الصراعات الكبيرة والحلول الصغيرة (بشار اللقيس)

 

بشار اللقيس

تشكل النزاعات التي تكون فيها مصالح الخصوم متعارضة بشكل كامل، حالة خاصة من حالات الصراع. وعلى النقيض، إن أغلب حالات النزاع، هي في أساسها نوع من المساومة. في العام 1967، خسر عبد الناصر الحرب، وأعرض السوفيات عن إمداده بالسلاح. تقدم الأميركيون وخسر السوفيات خطوط توازنهم في جبهة المتوسط. بعد أشهر دخل الجيش الأحمر براغ. وقف دوبتشيك باكياً ومناشداً العالم من قبة برلمان براغ، أغفل الغرب مطالبه وأعلنت أميركا التزامها الواقعية السياسية واحترامها سيادة الاتحاد السوفياتي في شرق أوروبا. تقدم السوفيات في شرق أوروبا، وخسر الأميركيون خطوط توازنهم. إنها حكاية الحرب والمساومة في طرفي الأوراسيا.
دراسة النزاع على أنه عملية مساومة مفيدة، لأنها تتجاوز الصراع عينه. في النزاعات الأكثر تعقيداً، ثمة ما ينبغي الانشغال به خارج المصالح المشتركة لطرفي الخصام. "استغلال القوة المحتملة أبدى من التطبيق الكفء للقوة"، يعتبر توماس شيلينغ، وذاك مدعى السياسات الأميركية فترة السبعينيات. صعود كل من الهند والصين وألمانيا في المرحلة نفسها، كان يمضي حثيثاً تحت عناية ورعاية الولايات المتحدة، كجزء من استنزاف الاتحاد السوفياتي بحسب روبرت كاغان. خلال التسعينيات، صار كلٌ من الهند والصين وألمانيا خصوماً محتملين في ميزان النظام الدولي.
تلك هي الحرب ذات الأرباح المتغيّرة. الحرب الكورية أوائل الخمسينيات. الحرب الفرنسية في فيتنام في الفترة عينها، للغرب مصالح متباينة كما للشرق. للاتحاد السوفياتي في الحرب الكورية مصالح ومخاوف من انتصار كل من الخصم والحليف. للغرب وفرنسا مصالح ومخاوف متبادلة، عرفتها ساحات حرب فيتنام ما قبل معاهدة جنيف 1954. سوريا نفسها اليوم باتت مجالاً مشرعاً لاستراتيجيات الصراع وإدارة الردع، وقد لا تحتمل الحرب فيها شِرطة ثابتة التقابل بين متخاصمَين. للحلفاء في سوريا مصالح متباينة وخصومات مضمرة. الحرب في سوريا تقابل اشتراطي، تعتمد فيه قدرة طرف ما، على خيار وقرار الطرف الآخر. يمكننا أن نشبه حلفاء طرفي النزاع في سوريا بـشركاء السجن في نظرية المباريات في العلاقات الدولية. الأحلاف لدى الطرفين، لهما مصالح مشتركة في التعاون حاضراً، ولكل منهما في الآن عينه، حساباته في تحوير التحالف بالمعنى الاستراتيجي مستقبلاً.
شكّل انفجار المسألة السورية لحظة فارقة في نظام ما بعد يالطا واستراتيجيات إدارة التوازن الجيوسياسي. القيادة العالمية الأميركية صارت مدعىً للسؤال. لم تنتهج أميركا مبدأ الاعتماد الذاتي الإقليمي؛ الذي يحمل الحلفاء مزيداً من الأعباء – كما هو رائج وشائع راهناً – مثلما لم تنتهج أياً من سياسات الانتشار المتقدم أو الالتزام المستمر، (عِمادي مقررات مؤتمر روما العام 1991، والسياسات الأطلسية طيلة العقدين المنصرمين). لقد استشعر الأطلسيون تحولاً في رؤية الإدارة الأميركية لقيادة العالم، يكاد يقارب حافة الرؤية الويلسونية في السياسة الخارجية مطلع القرن الماضي. معنى ذلك عنوان رئيس مفاده: توازن قوى الأوراسيا كثابت وحيد يضمن التفوق الأميركي من الآن فصاعداً.

الحرب في سوريا

يفسر هذا الأمر بعضاً من صخب السياستين الفرنسية والإسرائيلية. فرنسا المنتصر الخاسر بعد نهاية الاتحاد السوفياتي – بحسب توصيف بريجينسكي – والفاقدة لما يمكن أن نسمّيه "ريع الوضعيّة" الموروث عن حقبة يالطا. الدولة العجوز التي فقدت موقعها كوسيط بين الشرق والغرب وكراعٍ لسياسات برلين، تجد نفسها اليوم أمام حشد من اختلال التوازنات. التهاب جنوب حافة المتوسط، تسلل تركي من خاصرة الأطلسي، وعودة في السياسات الألمانية للتقاليد البسماركية. إنها مرحلة من توازن اللاتوازن. إسرائيل هي الأخرى العارفة بأحوال واشنطن، تستذكر جيداً مأثرة السياسة الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. لن تضحي واشنطن بنيويورك لإنقاذ هامبورغ. ثمة شعور عند القادة الإسرائيليين بأن الإدارة الأميركية تنتهج سياسة تشامبرلين. قبيل الحرب العالمية الثانية. يفسر ذلك بعضاً من توتر الاتجاهات الخارجية في سياستي فرنسا وإسرائيل على حد سواء.
عودة للحرب في سوريا، والتي بامكاننا تصنيفها "استراتيجياً" بلعبة لاصفرية المحصلة. في الحروب اللاصفرية، يتخذ النزاع والردع موضعه بين الحلفاء وإن بنسب أقل عما هي بين طرفي الخصام. فرنسا المؤيدة للعمل المسلح في سوريا، هي نفسها الخائفة من حسم تركي يفضي لشرطة ثقيلة الوطأة مستقبلاً، الاستثمار الألماني شرق الحوض المتوسط، وحاجة برلين المتسارعة للعب دور يتاخم حدود الأطلسي، عنوان آخر يؤرق صانعي السياسة في فرنسا والمملكة المتحدة.
ثمة خلل يعتري الشراكة الأطلسية، وهذه حقيقة تضمرها ثنايا الحرب الدائرة في سوريا. عشية قصف الجيش السوري لمواقع تركية أواخر عام 2012، وجّه أردوغان كلمة للأمين العام لحلف شمال الأطلسي: "لقد تعرضت دولة عضو في الاتحاد لاعتداء سافر"، قال أردوغان. النصح بالتريّث كان بارقة رسائل الأطلسيين له. أمن الحدود المتاخمة كان، ولا يزال، يستدعي إعادة تحديد مفهوم الأمن الإستراتيجي. خلاصة الأمر أن حلف شمال الأطلسي يحتاج لإعادة هيكلة دينامياته، من خلال توجه سياسي شامل يزاوج بين التخطيط السياسي والعسكري، على نحو وثيقة هارمل العام 1967، وذلك بإعادة تحديد معايير الاعتبار للتهديدات غير المتماثلة، الناشئة من خارج المنطقة الأوروبية، ومن ثم تحديد ماهية الأفعال المشروعة للحلف ومناطق مصالحه.
على الضفة الأخرى، تخشى روسيا تفوقاً إيرانياً حاسماً وسريعاً في سوريا. وبالرغم من المواقف المتضامنة والمنسقة إلى حد كبير بين العاصمتين، يعي صناع السياسة في موسكو أن أصعب التحالفات هي تلك التي تفرضها مقتضيات الضرورة. ليست إيران خياراً روسياً معمّداً بالأيديولوجيا. لروسيا حساباتها كما للثورة الإسلامية حسابات في الجنوب منها. إن موقع إيران، في قلب آسيا الصغرى وعلى ساحل الهندي، مضافاً لمواريث التاريخ والثقافة، يجعل منها شريك الضرورة في الأوراسيا الروسية حصراً. تعي روسيا خطورة الأثمان المترتبة على تحالف ثوري له جاذبيته الخاصة. الحرب الإيرانية العراقية كانت مثالاً دقيقاً للرؤية الامبراطورية الشرق – أوراسية لإيران، وإن بعنوان سوفياتي أحمر. إيران التي خبرت مخاطر طول أمد الحرب قبل عقدين ونيّف، تعي أكثر من غيرها أن إطالة أمد الحرب في سوريا تحمل في ثناياها مصلحة مشتركة لتوازن منظومة قوى الأوراسيا وأميركا على حد سواء. وحدها الفتنة في سوريا بإمكانها تطويع "بركان المستضعفين"، وإحالته – شاء أم أبى – لوضعيّة ما قبل معاهدة أرضوم بين الدولتين الصفوية والعثمانية.

نحو رؤية إيرانية تركية مشتركة

في العام 1991، اجتمع قادة الحلف الأطلسي في مدينة «ماستريخت» الهولندية لإعادة ترتيب إطار عمل سياسي وعسكري مشترك وموسّع. في قمة روما من العام نفسه، كانت نقطة البداية لمسار متحول من السياسات الاستراتيجية للحلف. "إن لم يذهب الحلف خارج منطقته، فإنه سيذهب كليةً". كانت هذه القناعة مفاد "إعلان السلم والتعاون" المنبثق عن مؤتمر روما. فراغ الحزام الشرقي من القارة المترهلة، والأشكال الجديدة من المخاطر التي اعترت القارة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، فرضا على قادة الأطلسي نمطاً مختلفاً من الرؤى. فراغ الأطلسي في الشرق منه، وازنه فراغ في حزام المتوسط بعد عقدين من الزمن. إن انهيار بنى ما بعد الربيع العربي، سيشترط على أهل هذا المشرق، نمطاً مختلفاً من المقاربة والرؤى. بإمكان الحرب في سوريا أن تشكل نقطة تحوّل في الشراكات البينية لدول المنطقة. لكن الشراكات هذه لن تُدرك بغير أنظمة تأتزر بمشروعية شعبية حقة. تشكل إيران وتركيا البنيتين المؤهلتين لملء فراغ حزام حافة المتوسط، لكل من الدولتين تحدياته وتطلعاته، لتركيا المتطلعة نحو شمال جبال أرضوم ناحية سراييفو قراءاتها وحساباتها. لإيران الثورة المتّقدة في وجه أميركا وتابعيها رؤيتها هي الأخرى. بإمكان تفاهم إيراني – تركي احتواء أزمات المنطقة الممتدة من بغداد – ديار بكر، وصولاً لسواحل المتوسط. بإمكانه أيضاً التمهيد لتحالف طوقي أوثق، يؤمن طرق المياه والطاقة لشعوب المنطقة الممتدة من سهوب الأوراسيا في الشمال إلى بلاد ما وراء النهر، وصولاً حتى وادي النيل. تحالف يشترط إعادة الاعتبار والتعريف للمصالح المشتركة والأخطار المضمرة وفق مبان ومرتكزات ثلاث:
1 ـ قناعة – على النحو الأطلسي فترة ما بعد الحرب الباردة – مفادها: إن لم يذهب حلفنا لخارج منطقته، فإنه سيذهب كليةً.
2 ـ التوازن بين الخيارات الدولية والسياسات الإقليمية، مع إعطاء الأولوية المُثلى للعلاقات البينية.
3 ـ إعلان تركيا وقف كامل الأنشطة العدائية تجاه دمشق، واحترام السيادة السورية على كامل التراب الوطني.
إنها الحرب اللاصفرية المحصلة. في مثل هذا النوع من الحروب، ثمة ما ينبغي التنبه إليه. إن إطالة زمن الحرب قد تغيّر من عناصر ومرتكزات أخذِ القرار. بإمكان روسيا موازنة التطلع الأوراسي بالوقوف عند حافة أوكرانيا بدلاً عن سوريا. بإمكان فرنسا ترتيب شراكة متوسطية إسرائيلية – سعودية بدلية لتركيا. بإمكان ألمانيا تنسيق ومباركة التحول العسكري في مصر. بإمكان أميركا استنزاف المتوسط بمشاريع وشراكات واهية. أما وأن أميركا قد تحولت عن قيادة العالم، فإن البحث عن ثنايا شراكات حقيقية، بامكانه الوفاء بالكلمة الأوفى في حكاية الحرب والمساومة على ضفتي الأوراسيا.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى