولة القوى الثورية والوطنية الأخرى لتأييد مرسي خوفا مما تصوروا أنه عودة "العسكر" للسيطرة بعد الثورة الشعبية التي أرادت حكما مدنيا بعد طول سنين.

من المحظوظة إلى الملفوظة
بدأت الجماعة المحظوظة، بعد دخولها مجلس الشعب وإذاعة جلساته مباشرة في التلفزيون، تتعرض للنقد من أطراف وقوى متعددة في المجتمع رأت في أدائها السياسي وتصرفات أعضائها وأعضاء حليفها حزب النور السلفي قصورا شديدا وصل إلى حد الافتضاح في بعض فصوله. فقد كشفت الجماعة عن غياب مدهش لكوادر سياسية قيادية ذات رؤية استراتيجية واضحة وراح المصريون بعد فترة بضعة أشهر يتندرون ويسخرون من أداء الجماعة التي راحت قياداتها تظهر بشكل مكثف في التلفزيون لتدلي بأحاديث مطولة كشفت عن رؤية فقيرة للغاية لدور القيادة السياسية لوطن بقيمة وحجم مصر.
بعد تسلم الرئيس مرسي لسلطاته ازداد تخبط الجماعة والرئيس معا، واختلطت الأمور والخيوط بينهما بشكل واضح وشعر كثير من المصريين أن من يحكم مصر فعليا هو مكتب إرشاد الجماعة وليس رئيس الجمهورية، وتصاعد هتاف "يسقط يسقط حكم المرشد" في انحاء مصر، وراحت التصريحات والمواقف الصاعدة من مكتب الارشاد وحزب الجماعة ومن الرئاسة تتضارب وتتناقض ويلغي بعضها بعضا.
تفاقم الشعور السلبي لدى قطاعات متزايدة من المصريين ومن بينهم من منحوا د. مرسي أصواتهم بعد قيامه المفاجئ بمنح نفسه سلطات استثنائية وصفت داخليا وخارجيا بالديكتاتورية، وقيامه بمحاولة تقويض سلطة القضاء المصري ثم قيام جماعة من مناصري الجماعة بمحاصرة المحكمة الدستورية العليا ومنعها من الاجتماع لاصدار أحكامها الخاصة بمجلس الشورى وباللجنة التأسيسية للدستور، هذه الأخيرة التي انفضت عنها كل القوى الوطنية ومعها الكنائس المصرية الثلاثة ولم يبق بها سوى الإخوان والسلفيين وعدد قليل جدا من المتعاطفين معهم.
ازداد سوء "حظ الجماعة" مع الأداء البائس لحكومة هشام قنديل ومنها صدور قرار زيادة اسعار عدد كبير من السلع الضرورية ثم العدول عن القرار بعد ست ساعات من صدوره، وكذلك قرار إغلاق المحلات في العاشرة مساء ثم العدول عنه أو تأجيله. وهكذا راحت القرارات العشوائية تتوالى في عبثية سياسية لم تعرفها مصر حتى في أشد الأوقات صعوبة في تاريخها الحديث.
اكتملت هذه بسلسلة من الكوارث لقطارات السكك الحديدية في مصر. ورغم أن الإخوان سارعوا بإلقاء المسئولية على نظام مبارك – وأنا متعاطف معهم في هذا فليس من المعقول إصلاح مرفق بهذه الضخامة في سبعة أشهر وهو الذي تركه مبارك في حالة بائسة من الإهمال لثلاثين سنة – ولكن المزعج والواضح للمصريين أن هذه الحكومة وكوادرها الإخوانية لم تعرف كيف تدير هذه الأزمة ولم تقدم على اتخاذ إجراءات ناجحة تمنع تكرارها أو حتى تمنح الأمل في أداء أفضل في المستقبل. ولكن أكتفت الحكومة بتوجه كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة لزيارة بعض المصابين والتقاط صور معهم مما أثار غضب وسخرية المصريين لدى اكتشافهم مدى فبركة هذه الصور والصبغة الاعلانية الفجة التي لونتها.
تدريجيا أصبحت الجماعة ملفوظة من قطاع متزايد من المصريين لأنها لم تكن مؤهلة لحكم مصر بهذا الشكل الأوحد الذي اختارته لنفسها، فهي لا تملك الكوادر القيادية ولا الرؤية الاستراتيجية ولا الخبرة السياسية ولا الرغبة في تحقيق التوافق الوطني والعمل مع القوى الوطنية. ولا نستطيع أن نلومها على هذا، ففاقد الشيء لا يعطيه واللوم يقع على من اختاروا الجماعة لكي تحكم مصر وهي بلا أهلية لذلك.
ولم تكد تمر ستة أشهر على حكم الرئيس مرسي حتى خرج في ديسمبر 2012 عدة ملايين من المصريين في عدد كبير من مدن مصر إحتجاجا على الإخوان الذين تملكهم الرعب من المشهد فدفعوا بحشد من أتباع السمع والطاعة للعنف ضد قلة تبقت من المتظاهرين المسالمين ليلا أمام قصر الرئاسة بالاتحادية فهدموا خيامهم وقاموا بسحلهم وتعذيبهم بشكل وحشي، إذ أدرك الاخوان أن المصريين لم يخرجوا فقط اعتراضا على قرارات رئيسهم الدكتاتورية في إعلانه الدستوري قبلها بأيام ولكن أيضا اعتراضا على الأداء البائس لجماعة الإخوان نفسها. وشاهد الاخوان لأول مرة في التاريخ سقوط مصداقيتهم وشعبيتهم وشرعيتهم في الشارع المصري وراحوا يسمعون في كل مكان "يسقط يسقط حكم المرشد". لم يهتف المصريون ضد المرشد من قبل في تاريخ مصر مما ينبئ بأن هذه هي بداية النهاية لهيمنة الجماعة وفكرها على الشارع والوجدان المصري.
لا أرى مستقبلا لمصر لا يوجد فيه الاخوان. فسيظلون موجودين بعد رحيل الرئيس مرسي كجماعة وكحزب وكأفراد وكفكرة لها أقلية تؤمن بها وهذا حقهم. ولكني أرى مستقبلا لا يحكم فيه مصر الاخوان، لأن فكرهم أضيق من فكرة مصر ومن معنى مصر ومن طموح مصر. ومع الوقت سيصبح الاخوان جماعة "ملفوظة"، هذه المرة ليس من نظام يضطهدها، ولكن من أغلبية من المصريين اختبروها فوجدوها قاصرة، سيلفظها بقية المصريين الباحثين عن العيش والحرية والعدالة الإجتماعية التي قامت من أجلها الثورة ولم يمنحها الاخوان أي إهتمام، بقية المصريين المحبين للحياة والمرح والفرح والفن والابداع والوسطية والتعددية وحقوق المرأة وكل ما يكرهه الاخوان بالضرورة.
وهكذا تكون الثورة والنظام الديمقراطي الذي أتت به قد حققت ما عجزت كل الأنظمة السابقة بكل أجهزتها القمعية على تحقيقه، وهو تحرير المصريين من الفكر الاخواني مرة أخيرة ونهائية.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى