الخاصرة الرخوة للأمن القومي العربي (عامر راشد)

 

عامر راشد

تفاعلات تحويل إثيوبيا لمجرى نهر النيل الأزرق وبناء "سد النهضة"، والتأثيرات المتوقعة لهذه الخطوة على حصة السودان ومصر من مياه النيل، تكشف عما يعانيه الأمن القومي العربي من خراب، وعجز في الرؤى الاستراتيجية للمنظومة الرسمية العربية، التي لم تفهم يوماً كما ينبغي، لغة المصالح وبناء الجسور السياسية والاقتصادية كسياج للأمن.
دقت دول منبع نهر النيل الست، إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي، ناقوس الخطر عام 2010 بالتوقيع في "عنتيبي" على معاهدة جديدة لاقتسام مياه النهر دون أدنى اكتراث لاعتراض دولتي المصب السودان ومصر، اللتين تقتطع المعاهدة قسماً من حصتهما المقدرة سنوياً بـ 55.5 مليون متر مكعب لمصر و18.5 مليوناً للسودان، يمكن أن يزيد على 20%. وما كان لدول المنبع أن تذهب إلى هذا الحد من عدم الاكتراث، لولا أنها متيقنة من أن خيارات الحكومتين والمصرية والسودانية في الرد محدودة وغير فعالة، ولن تتجاوز تسجيل اعتراضات سياسية وقانونية ستجرفها المشاريع التي باشرت بها تلك الدول.
لقد غدا الصراع على المياه لإشعال حروب في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا والكثير من بقاع العالم، وأصبح العرب في قائمة ضحاياها، حيث ان اغلب البلدان العربية لا تملك السيطرة الكاملة على منابع مياهها. فأثيوبيا وتركيا وغينيا وإيران والسنغال وكينيا وأوغندا تتحكم بحوالي 60% من منابع الموارد المائية للوطن العربي، وبدأت بعض المنظمات الدولية، (كالبنك الدولي ومنظمة الفاو)، تروج لاقتراحات غاية في الخطورة من نمط تسعير المياه، فيما يزيد الأمر تعقيداً معاناة العالم العربي من فقر مائي سيصل في وقت قريب إلى مستوى خطر داهم على الأمن القومي العربي، لارتباطه بالأمن المائي والأمن الغذائي، مع تزايد الكثافة السكانية مترافقة مع الشح الشديد في الموارد المائية، ومستلزمات عمليات التنمية المستدامة.
وإذ يشكِّل تزايد شح المصادر المائية في معظم البلاد العربية، وكون (90%) من الأراضي الزراعية في العالم العربي تعتمد على مياه الأنهار، التي تنبع من خارج الأراضي العربية، فإن القرار الأثيوبي، كتطبيق للمعاهدة الجديدة بين دون المنبع، يترجم استراتيجيات جديدة للدول الست لديها قابلية للبناء على تعارض المصالح الإقليمية مع الشريكين العربيين في النهر، مصر والسودان، واستخدام تقاسم المياه كأداة لابتزاز سياسي يوظف إقليمياً ودولياً على نحو وثيق الصلة بالصراع في منطقة الشرق الأوسط، والمطامع الغربية في الثروات الأفريقية، تديره تدخلات خارجية، إسرائيل أحد اللاعبين الرئيسيين فيها، لحرمان السودان ومصر من شريان الحياة.
ولارتباط الأمن المائي بالأمن الغذائي، يواجه المفهوم الأخير مستقبلاً غامضاً أيضاً في أغلبية البلدان العربية، التي تعتمد على استيراد سلع إستراتيجية من احتياجاتها الغذائية، باتت عرضة لتهديدات كبيرة بسبب استخدامها من الدول المصدرة كسلاح سياسي، ولندرة الموارد الطبيعية وتدهورها، علاوة على ضعف الاستراتيجيات الوطنية والمشتركة في البلدان العربية، لتنمية شاملة ومتوازنة ومستدامة، وضعف الاستثمارات في التنمية الزراعية أو وضعها في المكان غير المناسب، مما يجعل البلدان العربية عرضة لعدم الاستقرار اقتصادياً واجتماعياً، نظراً لتقلبات حجم المعروض في السوق العالمية تبعاً للإنتاج، وتغيرات السياسات التجارية، وتذبذب أسعار السلع الأساسية، وسط تحذيرات متعاظمة من مستقبل غامض يواجه الأمن المائي الغذائي العربي.

وبقيت قرارات القمم الاقتصادية العربية، والمكتب التنفيذي لوزراء الري العرب، حبراً على ورق، لغياب المتابعة والآليات بخصوص التعاون البيني في قضايا المياه والتنمية، وتعزيز القدرات التفاوضية للدول العربية بشأن الموارد المائية المشتركة مع دول الجوار غير العربية، والتعاون مع المنظمات الإقليمية والدولية فيما يخص مجال المياه، لمواجهة التحديات والمتطلبات المستقبلية للتنمية المستدامة.
وبافتراض أن تلك القرارات كانت قابلة للصرف، فتعزيز القدرات التفاوضية للبلدان العربية بشأن الموارد المائية المشتركة مع البلدان غير العربية، تعوزه مصالح سياسية واقتصادية مشتركة بين الدول العربية ودول الجوار المعنية، تأخذها تلك الدول بعين الاعتبار في تعاملها مع ملف حيوي كقضية المياه. حيث يلاحظ أنه رغم عمق العلاقات التاريخية بين البلدان العربية والبلدان الأفريقية، إلا أنه لا ينعكس إيجاباً على العلاقات الاقتصادية، فنصيب كافة الدول العربية من إجمالي الصادرات الأفريقية يبلغ 1.18% فقط، في حين كانت الواردات الأفريقية من العالم العربي في العام نفسه 2.47% وذلك من إجمالي واردات 45 دولة أفريقية غير عربية، ولم يتخط حجم التبادل التجاري بين مصر ودول أفريقيا منذ انضمامها لدول اتفاقية السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا (الكوميسا) 2.3 مليار دولار.
وبالقياس مع ما سبق، ارتفع التأثير الإسرائيلي في صناعة القرار في منطقة القرن الأفريقي والبحيرات الكبرى، وفي خلفية التأثير وصل حجم التبادل التجاري بين إسرائيل ودول (الكوميسا) إلى 5.7 مليار دولار، وفقاً لإحصائيات صادرة عن وحدة الاتفاقيات التجارية بمصلحة الجمارك المصرية نهاية 2011.
وحسب ما أكده المهندس حسين صبور رئيس جمعية رجال الإعمال المصريين، شهدت العلاقات الإسرائيلية مع دول (الكوميسا) انتعاشاً في إقامة الغرف التجارية المشتركة والمنح، وإزالة المعوقات في مجالات الصحة والتعليم والتدريب، لدرجة أن الحكومة الإسرائيلية أنشأت مركزاً ضمن المراكز المتخصصة بوزارة الخارجية، تقتصر مهامه علي تعميم وتطبيق التعاون الإسرائيلي- الأفريقي.
ومن المفروغ منه أن إسرائيل تسعى إلى توثيق تحالفها السياسي مع الدول الأفريقية لتشكيل حلف ضاغط على الدول العربية، لإعاقة التنمية الاقتصادية، كمدخل للضغط السياسي عليها من أجل تقديم تنازلات أمام الخطط الإسرائيلية لنهب الأرض، والهيمنة على ثروات الشعوب العربية، ويضع ذلك المياه والموارد المائية في المقام الثاني، بعد النفط في إستراتيجية الأمن القومي العربي. ولمواجهة هذا التحدي باتت مفاهيم  الأمن القومي العربي في أمس الحاجة إلى إعادة ترميم بعد ما أصابها من تصدع، لصياغة استراتيجية عربية موحدة ضمن منطق لغة المصالح وبناء الجسور السياسية والاقتصادية كسياج للأمن القومي، والإقلاع عن إلقاء تبعات الخطايا العربية على الآخر، والتي في معظمها صناعة عربية بامتياز، وتمثّل في جوانب منها الخاصرة الرخوة للأمن القومي العربي. 

وكالة أنباء موسكو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى