الحوار الإستراتيجي المصري ـ الأميركي هل هو استراتيجي فعلاً؟

بدأت أمس في القاهرة جولة جديدة من جولات الحوار الإستراتيجي المصري – الأميركي، في بيئة إقليمية مختلفة تماماً عن تلك التي عقدت في غضونها آخر جولات هذا الحوار قبل ست سنوات، أي في العام 2009. جرت مياه كثيرة في نهر النيل وأنهار أميركا، وتغير الوضع جذريا في الشرق الأوسط، بحيث يتطلب الأمر وسائل وطرائق جديدة للتعامل مع هذه المستجدات، بافتراض أن الحوار بين الطرفين هو حوار إستراتيجي بالفعل. يظهر الإطار العام الذي يجري الحوار المصري – الأميركي من خلاله أن الطرفين يرغبان في الحيلولة دون تدهور العلاقات إلى مستويات أكثر انحدارا، والوسيلة الأفضل لعمل ذلك هي الإعلان عن الحوار «الإستراتيجي» والبدء فيه. كل طرف من طرفي الحوار يبتغي تحصيل منافع وقتية بعينها من الآخر، في حين تتسع الفجوة في رؤية كل منهما حيال قضايا المنطقة باضطراد؛ ما يعني أن صفة «الإستراتيجي» الرائجة في وسائل الإعلام لا تعكس حقيقة هذا الحوار، ولا الأهداف والقيم المتعارضة التي يتبناها كل طرف تجاه الأخر.

الإطار التاريخي للحوار المصري ـ الأميركي

تجري الولايات المتحدة الأميركية حوارات «إستراتيجية» مماثلة مع كل من الصين والهند وباكستان وإسرائيل والمغرب ونيوزيلندا، بحيث تدور هذه الحوارات على مروحة تضم موضوعات عدة مثل التعاون الأمني والتجارة والاقتصاد والتبادل الثقافي والإصلاح السياسي والقضايا الإقليمية. فيما يخص مصر، فقد جرى «الحوار الإستراتيجي» الأول العام 1998 على مستوى الوزراء، وجرى الثاني في العام 1999 على مستوى نواب الوزراء، وكلاهما تم في عصر الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون على خلفية عملية «أوسلو» للسلام. ثم عقدت جلسة ثالثة للحوار بين الطرفين في عصر الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش العام 2006، وتزامن عقد الحوار مع العدوان الإسرائيلي على لبنان. تبدل الحال نوعيا مع استلام أوباما سدة الرئاسة في واشنطن، حيث زار القاهرة وألقى خطابا شهيرا للعالم الإسلامي من جامعة القاهرة العام 2009 والتقى بعده بالرئيس المخلوع حسني مبارك، ملمّحا بنعومة وبشكل موارب إلى مطالبه في التعددية والتغيير السياسي. حوار الأمس هو الخامس على التوالي والأول بعد «الربيع العربي»، الذي غيّر بشدة موازين القوى في المنطقة. لم تتحقق رهانات أوباما على جماعة «الإخوان المسلمين»، وتوترت العلاقات بين القاهرة وواشنطن أكثر بعد الموجة الثورية الثانية في 30 يونيو/ حزيران 2013 ثم بلغت مراحل متقدمة من التوتر بعد 3 يوليو/ تموز من ذات العام وما أعقبها من انتخابات رئاسية أتت بوزير الدفاع السابق عبد الفتاح السيسي إلى سدة الرئاسة. جمدت واشنطن مساعداتها العسكرية إلى مصر والمقدرة بنحو 1.3 مليار دولار سنويا، والمقررة بعد «اتفاق السلام المصري – الإسرائيلي» العام 1979. تحسنت العلاقات جزئيا بعد اللقاء الذي جرى بين السيسي وأوباما على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في أيلول من العام 2014، وما تلاها في آذار من العام الجاري 2015 من مرونة أميركية في موضوع المساعدات العسكرية. وبرغم ذلك، ما زالت تصورات الطرفين للمنطقة ومستقبل العملية السياسية في مصر متصادمة بشكل يستعصي على التجسير في الواقع.

الإطار الإقليمي الراهن للحوار المصري ـ الأميركي

برغم الابتسامات الواسعة التي يوزعها وزير الخارجية الأميركي محدود المواهب جون كيري على الكاميرات، إلا أن رؤية الطرفين حيال القضايا محل الحوار تبدو متصادمة وليست متعارضة فقط. ومرد التصادم ليس التوجهات الأيديولوجية فحسب، بل البيئة الإقليمية بالأساس. تغيرت الأخيرة في السنوات الست الماضية، التي تفصل جولة الحوار الحالية عن سابقتها، بحيث تركت تأثيراتها على رؤى الطرفين وبالتالي على خطابهما السياسي. ارتكز الحوار تاريخيا على دور مصر في عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية وعلى أهمية الموقع الجغرافي لمصر وعلى التسهيلات العسكرية التي تقدمها مصر لأميركا، سواء بالعبور في الأجواء المصرية أو المرور من قناة السويس، بما مكن واشنطن من الحشد لإجراء عمليات في الخليج العربي والقرن الأفريقي. ومع تبديل واشنطن لأولوياتها في المنطقة، يبدو أن احتمالات الانخراط الأميركي بعمليات عسكرية على غرار الأعوام 1991 2003 قد تراجعت بشدة بعد إبرام الاتفاق النووي مع إيران. وبالمحصلة، يعني ذلك تراجعا نسبيا في وزن الموقع المصري الاستراتيجي المربوط حصرياً حتى الآن، للأسف، بتصورات الإدارات الأميركية المتعاقبة الخاصة بتوجيه ضربات عسكرية في المنطقة. في هذا السياق، يبدو التقصير الإستراتيجي للنخبة المصرية في تمام وضوحه، لأنها عجزت عن استيعاب مغزى التغيرات الإقليمية التي ضربت المنطقة وتأثيرها على أهمية مصر الإستراتيجية، وما يتفرع عنها من وزن نسبي في جولات حوار مع أميركا أو غيرها. بالمقابل، لم يستطع أوباما التأثير على القاهرة باتجاه خريطة طريق سياسية تتماشى مع تصوراته، بحيث تدور أهدافه من الحوار مع مصر حول الحيلولة دون تدهور العلاقات مع القاهرة إلى مراحل متردية أكثر من ذلك. بدوره، لم يستطع النظام المصري الجديد انتزاع اعتراف دولي واسع به بسبب الإدارة الأميركية التي تندد بسجله في حقوق الإنسان وحرية التعبير، ولا اعترافا بأدوار إقليمية له ذات شأن سواء في ليبيا المجاورة والتي تشكل الأوضاع فيها تهديدا للأمن الإقليمي وليس المصري فقط، أو في إطار «القوة العربية المشتركة» التي لم تعطها واشنطن الضوء الأخضر حتى الآن.

تقول القاعدة إنه كلما تناول الحوار بين الطرفين قضايا الإقليم الملتهب وأدوار مصر المرتقبة فيه، يمكن وصف الحوار بأنه «إستراتيجي» فعلا من المنظور المصري. وبالمقابل، كلما انحصر الحوار على رؤى الطرفين لما يجري في مصر وعلى قضايا إقليمية ودولية عامة تصلح للتداول في الإعلام مثل مكافحة الإرهاب، ارتفع المؤشر العام المرجح بأن جلسات الحوار ليست إستراتيجية ولا من يحزنون، بل لتقطيع الوقت فقط.

الخلاصة

لا يمكن وصف الحوار المصري ـ الأميركي الجاري بأنه «إستراتيجي»، حيث تتصادم تصورات الطرفين لمستقبل المنطقة وما يتوقعه كل منهما من الآخر. تحيط سلسلة من الأزمات والقضايا الجوهرية بمصر، لا يمكن استبعاد التأثير الأميركي منها. أولها قضية مياه النيل والعلاقات الأثيوبية ـ الأميركية، وثانيها التطورات في ليبيا والناشئة في أعقاب العملية العسكرية لحلف «الناتو» فيها والتصدي الأميركي لتصورات مصر فيها، وثالثها «القوة العربية المشتركة» التي تضغط واشنطن على الدول العربية لعدم المشاركة الفعالة فيها، ورابعها تقسيم ثروات الغاز في البحر المتوسط ومسارات أنابيبه والتي تحرك واشنطن أحداثها وتطوراتها عبر شركاتها العملاقة من خلف الستار. هذه القضايا الأربع جديرة بالبحث على مائدة الحوار إذا أريد له أن يكون «إستراتيجياً» فعلا. إدارة أوباما تريد إبقاء وضعية مصر الإستراتيجية الراهنة كما هي وتستخدم الحوار للحيلولة من دون تدهور أكثر في العلاقات وكجزء من رؤيتها لطمأنة الدول العربية من تداعيات الاتفاق النووي مع إيران. وإدارة السيسي تراهن على انقضاء السنة الأخيرة من ولاية أوباما ومجيء رئيس أميركي أكثر تفهما، وتقطع الوقت المتبقي في حوار يطلق عليه الإعلام المصري وصف «إستراتيجي» لأغراض بريستيجية وليست إستراتيجية على الإطلاق. كلمة أخيرة: طالما استمرت التصورات المصرية غارقة في الحفاظ على الأمر الواقع وما كان من أدوار ثانوية في المعية الأميركية قبل عشرين عاما خلت، من دون خلق تصورات جديدة لأدوار مصر بما يتوافق مع إمكاناتها الكامنة والتغييرات الجذرية الجارية في المنطقة، فلا عجب من التراجع المستمر في مكانة مصر الإقليمية، حتى مع رئيس أميركي جديد العام المقبل!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى