العَجلة من الإخوان! (بلال فضل)

 

بلال فضل

برغم كل ما تلقاه السياسي المخضرم إبراهيم عبد الهادي من هجمات أنصار جماعة الإخوان وإتهاماتهم، يحرص على أن يبدأ حديثه عنهم في مذكراته بقوله «أُشهد الله على أني ما حملت لهذه الجماعة غلا أو حقدا، أو سعيت للإنتقام من أحد منها، وأقول إن فيهم أناسا أطهارا دخلوا الدعوة مخلصين لله ولدينهم، وقد عرفت بعضهم واحترمتهم وكانوا يزورونني من وقت لآخر، ولكن المجموعة الأخرى، مجموعة الجهاز السري، مجموعة القتلة، فهؤلاء ليسوا أعدائي وحدي، وإنما أعداء الملة الإسلامية وأعداء الوطن»، ثم يبدأ في سرد جرائم هذه المجموعة قبل أن يسأل بحرقة «عندما أقاوم هذا الضلال أبقى كفرت يا أيها الناس؟».
وبعد أن حرص ابراهيم عبد الهادي على تبرئة ذمته بتفريق الصالح من الطالح، يقرر ألا يصمت على إتهامات القطب الإخواني عبد الحكيم عابدين له عقب ثورة يوليو فيقول «للسيد عبد الحكيم عابدين وكيل جماعة الإخوان قصة أرويها وأنا حزين، ليكتشف الشباب المضلل من أي المصادر يستقون معلوماتهم»، ثم يروي تفاصيل لواقعة شائكة أتعفف عن نشرها لكن يمكن أن أقول أنها استتبعت أن يقوم أحد الأزواج من أعضاء الإخوان بشكوى إلى مكتب الإرشاد ضد عابدين في مسألة أخلاقية، «وقَدّم مكتب الإرشاد السيد عبد الحكيم للمحاكمة التي استمرت ثلاثة أيام بلياليها، وفي النهاية انتهى إلى الإدانة، ولكنه اعتبر الجرم الذي ارتكبه عبد الحكيم صهر الشيخ حسن البنا من اللمم أي الذنب البسيط، فاستقال بعض أعضاء مكتب الإرشاد وفي مقدمتهم الدكتور عبد الرحمن حسن والأستاذ كمال عبد النبي وكان ذلك قبل قرار حل جماعة الإخوان ربما بأكثر من سنة ونصف السنة». ثم يعترف عبد الهادي أنه عندما جاءه قادة الجماعة لكي يطلبوا فرض حراسة لهم تأمينا لحياتهم بسبب تعرضهم للتهديدات من إخوانهم بالأمس، أخذهم على قد عقلهم حتى انصرفوا، لكنه يقول أن هذه الحكاية هي التي دفعته للشك في جماعة الإخوان، لأنه لم يتعامل معها بصفتها واقعة شخصية من بشر معرضين للخطأ، ومن منا ليس كذلك، بل باعتبارها دليلا على طريقة إدارة الجماعة نفسها على قواعد غير عادلة استفزت حتى قادتها المخلصين ودفعتهم للإستقالة.
يحكي عبد الهادي أيضا واقعة مهمة عن قيام قيادات الجماعة بشن حملة إبتزاز ضد وزير الزراعة في الحكومة السعدية لأنه رفض طلبات قدمها له حسن البنا لمصلحة بعض أفراد الجماعة، ويعترف الوزير بنفسه أنه كان يجاري البنا في البدء لأنه «رجل طيب قريب من الله»، لكنه عندما تأخر في تنفيذ بعض ما طلبه فوجئ بحملة عنيفة يتعرض لها في صحيفة الإخوان اليومية فلما عتب على البنا أنكر إطلاعه عليها وأبدى أسفه، لكن الحملة تواصلت وتصاعدت بدعوة عمال الزراعة المنتمين إلى الإخوان بتفتيش شمال الدلتا للإضراب للضغط على الوزير الذي اضطر لأن يشكو البنا إلى رؤسائه لكي لا يتهموه بالتقصير في عمله.
تظل القصة الأهم التي يرويها إبراهيم عبد الهادي هي قصة لقائه بالشيخ حسن البنا عندما كان عبد الهادي رئيسا للديوان الملكي، وكان قد شاهده قبل ذلك في موسم الحج وأعجب بفصاحته وهو يخطب، وجاءه البنا بعريضة مرفوعة إلى الملك يعرض عليه خدمات الجماعة وتعاونها في تشكيل الوزارة الجديدة بعد أن علم أن وزارة النقراشي في طريقها إلى الإستقالة، فقال له عبد الهادي أن معلوماته غير صحيحة وأنه سيرفع العريضة إلى الملك، لكنه يريد أن ينصحه بأن سعيه للمشاركة في الحكم سابق لأوانه، متخيلا أن البنا سيهتم بما سيقوله عن تجربته الشخصية في دنيا السياسة التي لخصها للبنا بقوله «لما بدأنا العمل في الحركة الوطنية والسير في طريقها الخطير لم يفكر واحد في أن يبدأ بأن يكون وزيرا أو يسند إليه عمل رسمي بحكم الظروف.. فالعجلة ليست السبيل إلى الحكم، وإنما السبيل إليه الخدمة والوقت بطبعه يحقق آمال الناس الذين صارت لهم تجربة وممارسة وصار قدرهم ووضعهم إلى هذا، وشأنك وشأن كل وطني هو هذا». لكن البنا لم يستوعب درس ابراهيم عبد الهادي، ولم يستوعبه الذين خَلَفوه عندما تعجلوا على الإستحواذ والتكويش على السلطة، وسعوا لمساعدة عبد الناصر على الإستبداد في بداية حكمه، ثم دفعوا ثمن تلك المساعدة غاليا، وظلوا يُحاربون ويُقمعون بشكل كان يرفضه أحرار المصريين وعلى رأسهم بعض ممن يعتبرهم الإخوان أعداءا الآن دون أن يحفظوا لهم جميلا أو معروفا، ثم لما أتاحت ثورة يناير للإخوان فرصة عمرهم في أن يحظوا بوجود طبيعي في المجتمع المصري، فلا يجورون على أحد ولا يجور عليهم أحد، غلبت عليهم العجلة والطمع من جديد، فنسوا وعودهم بالمشاركة لا المغالبة وبعدم ترشيح إخواني لمنصب الرئاسة، ومن حينها توالت خطاياهم التي يكتوي بنارها الوطن.
طيب، ماذا يحدث لو كان محمود فهمي النقراشي قد سمع من إبراهيم عبد الهادي كل ما لديه من وقائع تدين الإخوان، ففكر فيها طويلا واستجاب لنصائح مساعده عبد الرحمن عمار، وقرر أن يمتنع عن توقيع قرار حل الجماعة، ليقوم بتعريتها إعلاميا ويحاربها بسلاح السياسة وحده دون غيره، بل ويسعى لتوريط الجماعة في الواقع الملتبس ليتبدى حجمها الحقيقي وينكشف للناس الفرق بين الشعارات الطنانة والإمكانيات الكتيانة، بدلا من أن يمنحها بطولة لا تستحقها، ويعينها على البقاء في موقع المضطهد؟، ألم تكن بذمتك أشياء كثيرة في حياة المصريين قد تغيرت منذ ذلك الحين وحتى الآن؟. ها أنا أنهي حديثي كما بدأته بالأمس بقولة «لو» مع أنني سَلّمت أنه بالطبع لن تجدي كلمة (لو) نفعا في تغيير مسار التاريخ، لكنها نافعة لتأمل مساره وفهمه وتحليله والتعلم من دروسه، فهل نتعلم من دروس التاريخ؟، أم نفضل الإستسهال وإتباع منهج ست البيت الأروبة التي تخفي التراب تحت السجاجيد، وتظن أنها بذلك نضّفت بيتها إلى الأبد؟.

صحيفة الشروق المصرية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى