العروبة الحضاريّة والمأزق الرّاهن

تبنّت “مؤسّسة الفكر العربي”، وهي من أبرز المؤسّسات الثقافية الناشطة سنويّاً، مسؤوليّة جمْع أكبر عدد من النُّخب السياسيّة والثقافيّة والنسائيّة والشبابيّة العربيّة لإقامة حوار عقلاني حول أسباب النزاعات السياسيّة والدينيّة والعرقيّة والقبليّة التي تعصف بالعالَم العربي بصورة غير مسبوقة في تاريخه المعاصر. وقدّمت مؤتمرات الفكر العربي السنويّة المُتلاحقة دراسات تمهيديّة قيّمة، وإحصائيّات دقيقة تُبرِز اتّجاهات الباحثين العرب وتوصياتهم العلمية للخروج من مرحلة توصيف المخاطر الكبيرة المحدقة بالعرب إلى استشراف إمكانيّة الردّ العربي الحضاري على التحدّي الخارجي ورسْم خارطة طريق للخروج من دائرة التخلّف والتبعيّة، إلى بناء دول عصريّة قادرة على مواجَهة تحدّيات العَولمة.

كان هاجس المؤسّسة في جميع تلك المؤتمرات والنشاطات الثقافية المُرافقة لها توليد جيل جديد من الشباب العربي يُشارِك في صناعة المستقبل من خلال حشد عناصر القوّة والمنعة في المجتمعات العربية واستنهاضها بعد مرحلة اليأس والإحباط السائدة حاليّاً.

في المؤتمرات الثلاثة الأخيرة التي عقدتها “مؤسّسة الفكر العربي” تباعاً في الصخيرات في المغرب، وفي جامعة الدول العربية في القاهرة، وفي أبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتّحدة، تبلورت رؤية جديدة للحلول المُقترَحة، فانطلقت من “التكامل العربي” في مختلف مندرجاته السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية بصفته الجامع المشترَك بين العرب؛ وتوّجت بدعوة الأمير خالد الفيصل في مؤتمر أبو ظبي إلى “العروبة الجديدة الجامعة”.

تشكّل مقولة “العروبة الجديدة الجامعة” منطلقاً لتجاوز الشعارات الشعبوية التي بُنيت على مقولات قوموية متشدّدة لفظياً، لكنّها أفضت إلى حروبٍ دموية بين أكثر من دولة عربية. لذا تشكِّل العروبة الجامعة اليوم رؤية ثقافية لإطلاق مسار حضاري لا ينطلق من تغليب العنصر القومي العربي على غيره من العناصر السكّانية المُنتشرة على امتداد العالَم العربي. ولا يمكن للعروبة الجديدة أن تكون جامعة إذا أغفلت الجوانب المُضيئة في تراث العرب الحضاري. إلّا أنّها في المرحلة الراهنة من التفكّك والضياع بحاجة ماسّة إلى المقولة الرائدة التي أطلقها مؤرِّخ الحضارات أرنولد توينبي بعنوان “التحدّي والاستجابة”؛ فالشعوب ذات الحضارات العريقة – في حال توافرت لها قيادات سياسية عقلانية ومتنوّرة، قادرة على تجاوز أزماتها، انطلاقاً من أصالة موروثها الثقافي والتفاعل الإيجابي مع ثقافات عصر العَولمة.

تتضمّن مقولة الاستنهاض بالعروبة الثقافية الردّ الحضاري العربي على التحدّيات الداخلية والإقليمية والدولية التي تعصف بالعالَم العربي حالياً. فقد بات التاريخ العربي في ماضيه الذهبي عبئاً على عرب اليوم؛ فهم يعتبرون أنفسهم أصحاب حضارة عريقة لعبت دَوراً بارزاً في التفاعل الثقافي بين الشرق والغرب، لكنّهم الآن مفكّكون إلى أقصى درجات التفكّك، وبعض دولهم عرضة للتقسيم.

فالنزاعات الداخلية والإقليمية المستمرّة أخرجت العرب من دائرة الفعل المقاوِم للتحدّي الخارجي إلى ساحةٍ لصراعٍ دموي مستمرّ منذ ست سنوات. وتُشارِك في هذا الصراع قوى عسكرية لا حصر لها، ومنظّمات إرهابية مسلّحة تنفِّذ أجندات إقليمية ودولية. كما أنّ مشاريع التقسيم تبدو جاهزة. ويُراهن المخطّطون لها على تنفيذها على الأرض العربية. وينشر بعض قادة الدول الكبرى تصريحات استفزازية تسيء إلى كرامة الشعوب العربية وقياداتها، وتدعو إلى فرض خوّات مالية على العرب لتغطية نفقات القوّات الأجنبية المُرابِطة على أراضيهم وفي مياههم الإقليمية.

نخلص إلى القول إنّ الدعوة إلى عروبة جامعة ذات أهمّية استثنائية في المرحلة الراهنة. فالظروف الإقليمية المُحيطة بالعرب بالغة الخطورة، بسبب كثرة النزاعات الدموية داخل أكثر من دولة عربية، وبمشاركة العرب أنفسهم. وقد أودت بحياة الكثير من الأبرياء الذين سقطوا قتلى أو جرحى أو مهجّرين، فضلاً عن دمارٍ اقتصادي وإفلاس مالي يهدِّد أكثر من دولة عربية. وتلك النزاعات الدموية عرضة لتبدّلات مُفاجِئة، لأنّ جميع الدول الإقليمية المُحيطة بهم، باتت مُهدَّدة في أمنها الداخلي وبحروب إقليمية تشكِّل اختباراً لقدرة نظام القطب العالَمي الأميركي الأوحد على الصمود، أو الدخول في ثنائية قطبية، أو عالَم متعدّد الأقطاب. وتبدّلت صورة الحدود الجغرافية للدول العربية في أذهان قادة الدول الكبرى. وتطرح أسئلة مقلقة حول ضمّ مناطق معيّنة على غرار ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا، أو دعم استقلال أو انفصال بعض المناطق في أوكرانيا على مرأى من العالَم. وفي رعاية الدول الكبرى يجري الإعداد حالياً لتهجير مَن تبقّى من الفلسطينيّين في القدس وإعلانها عاصمة أبدية لإسرائيل، وضمّ إسرائيل بالقوّة لجميع أراضي الضفّة الغربية وقطاع غزة وإجبار الأُمم المتّحدة على توطين الفلسطينيّين في مناطق وجودهم الحالي، وإلغاء حقّ العودة نهائياً مع تقديم بعض التعويضات المالية لقلّة قليلة منهم.

فكيف تستطيع العروبة الجديدة الحضارية حماية العرب في مثل هذه الظروف الإقليمية والدولية المتبدّلة باستمرار؟

لقد نشرت دراسات علمية كثيرة عن العروبة التي تركّز في الغالب على العرق. وكانت الأولويّة في السلطة للعنصر العربي، طالما أنّ غالبيّة السكّان مصنَّفة في خانة العرب العاربة أو المستعربة. وتعرّضت الهويات الإتنية واللّغوية غير العربية للقمع من جانب سلطة مركزية عربية تعترف شكلياً بالتعدّدية السكانيّة والتنوّع العرقي واللغوي، لكنّها تفتقر إلى الديموقراطية الحقيقية وتمنع تطبيق المواطنة الفعلية واحترام الحرّية والمساوة والعدالة الاجتماعية وغيرها من مبادىء شرعة حقوق الإنسان التي لم تنفَّذ في غالبية الدول العربية.

بعد انفجار الانتفاضات العربية في العام 2011، برز تباينٌ حاد داخل الطوائف والمذاهب في الدّين الواحد أو بين الأديان المتعدّدة. ومارَست بعض التنظيمات المسلّحة أعمال القتل والتهجير وسبي النساء وبيعهنّ بالمزاد العلني ضدّ قوميات أو طوائف صغيرة، فشكّلت مصدر توتّر خطير في أكثر من دولة عربية. وتنبّه بعض المتنوّرين العرب إلى مخاطر التبدّلات الإقليمية والدولية المرتقبة على مختلف الصعد وانعكاساتها على المجتمعات العربية.

يثير الصراع الدائر اليوم بين الدول الكبرى حول بُنية النظام العالَمي الجديد مخاوف كبيرة لدى العرب. كما أنّ الثقافة الكونية في عصر العَولمة تهدِّد بضرب الركائز البنيوية للثقافات الوطنية في الدول النامية، ومنها الثقافة العربية التي تتعرّض لتأثيرات سلبية متزايدة من ثقافة كونيّة ذات نزعة استفزازية تقوم على صراع الحضارات وإخضاع الثقافات العريقة قسرياً لثقافة كونية واحدة تضع الثقافة في خدمة نظام يفتقد إلى القيَم الإنسانية والدينية والأخلاقية.

آن الأوان لخروج العرب من إشكالية خادعة تقول بالاستفادة القصوى من خدمات التكنولوجيا الغربية، مع الرفض الشديد للمقولات العقلانية واللّيبرالية التي أنتجتها. ولا بدّ من تجاوز المقولات الإيديولوجية التي تقترح حلولاً طوباوية مثقلة بالحنين الزائف إلى التراث الذهبي الذي لا يمكن استحضاره لإنقاذ واقع شديد التخلّف والتبعية. والنخب العربية المتنوّرة مُطالَبة بتقديم الحلول العلمية لمشكلات دولها ومجتمعاتها المرتقَبة. فالتبدّلات الجارية على المستوى الكوني الآن، لن تُبقي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية على ما كانت عليه منذ عقود طويلة. لذا تبدو الحاجة ملحّة إلى إنجاز التكامل العربي على قاعدة العروبة الحضارية لأسباب عدّة:

أولاً: لأنّ العروبة الحضارية الجامعة على قاعدة التكامل العربي وفق المعالجة العلمية الرصينة للجوانب الثلاثة في ذلك التكامل تُسهِم في بناء المواطن العربي الحرّ وفي بناء مجتمع المعرفة الحاضن للإبداع الثقافي. وهي ركائز صلبة ومحورية في الردّ الحضاري العربي على التحدّي الخارجي استناداً إلى عروبة من نوع جديد.

ثانياً: لأنّ الدعوة إلى العروبة الحضارية الجامعة تتضمّن التمسّك بمقولات الثقافات الإنسانية، والتطلّع إلى المستقبل بنظرة عقلانية لحماية كلّ ما هو إيجابي في التراث العربي الأصيل من دون التنكّر للحداثة السليمة والعلوم العصرية والتكنولوجيا المتطوّرة. وهي تشكّل صلة وصل بين حاضر العرب بماضيهم الذهبي إلى جانب المُشارَكة الفاعلة في الثقافة الكونية.

ثالثاً: إنّ إحساس العرب القوي بالهويّة الحضارية الجامعة، شكّل عائقاً كبيراً أمام اندماجهم الطوعي في التاريخ العالَمي من موقع التبعية. فقد أدركوا أنّ الثقافة الكونية في عصر العولَمة تتجاوز الثقافات المحلّية الملحقة تبعياً بها؛ وذلك يتطلّب قيام الدولة الوطنية المستقلّة وذات السيادة التامّة على أراضيها والقادرة على حماية تاريخها وتراثها الثقافي وعاداتها وتقاليدها الموروثة من مخاطر الذوبان القسري في ثقافة القرية الكونية.

رابعا: منذ النهضة العربية الأولى برزت لدى العرب رغبة قويّة في بناء دولة عربية جامعة، انطلاقاً من إيمان راسخ بوحدة اللّغة والدّين والثقافة والتاريخ والحضارة وإرادة العيش المُشترَك. لكنّ الأساليب التي استخدمتها بعض الأنظمة التسلّطية باسم العروبة، والقومية العربية، أحدثت نفوراً شديداً من العروبة الجامِعة والوحدة القومية معاً إذا حملتها سلطة قمعية وتسلّطية. والرهان اليوم أن تكون العروبة الجديدة ثقافية، حضارية، ديمقراطية جامعة.

ختاماً، يشعر العرب بضرورة ملحّة لبناء العروبة الحضارية الجامعة التي تمهّد لقيام نظام إقليمي عربي موحّد على أسس ديمقراطية سليمة، بعيداً من التوحيد القسري والقوّة التسلطيّة. على أن تحترم الخصوصيّة السياسية لكلّ دولة عربية، وتشجّع التعاون المثمِر على المستوى الاقتصادي، والتفاعل الإيجابي على المستوى الثقافي. فهل تُسهِم الدعوة إلى العروبة الحضارية الجامعة من خلال تنفيذ توصيات التكامل العربي التي أطلقتها “مؤسّسة الفكر العربي” في وقف حروب التدمير المستمرّة في أكثر من دولة عربية؟

*مؤرّخ وكاتب لبناني

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى