المأساة السورية: مرحلة الموت المجاني (ابراهيم الأمين)

 

ابراهيم الأمين

تغيّرت سوريا كثيراً. كل شيء في سوريا تغيّر. لكن، تثبيت التغيير يحتاج الى وقت أطول. الدولة تعبت كثيراً، وأضيف الى بيروقراطيتها ترهل وإنهاك بفعل الأزمة المدمرة. الجيش، المؤسسة التي ظلت على الدوام بعيدة عن تأثيرات التجاذبات الداخلية أو الخارجية، صار في قلب الازمة. وقد أصابته الازمة مباشرة، وأنهكته، وجعلته في موقع صعب مهنياً وسياسياً، وحتى شعبياً. مؤسسات الحكم التقليدية حافظت على مركزية القرار، لكن آليات التطبيق توسعت هوامشها.
ليس أكيداً نحو الافضل، لكنها هوامش جديدة، تشبه غياب الرقابة المركزية في حالات الاستقرار. الاقتصاد الضعيف لناحية وسائل الإنتاج انتكس بصورة غير مسبوقة، وصارت الدولة تعيش على الدعم الخارجي، والناس يعيشون من مدخراتهم أو من دعم إغاثي أو سياسي.
لكن التغيّر الأكبر أصاب المواطن السوري، بمعزل عن موقفه من الاستقطاب الحاد في الازمة السورية. صار المواطن السوري قاسياً، بل أكثر قساوة مما كان عليه قبل الازمة السورية. حدة الموقف، تأييداً أو رفضاً لهذا الفريق أو ذاك، لم تعد تقتصر على صراخ مرتفع، بل صارت انعكاساً لصورة القتل العشوائي القائم في أكثر من مكان من سوريا. تغيرت حساسية المواطن السوري إزاء التدخل الخارجي في بلاده. هو يحتفظ لنفسه بحق رفع الصوت طلباً للمعونة، ويحتفظ أيضاً لنفسه بحق رفع الصوت طلباً للخروج من سوريا. لكن صوت الخروج يجب أن يكون موحداً حتى يكون فعالاً، أما أصوات الراغبين في التدخل فهي تشكل الغطاء ولو من دون ضجيج.
تغيرت نظرة السوريين الى السيادة الوطنية. لم تعد حصرية سلاح الدولة شرطاً حاكماً لعلاقة المؤيدين للحكم بالآخرين. كذلك يتصرف خصوم النظام على أن الاستعانة بأي خارج أمر مبرر لمواجهة الاستبداد. الخطير في هذه النقطة أن غالبية المنضوين في الحرب الاهلية السورية يبررون التخلي عن السيادة بمعناها المباشر. الاول تحت عنوان أن الحرب على سوريا هي حرب على فكرة العروبة المقاومة للاحتلال الأجنبي والتبعية للاستعمار. والثاني تحت عنوان أن الشعب السوري غير قادر على الانتقال صوب مرحلة جديدة من دون الاستعانة بالخارج. لكن، من المنصف القول إن الحكم لا يفتح الباب عشوائياً أمام الدعم الخارجي له، بينما يتخلى خصومه مباشرة عن حقهم في الامر عند القبول بأي شكل من أشكال الدعم.
اليوم، تواجه سوريا مرحلة متقدمة في أزمتها. هي مرحلة ستقود حكماً الى خيار من اثنين: إما التقسيم، ولو من خلال فرض أمر واقع، وإما العودة الى كونفدرالية سياسية تمهد لاستعادة الدولة قدرتها على الحكم الكامل والمباشر وغير المحتاج الى دعم الخارج. وفي الانتقال الى المستويات الجديدة من الازمة، تتكشف الآثار المخيفة التي تركتها ثلاث سنوات من الحرب المجنونة. صحيح أن الانقسام سيظل قائماً في قراءة ما حصل ومن المسؤول عن الازمة، لكن الوقائع القاسية للازمة ستتحول من تلقاء نفسها الى عنصر حاسم في الوجهة المقبلة، بمعنى أن الذين يعتقدون أن حرباً أهلية مدمرة وقاسية ووحشية كالتي تقوم ستنتج حكماً مؤسسة حكم ديموقراطية وأكثر مدنية هم واهمون حتى ينقطع النفس. ومن يعتقد أن بمقدور أي كان، سواء من الحكم القائم أو من خصومه، إعادة حكم سوريا كما كان عليه الأمر (1946 ـــ 2010) هو أكثر توهماً. ولأن طبيعة الانقسام غير عادية، فمن الأفضل التريث في رسم التوقعات، والاكتفاء بالواقعي منها، وهو أن أي تسوية، مع التشديد على كلمة تسوية، يمكن أن توقف الحرب الاهلية في سوريا اليوم، ستنتج مؤسسة حكم تشبه صورة الوفدين السوريين في جنيف. حتى إعادة بناء الجيش على أسس قوية وثابتة باتت هي الأخرى رهن شكل هذه التسوية ونوعيتها. ولن يكون بمقدور الكون كله تخيّل صورة ثابتة عن سوريا المستقبل.
ولأن السوريين لا يظهرون، مع الأسف، استعداداً للتفاعل مع تجارب حارة قريبة منهم، سواء في العراق أو لبنان، أو مراقبة المشهد المصري بتمعن، فإن من الصعب توقع تغييرات جوهرية على مستوى الموقف من الازمة.
الأمر هنا لا يتعلق بموقف الآخرين من المتدخلين في الشأن السوري، من دول وجهات وقوى وحتى على شاكلتنا من إعلاميين ومراقبين، بل الأمر يتعلق بكون المشهد السوري القائم اليوم يمثل صراعاً بين هويات ثقافية وسياسية تجعل المرء في حيرة من أمره عند النظر الى صورة الائتلاف الذي يشكله المجتمع السوري. وهذه الهويات تجاوزت كلها الارضية المشتركة الخاصة بالدولة السورية المستقلة. بل يبدو أن لدى السوريين المتنازعين ميلاً الى إعلاء الهوية الثقافية والسياسية الخاصة على الهوية الوطنية. وهو ما نعرفه نحن اللبنانيين على وجه الخصوص. وهو للمناسبة، مؤشر على مزيد من الانقسام، ومزيد من التفتت.
خلاصة القول، إن على السوريين معرفة أنهم، اليوم، في وضع يشبه لبنان في عام 1979. عندما فشلت الحرب الاهلية في حسم الصراع الداخلي، وعندما صار التدخل الخارجي عميقاً بعد اجتياح إسرائيل عام 1978، وما تلاه، لم يكن سوى الموت المجاني، ما خلا، حكماً، الاستشهاد في وجه العدو الحقيقي الذي له اسم واحد، لن يتغير مهما تنوّعت الأقنعة، وهو إسرائيل!

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى