الربيع العربي على درب الخميني!! (غيفورك ميرزيان)

 

غيفورك ميرزيان

 

دفن "الربيع العربي" عملياً مشاريع الحكومات العربية القائمة على أساس قومي علماني. لقد أعلنت تونس ومصر أنهما ستبنيان الديمقراطية بالاعتماد على مبادئ الإسلام، وليس على الليبرالية. ويشكك العديد من المحللين السياسيين الغربيين في أن يكون لإدراج الإسلام في مؤسسات الدولة أثر ايجابي على تطور البلاد. ويؤكد هؤلاء أن الاسلام التقليدي في أي دولة من دول الشرق الأوسط والأدنى، غير قادر على التعايش مع أنماط الحداثة الاقتصادية والسياسية. ولاقت المحاولات القليلة للسير على نهج الحداثة في بعض البلدان ردود فعل عكسية من القوى التقليدية، كما حدث في إيران، أو أدت الى ارساء نظام شمولي قمعي واعتماد الحداثة بالقوة، كما جرى في تركيا أتاتورك، وهذا ما جعل بعض الباحثين يقولون بعدم انسجام الاسلام نهائياً مع الحداثة.
ومن ناحية أخرى ، يرى خبراء في الدراسات الاسلامية أن تعايشاً من هذا النوع ممكن جداً، لأن الاسلام في شكله النقي لا يعادي الحداثة، وهناك فعلا العديد من الأمور المشتركة بينهما. إيلشات سايتوف الأستاذ في معهد الدراسات الشرقية والعلاقات الدولية بجامعة قازان يورد أمثلة على ذلك، منها مبدأ الحكم العادل، والفصل بين السلطات، ومبدأ التشاور (الشورى )، ومبدأ انتخاب الحكام.
دخلت الحداثة العالم الإسلامي بطريقة تختلف عن الغرب، فقد جرى اعتمادها على سبيل المثال عند انشاء صناعة النفط، وتأهيل الاختصاصيين في هذا المجال. يعتقد الباحث في الشؤون الاسلامية إيغور الكسييف: "ان مطالب العالم العربي الأساسية ليست في التطوير الاقتصادي، بل في التحرر الاجتماعي والسياسي والروحي ضد الطغيان، والأنظمة الشمولية، وضد سلطة الفساد وغيرها، ومن أجل الكرامة والشرف التي يفهمها كل على طريقته".
كان امتناع السلطات في دول الشرق الأوسط عن اجراء التحديث الاقتصادي المطلوب أحد الأسباب التي أدت إلى بقاء العلاقات الاجتماعية التقليدية المحافظة فيها، فبلدان الشرق الأوسط لم تمر بمرحلة العمران الطبيعية، لأنها نالت استقلالها في عصر التحول من المجتمع الصناعي إلى ما بعد الصناعي، ولم تنشأ فيها صناعات تستدعي تشغيل أعداد كبيرة من العمال. وكان من المفترض فيها أن تشجع على هجرة الناس الى المدينة وتصفية الجماعات التقليدية الريفية ذات السلطة الأبوية. يقول إيغور ألكسييف: "ان عدم حصول التطور الصناعي بالشكل المطلوب، والنمو العمراني الذي بدأ من أعوام السبعينيات وتصاعد بشكل ملحوظ في الثمانينيات والتسعينيات بمصر، أدى إلى هجرة سكان قرى كاملة من الريف الى المدن الكبيرة، مع احتفاظهم بتركيبتهم الريفية، أي أن الجماعات القروية انتقلت للعيش على أطراف المدن، حيث بنت ناطحات سحاب، وأعادت فيها إنتاج علاقاتها الاجتماعية الريفية. كان مختار القرية ( العمدة ) نفسه يعيش في الطابق العلوي، ويوزع الشقق في البناية، ويقرر لكل واحد مكان سكناه. وجاءت مفاهيم، كالإسلام الثوري، والإسلام الأصولي، والإسلام القومي، كمحاولات لدمج الإسلام مع الحداثة. وعندما يدور الحديث عن الإسلام السياسي، تتبادر الى الذهن ثلاث من دول الشرق الأوسط، جعلت السلطات الحاكمة فيها الدين حاملاً أساسياً للدولة وهي: باكستان، تركيا، وإيران. ولم يجر في أي منها انسجام بين الإسلام السياسي والحداثة. ماعدا ايران حيث مازال الموضوع ممكناً.
 
الإنهيار الباكستاني
كان الإسلام، إلى جانب كراهية الهند، وتقديس الجيش، أحد الأعمدة التي شيد عليها المشروع الباكستاني. كان الدين في جوهر الأمر الوسيلة الوحيدة لتحقيق الهوية بالنسبة لسكان الباكستان بعد انفصالها عن الهند، عن الاخوة بالدم الذين يعيشون في الطرف الآخر من الحدود. يقول مؤسس الباكستان محمد علي جناح: " إن الهندوس والمسلمين ينتمون الى عقيدتين دينيتين مختلفتين، ويختلفون في العادات وفي فلسفتهم الحياتية الخاصة. وهم لا يستطيعون الزواج من بعضهم البعض، ولا تناول الغداء في مكان عام واحد، أي أنهم عملياً ينتمون الى حضارتين مختلفتين تأسستا على أفكار ومفاهيم مختلفة". وبالنتيجة، فقد انتقلت مجموعة من المبادئ الدينية (بما فيها مبادئ الشريعة، والزكاة كضريبة حكومية الزامية) من القرآن والسنة إلى الدستور وقانون العقوبات في باكستان. ورغم كل المحاولات النظرية لمقاربة الإسلام والحداثة، فان جمهورية باكستان الإسلامية تعاني من وضع حرج للغاية.
أحد الأسباب الرئيسية للإنهيار الباكستاني تكمن في تشجيع ودعم الدولة للمجموعات الإسلامية الراديكالية المختلفة. وفي البداية حاولت السلطات الباكستانية استخدامهم لزعزعة الاستقرار في مقاطعة "كشمير" المتنازع عليها مع الهند، حيث كان المقاتلون الباكستانيون يقومون بعمليات تخريبية بشكل دائم. وبعد ذلك رعت الإستخبارات الباكستانية وشجعت المسلمين المتطرفين في "جهادهم" ضد السوفييت في أفغانستان، وبالنتيجة حصلت السلطات الباكستانية ضمن أراضيها على مجموعة متنائرة من المنظمات الإسلامية الراديكالية الخارجة عن السيطرة.
إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي المعقد للغاية، وغياب حكومة مركزية قوية ، ووجود جماعات إسلامية ناهضة في بعض المناطق، أدى الى تأسيس سلطة موازية في البلاد، بل وإلى استبدال تام للقوانين المدنية بقوانين الشريعة في عدد من مناطق البلاد. وبعد فترة من الزمن رأت الجماعات الإسلامية المحلية أن من الأسهل عليها اعلان الجهاد داخل البلاد عوضاً عن الجهاد في الخارج. وراحت تلك الجماعات المتطرفة تستهدف السلطات المركزية التي أنشأتها ورعتها من قبل، وتتهمها بالخيانة والعمالة لأعداء الإسلام، أي للولايات المتحدة الأمريكية. كما أنها استهدفت المواطنين الباكستانيين، وخاصة من المسلمين الشيعة الذين يشكلون حوالي 20% من سكان البلاد.
وفي عام 2012 فقط قتل في الباكستان 425 شخصاً لأسباب دينية منهم 230 من الشيعة. ومن أجل تأمين الحماية لمواطنيها الشيعة اضطرت السلطات الباكستانية الى اتخاذ احتياطات أمنية غير مسبوقة، كمنع استعمال الدراجات النارية في بعض المناطق أثناء قيام الشيعة بمراسم العزاء الحسينية (بسبب استعمال الارهابيين الدراجات النارية في عملياتهم)، وقطع الاتصالات الهاتفية الخليوية عن أكثر من 50 مدينة في البلاد. ومن الملاحظ أن السلطات لا تقوم بأية اجراءات ملموسة ضد الجماعات المتطرفة، بل تقدم لها التنازلات مقابل عدم المساس بهذه السلطات، أو حتى ضمان شيء من الاستقرار، ففي شهر تموز / يوليو عام 2011 أفرج القضاء الباكستاني، بحجة عدم كفاية الأدلة ، عن مؤسس احدى المنظمات الإرهابية في مقاطعة كشمير، والمتسبب في مقتل العشرات. يؤدي عجز السلطات الباكستانية عن تثبيت النظام في البلاد وتحقيق الرخاء الاقتصادي ولجم الإسلاميين، يؤدي إلى تقوية النزعات الانفصالية. واليوم فإن مساعدات الغرب والصين هي التي تنقذ الباكستان من الانهيار التام، لأن الغرب والصين لا يرغبان أن تقع الأسلحة النووية الباكستانية في أيد غير أمينة.

السراب التركي
تعتبر تركيا المشروع الإسلامي الأكثر نجاحا في العالم، فهذا البلد يتطور بقدر ملحوظ من الدينامية ويطبق القواعد الإسلامية في الحياة اليومية وسياسة الدولة. وتحتل تركيا أحد المراتب الطليعية في الشرق الأوسط، ما يجعل منها مثالا للديمقراطيات العربية الفتية التي تبحث عن طريق تطورها، وعن اسلوبها للتوفيق بين النظام الديمقراطي والشعب المتدين. إن خصوم القادة الأتراك يصفونهم بالاسلاميين، مكررين العبارة التي تنسب لوزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، أن "الديمقراطية هي ذاك القطار الذي سنغادره فور وصولنا إلى هدفنا".
غير أن تركيا في الواقع ليست بالمثال الناجح تماما للدولة الإسلامية. والحقيقة أن عبارة الوزير أوغلو لم يعثر عليها احد في أي مرجع. إن الإسلام بالنسبة للنخبة الحاكمة ليس هدفا بقدر ما هو أداة . يقول إيلشات سايتوف إن سياسة تركيا "الإسلامية" أقرب لمشروع إشهار يهدف إلى تعزيز شرعية أردوغان وحزب العدالة والتنمية داخل البلاد، ولاجتذاب المزيد من الناخبين إلى معسكر الحزب. وإذا ما تحدثنا عن الإسلاموية بوصفها استخداما للبلاغة الإسلامية والعقيدة الإسلامية في برامج الحزب، والشعارات والخطب اثناء الحملة الانتخابية، فأوردغان ليس إسلاميا، وحزب العدالة والتنمية ليس حزبا إسلاميا كذلك.
إن قسما كبيرا من كوادر الحزب العليا يعودون بأصولهم فعلا إلى أحزاب نجم الدين أربكان الإسلامية، ولكن إذا قارنا ما كان يردده أربكان وما يقوله أردوغان الآن لوجدنا فرقا كالفرق بين الأرض والسماء. وعلى سبيل المثال كان اربكان يقترح قطع العلاقات مع الغرب، وإقامة اتحاد مع البلدان الإسلامية، ودعم الأخوة الأتراك "خارج تركيا". أما أردوغان فعلاقته بالغرب علاقة صداقة ، ويدعو للانضمام إلى الاتحاد الأروبي، الأمر الذي يعتبر مجرد هراء بالنسبة للاسلامي الحقيقي. لقد انتقل اردوغان إلى قاعدة ديمقراطية عامة، وهو على الأرجح من السائرين على خطى عدنان مندريس، وتورغوت أوزال.
يدعى أردوغان برئيس الوزراء "الإسلامي" نظرا لتطبيقه جملة من القواعد الإسلامية في الحياة الاجتماعية التركية، غير أنه لم يفعل شيئا سوى إصلاح بعض الانحرافات التي نتجت عن سياسة أتاتورك. يقول سايتوف إن المثال التقليدي على ذلك موضوع الحجاب، فلو كان أردوغان إسلاميا لألزم النساء بارتداء الحجاب، ولكنه تصرف كليبرالي ، فاكتفى برفع الحظر على ارتداء الحجاب.
إن كتلة اردوغان الناخبة لا تتألف من مسلمين متزمتين، بل من أولئك الذين يرون في تطبيق القواعد الإسلامية نوعا من دمقرطة منظومة الدولة العلمانية الصارمة، ووسيلة للارتقاء في السلم الاجتماعي. ويقول إيغور ألكسييف إن ناخبي حزب العدالة والتنمية يتألفون من الفئة الريفية المتوسطة التي يسعى أفرادها للوصول إلى مصاف البرجوازية المدنية الصغيرة والمتوسطة. وبالنسبة لهم، فإن هذه البنى والجماعات والطرائق الإسلامية، ليست في جوهر الأمر سوى مصاعد اجتماعية. لقد اتجهوا نحو حزب العدالة والتنمية لا من أجل الإسلام، بل من أجل الاستقرار. أما الحزب الذي يمكن اعتباره استمرارا حقيقيا لقضية أربكان ونصيرا لتطبيق القواعد الإسلامية في البلاد، فهو حزب "السعادة". ويشير سايتوف إلى أن أنصار هذا الحزب رفعوا في اسطنبول مؤخرا يافطات تدعو إلى اعتبار الدعارة جريمة". وفي الانتخابات الأخيرة حصل هذا الحزب على 1% ونيف من الأصوات ما يدل على الفرق الهائل في النظرة إلى مستقبل البلاد بين المجتمعين الإسلاميين في تركيا ومصر على سبيل المثال ( في مصر عادت المقترحات الإسلامية الراديكالية على السلفيين بحوالي ربع أصوات الناخبين ).
 وتبدي تركيا مثل هذا البراغماتية في سياستها الخارجية أيضا، فتأييد "الربيع العربي" بالنسبة لها ليس وسيلة لدعم الأخوة في العقيدة، بل هو بالدرجة الأولى أداة لتصفية الزعماء التقليديين في العالم العربي (ديكتاتوريو مصر وليبيا وسورية) وتوسيع مجال النفوذ التركي، أي ما يسمى بسياسة "العثمانية الجديدة". وقبل "الربيع العربي" كانت تركيا تطبق هذه السياسة بأساليب اقتصادية، أما الآن فقد غيرت التكتيك واختطت نهجا لتأييد القادة الإسلاميين الجدد في هذه البلدان، الذين يرون في المشروع التركي الناجحح على صعيد الدولة مثالا يحتذى به. ولهذا بالذات يرى بعض المحللين الأتراك أن النظام الحالي نظام ما بعد الإسلام. والإسلام من وجهة النظر هذه ليس إيديولوجيا قادرة على الحياة، بل يستخدم من قبل الإسلاميين لتعزيز مواقعهم. أما بعد وصولهم إلى السلطة فيتجهون نحوممارسة سياسية أكثر واقعية .

أبناء البازار
من بين الدول الثلاث المذكورة آنفا باكستان وتركيا وإيران، تقدم الأخيرة فقط مثالا حقيقيا لتغلغل الدين في كل مؤسسات الدولة. لم يكن أمام قادة الثورة الاسلامية في إيران الكثير من الخيارات. فقد كانت التركيبة الديموغرافية لبلادهم تتطلب إيجاد إيديولوجيا تجتمع حولها كل القوميات التي تقطن البلاد، خاصة وأنه لا يوجد في إيران أكثرية ساحقة تحدد هويتها القومية. حيث من المعروف أن العنصر الفارسي يشكل حوالي 50% من مجموع سكان إيران. ولولا التركيز على الدين لكانت الدولة الإيرانية قد تفتت إلى عدد من الدول المتناحرة.
لقد عرف التاريخ الإيراني الحديث محاولات لبناء دولة حديث على أسس علمانية. ونذكر في هذا السياق المحاولة التي وضع أسسها الشاه رضا بهلوي والتي عمل عليها من بعده ابنه الشاه محمد رضا بهلوي. لكن هذه التجربة انتهت إلى الفشل بسبب عدم الأخذ بالاعتبار مصالح الطبقات والفئات المتنفذة في المجتمع الإيراني ومن أهمها الإقطاعيون والتجار ورجال الدين.
فبحسب المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الإيرانية سيفاك ساروخانيان، فإن الأموال الطائلة التي كانت عائدات تصدير النفط تجلبها على خزينة الدولة الإيرانية سببا رئيسا في تمكين الشاه من الاستغناء عن الدخول في حوار مع المجتمع. حيث لم يكن الشاه مضطرا للاعتماد على أموال الاقتصاد الحقيقي لتنفيذ مخططاته الرامية إلى تحديث الدولة. إن العائدات النفطية الكبيرة جعلت الشاه لا يفكر في تحديث المنظومة السياسية، بل ودفعته إلى تجاهل كل المؤسسات الاجتماعية التقليدية، وفي مقدمتها المؤسسة الدينية التي لم تكن تتعاطف لا مع الشاه ولا مع السياسة التي كان ينتهجها. لقد اعتمد الشاه رضا بهلوي في بناء ملكه على الشرعية التي اعتمدها أسلافه الأكاسرة الفرس. ولهذا حاول، هو وابنه من بعده، تحديث الدولة بعيدا عن الإسلام أو بالأحرى على حساب الإسلام.
ولهذا لم يكن مستغربا، حسب رأي سيفاك ساروخانيان، أنه في منتصف سبعينيات القرن الماضي لم يكن يدعم سياسات الشاه سوى أربعة من آيات الله. أما الآخرون فإما أنهم كانوا معارضين للشاه أو معارضين أشداء له ولسياساته، كآية الله الخميني وآية الله بهشتي.
ونظرا لأن الشاه تمكن من القضاء على كل المعارضة العلمانية فقد بقيت المؤسسة الدينية، وعلى رأسها "آيات الله"، بقيت الجهة الوحيدة القادرة على قيادة الاحتجاج الشعبي وتنظيمه وتوجيهه في الاتجاه الذي ترتأيه.
وخلافا لكل التجارب التي عرفتها الدول الإسلامية وكذلك المسيحية، فإن المؤسسة الدينية في إيران لم تقصر دورها على الجانب الدعوي، بما في ذلك الإرشاد وإمامة الناس في المساجد.
 من المعروف تاريخيا أن السوق (البازار) يلعب دورا بارزا في حياة الإيرانيين. ومن المعروف أيضا أنه في وسط كل بازار توجد ساحة يتوسطها مصلى. وحول المسجد يتجمع التجار ويتباحثون في كل المسائل التي تهم المجتمع الإيراني. ونتيجة لذلك كانت المؤسسة الدينية على علاقة قوية بالبازار. فبالإضافة إلى أن غالبية الملالي كانوا تجارا أو يتحدون من عائلات تجار محترفين كان الملالي يلعبون دور الوسطاء ويدونون العقود بين البائعين والمشترين.
لقد أهمل الشاه البازارات وتركها في منأى عن عملية التحديث باعتبارها من مخلفات الماضي، في حين ركز اهتمامه على تحديث الصناعة والزراعة.
وفي عام 1975 ضربت البلاد موجة عاتية من التضخم وجد الشاه نفسه معها مضطرا للتدخل في تحديد الأسعار وضبطها. وهذا الأمر اضطر ممثلي مؤسسات القوة في البلاد للدخول إلى البازارات. وكثيرا ما اقدم هؤلاء على اعتقال، بل وضرب التجار الذين لم يلتزموا بالأسعار التي حددتها حكومة الشاه. وبالإضافة إلى ذلك افتتحت حكومة الشاه مجمعات تجارية تبيع المواد الاستهلاكية بأسعار مدعومة من قبل الدولة. وهذه التدابير أدت إلى إفلاس الكثير من التجار وإفقار آخرين، وبالتالي حولت البازار إلى مركز للمقاومة، اعتبارا من سنة 1976 وجعلت من التجار داعما أساسيا لآيات الله الذين قامو بالثورة عام 1979.
ما أن وصل آيات الله إلى سدة الحكم في إيران، حتى بادر الغرب إلى وصفهم بـ"الظلاميين"، الذين سيعودون بإيران إلى القرون الوسطى. لكن الأمور لم تكن، في الحقيقة، بهذا الشكل. لأن المذهب الشيعي مذهب مرن بما فيه الكفاية، وليس فيه تطرف كما هو موجود عند السلفية أو الوهابية. فمن المتبع في المذهب الشيعي أن أي أمر يراد له أن يتحول إلى قاعدة دينية يجب أن يحصل على إجماع. وهذا لا يتم إلا بعد مناقشات طويلة بين كبار رجال الدين مع الأخذ بعين الاعتبار الآثار السلبية والايجابية التي قد تنتج عن القاعدة الجديدة.
إن آيات الله، بقيامهم في تلك الثورة، حالوا عمليا دون انزلاق إيران إلى الصراعات العرقية وجلبوا إلى البلاد فكرة ما فوق القومية ببناء جمهورية اسلامية مبنية على أسس القيم الاسلامية العامة. وبهذا الشكل، يكونوا قد أغلقوا الباب أمام إمكانية ظهور أية مشاريع قومية.
إن آيات الله يتمتعون بقدر كبير من البرغماتية في السياسة الخارجية. ولقد تبدى ذلك من خلال عدم التدخل في شؤون الدول العلمانية المجاورة عبر برنامج تصدير الثورة الاسلامية الذي تخلى عنه آية الله الخميني منذ عام 1982 واكتفى بتقديم الدعم لـ"ثورة الثقافية الاسلامية" الهادفة إلى نشر القيم الاسلامية.
لا شك في أن آيات الله، تحديدا، هم الذين حدَّثوا الفضاء السياسي الإيراني أثناء حكم الشاهنشاهين الأخيرين. فقد وضع المفكرون السياسيون الشيعة مبدأ "الدستورية الإسلامية" و"الديموقراطية الإسلامية" في بداية القرن العشرين. وللمؤسسة الدينية، حصرا، يعود الفضل في حصول إيران على برلمان، وعلى دولة دستورية في تلك الحقبة. لكن رجال الدين لم يكونوا منخرطين في إدارة البلاد. حيث كان يحكم إيران شاهنشاه من سلالة قاجار التي أطاح بها رضا بهلوي.
لقد مثلت الثورة الاسلامية في إيران التجربة الأولى في التاريخ التي أقدم فيها رجال الدين الشيعة على الإطاحة بسلطة علمانية واستلموا زمام الأمور بأنفسهم.
ولهذا السبب سرعان ما طفت على السطح تناقضات بين الحقوق التي يجب أن يتمتع بها آيات الله في إصدار ليس فقط، الفتاوى الدينية، بل والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبين رغبة الدولة بأن تكون موحدة وذات سيادة لجميع المواطنين.
فإذا ما نظرنا إلى الأمور من وجهة نظر التعاليم الثابتة، فذلك يعني أن الجمهورية الاسلامية، ليست بحاجة إلى جهاز حكومي مركزي. لكن هذا التناقض، الذي كان من الممكن أن يلغي الدولة، تم تلافيه بفضل مرونة المذهب الشيعي. وتحديدا، بفضل مبدأ "ولاية الفقيه" الذي ابتكره آية الله الخميني، والذي بموجبه، يتنازل آيات الله طوعاً عن بعض حقوقهم، في إدارة شؤون الرعية، للفقيه الأكثر جدارة بينهم.
الفقيه عموماً، لايدير البلاد بشكل مباشر. فقد أنشأ آيات الله هيكلية لمؤسسات إسلامية قريبة من الكمال، تراقب أنشطة السلطتين التنفيذية والتشريعية، لتؤدي بذلك دوراً توازنياً وضابطاً. من أهم هذه الهياكل ـ مجلس صيانة الدستور، الذي يتألف من 12 رجل دين. والذي يتمتع بصلاحيات الرقابة على كافة أنشطة السلطات، وتقرير ما إذا كانت تتوافق مع روح الدستور أم لا. ويستطيع هذه المجلس أيضا تغيير أي قرار للبرلمان أو الحكومة يتعارض مع روح الدستور ومبادئ الجمهورية الاسلامية. وهناك مجلس آخر مهمته تحديد مدى ملاءمة القرارات ودراسة جميع المبادرات القانونية التي يتقدم بها المجلس السابق. علما بأن ن اختيار الولي الفقيه يتم عبر مجلس خبراء القيادة الذي يتألف من 86 عضواً من رجال الدين.

مجلة "إكسبرت"

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى