القهوة العربية كتمرين ذهني! (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

تحولت المقاهي العربية منذ زمن طويل إلى ساحة للنقاش السياسي، بعدما أصبحت السياسة فعلاً مغلقاً على النظم الحاكمة من دون سواها. ومع اندلاع «الربيع العربي»، فقدت المقاهي بعضاً من معناها السياسي إلى حين، ثم عادت مع تعثر «الربيع» إلى سيرتها الأولى. حديث الأمس في «قهوة البستان» بوسط القاهرة كان عن الأسبوع الحالي باعتباره ضبابياً، فالمشير عبد الفتاح السيسي لم يعلن ترشحه الرسمي لانتخابات الرئاسة المصرية بعد، والأزمة السورية ما زالت متدحرجة من دون بوادر لاختراقات تفاوضية جديدة، والملف النووي الإيراني ينتظر الحسم التفاوضي في الصيف. أما أزمة شبه جزيرة القرم، فالاستفتاء المقرر فيها للانضمام إلى روسيا لن يكون نهاية المطاف على أي حال. إذ إن النعم المتوقعة من الاستفتاء ستنقل الكرة إلى ملعب بوتين، فهل سيوافق ويضم القرم إلى روسيا ويدخل في مواجهة مكشوفة مع الغرب قد تنسحب إلى ملفات خلافية أخرى، أم يتريث قليلاً لقراءة المؤشرات قبل الإعلان عن قراره؟ الأرجح، وفقاً لمصادر «قهوة البستان»، أن بوتين سيتريث في الإعلان عن موقفه، وبالتالي، فمن غير المرجح أن يشهد الأسبوع الحالي حسماً من أي نوع في قضايا السياسة المحلية والإقليمية والدولية. ولما كان الحال كذلك، وأيضاً لمقاومة الاكتئاب الزاحف بثقة، فقد سار اتجاه هذا المقال إلى تقليب النظر في الأشياء التي تبدو روتينية في حياتنا والإضاءة على خلفياتها وجوانبها الخافية، وفي مقدمها تناول مشروب القهوة المثبت علمياً مقاومته للاكتئاب، والذي استمد المقهى اسمه منه. باختصار، تحاول السطور القادمة القيام بتمرين ذهني يدفع بلادة فكرية يتوقع أن ترتسم في أفق هذا الأسبوع.

القهوة بين العرب وتركيا

يرتبط احتساء القهوة بالعادات والتقاليد السائدة عند الشعوب العربية كما عند غيرهم من الشعوب، فالقهوة هي مشروب مفضل يومي في بلدان كثيرة حول العالم. وترتبط القهوة بالشعور الوطني العارم في حوض البحر الأبيض المتوسط أيضاً، إذ يعرف كل من سافر إلى اليونان مثلاً أن طلب «قهوة تركية» من نادل الفندق أو المطعم سيعني مناقشة مطولة عن كون الاسم الصحيح لما تريد هو «القهوة اليونانية». وعلى ذات المنوال إذا تجرأت كمصري على طلب «قهوة تركية» في لبنان، فستواجه فوراً بنظرات العتاب لأن … القهوة عربية. دخلت القهوة دول المنطقة قادمة من أفريقيا في بدايات القرن السادس عشر، أولاً إلى اليمن ومنه إلى مكة والقاهرة، فسوريا، ومن ثم في منتصف القرن السادس عشر إلى تركيا. وبالرغم من معارضة بعض رجال الدين في البلاط العثماني لمشروب القهوة، فقد تم افتتاح أول مقهى في اسطنبول العام 1554، قبل أن يعود السلطان مراد الثالث ليمنع القهوة وتناولها في نهايات القرن السادس عشر. وظل مشروب القهوة عرضة للمنع في السلطنة العثمانية حتى صدور قانون التنظيمات العام 1839، هو الذي قنن تناول القهوة في تركيا من وقتها وحتى اليوم. تختلف طريقة إعداد القهوة وطهوها في دول العالم المختلفة، حيث يعتاد الناس في الغرب على احتسائها صباحاً بكمية فنجان كبير مع طعام الإفطار، في حين يعود بعضهم لتناول فنجان كبير آخر بعد الظهر. أما القهوة العربية فتختلف عن مثيلاتها الأوروبية والأميركية من حيث المذاق والكمية وطرق الإعداد، بل إن طرق تحميص حبات البن تختلف في القهوة العربية عن القهوة الغربية. وحتى داخل البلدان العربية ذاتها، تختلف طريقة إعداد القهوة، ففي مصر، مثلاً، يحتسي المصريون القهوة على «الطريقة التركية»، أي بالحرص على وجود طبقة من الرغوة في الفنجان صغير الحجم، كدليل على جودة طهوها. وفي مناسبات اجتماعية بعينها، مثل الخطوبة أو العزاء، لا بد من توافر الرغوة التي يطلق عليها المصريون «الوجه»، حيث لا يمكنك التلذذ بقهوة من دون وجه! وفي لبنان، يفضل اللبنانيون احتساء القهوة مرة ومغلية وبدون وجه، وأيضاً بكميات أكبر من المصريين المحبين للشاي، ولكن تلك قصة أخرى!
لطالما تمتعت بالتجول في محال بيع القهوة العربية بالقاهرة، وعاينت الفوارق بين حبات القهوة وأنواعها بين بن غامق وبن فاتح و«قهوة محوجة» (مخلوطة بالتوابل) و«قهوة سادة»، أي طحين حبات القهوة بدون إضافة توابل. في محال القهوة الشهيرة بلبنان، تجتمع الكرة الأرضية في جولة بين القهوة البرازيلية والكولومبية، والكينية والاثيوبية، والفيتنامية والاندونيسية، وحيث يمكنك أن تجد القهوة المخلوطة وفق نسق بعينه، لا يعتمد فقط على جغرافيا البن، وإنما على مقاديره أيضاً، مثل خلطة «الحاج يوسف» أو خلطة «أم أحمد» وهكذا.

القهوة في الخليج

يتفنن العرب في الخليج بإعداد القهوة أيضاً، لكن بطرائق مغايرة، فالقهوة هناك تختلف عن مثيلاتها في مصر ولبنان من حيث مرارتها والفناجين التي تقدم فيها، تلك التي يطلق عليها استكان. سألت أحد أصدقاء الدراسة الخليجيين قبل سنوات طويلة في أوروبا عن نوع القهوة الذي يفضل شراءه، فقال لي بتنهد من يسترجع ذكريات حلوة: إذا أردت شراء قهوة عربية طيبة المذاق، فأطلب «قهوة مزينة برية». حفظت الاسم في ذاكرتي لسنوات طويلة، ثم تحققت زيارة بلد خليجي قبل فترة، فقررت عدم تفويت فرصة لشراء قهوة عربية. تدخل المحل في العاصمة الخليجية وتستمتع برائحة حبات القهوة المحمصة، مثل كل مرة تدخل فيها محلات بيع القهوة، ويحاول أنفك التمييز بين ذاكرة الرائحة في لبنان ومصر وتركيا والخليج. يقابلك عامل المحل عند الدخول، فتعرف من ملامحه وقسماته أنه تايلندي. يسألك بعربية مكسرة عما تريد. تقول باختصار الكلمة التي حفظتها بالذاكرة لسنوات طويلة: قهوة مزينة برية. باحتراف، يقوم بكيل كيلو من حبات القهوة الفاتحة اللون وأصلها من اليمن الشقيق، الذي يشتق اسم القهوة العربية «موكا» من الميناء الشهير فيه (ميناء المخا). تلاحظ أنه يتم تحميص حبات القهوة الخليجية لدرجة خفيفة، مقارنة بحبات القهوة في مصر ولبنان. لكن الاختلاف الأساسي يظهر مع المقادير، حيث يضيف البائع إلى حبات القهوة الخليجية حبات الهيل الخضراء وأعواد القرفة وشعيرات الزعفران، ثم يقوم بطحنها جميعاً حتى يصبح مسحوقاً يضعه في أكياس ليقدمه لك في النهاية. تدفع ثمن القهوة، وتغادر المكان سعيداً بما حصلت عليه.

القهوة العربية كمنتج معولم

تشرع بعد عودتك في شرب القهوة العربية الخليجية بكميات قليلة مع تناول حبات التمر، لتخفيف مرارتها المحببة. تتأمل في الاستكانة التي اشتريتها مع القهوة، فتجدها بيضاء، يمر خط ذهبي عند فوهتها، ومشغولة بشكل تقليدي على الطراز العربي. تقلب الاستكانة بين يديك؛ فتجد نقشاً بالإنكليزية معناه: صنع في الصين. تسترجع مكونات قهوتك العربية وتبحث عن أصلها وفقاً للجغرافيا فتجد التالي: الهيل موطنه الأساسي جنوب الهند وسيريلانكا، ويزرع الآن في غواتيمالا وفييتنام وتنزانيا. أما القرفة فبلدها الرئيس الصين، حيث وجدت هناك قبل ثلاثة آلاف عام، قبل أن ينقلها فاسكو داغاما من سيريلانكا إلى أوروبا في القرن الخامس عشر الميلادي. وإذ يحتاج المرء لانتاج كيلو من الزعفران إلى عدد نباتات يتراوح بين ثمانين ألفا ومئة وخمسين ألف نبتة تزرع على مساحة ألف متر مربع، يقضي العامل الزراعي يوماً كاملاً لقطاف ما وزنه ستون غراماً فقط. ويعد الزعفران أغلى التوابل في العالم قاطبة، وتتوزع مناطق زراعته بين إيران واسبانيا وايطاليا وتركيا واليونان. أما من حيث الثمن الذي دفعته لقاء شراء قهوتك، فكن واثقاً أن أقل الأجزاء منه سيذهب إلى مالكي حقول القهوة في تلك البلاد البعيدة، ومن أقل الأجزاء هذا سيذهب أقل القليل إلى الأجراء الذين يزرعون القهوة لساعات طوال في ظروف عمل قاسية، حتى تصل في النهاية إلى يديك أنت الجالس في استرخاء بالشرق الأوسط. سيلتهم أجزاء أكبر من السعر النهائي الذي دفعت لقاء القهوة كل من البائع النهائي والمستورد في بلدك، وشركات النقل الدولية والضرائب التي تفرضها دولتك على المستوردات، ومن ثم يمكنك التفكير في أولويات دولتك في إنفاق إيراداتها وفقاً لانحيازاتها الاجتماعية والسياسية. تمسك الاستكان وتعود بذاكرتك سنوات طويلة إلى الوراء، مستذكراً المرة الأولى التي عرفت فيها ذلك الفارق الجوهري بين السعر والقيمة، في مثال تطبيقي معولم وحديث.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى