النموذج التركي كأقراص مهدئات (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد*

يترتب على طبيعة رأس المال الداعم تاريخيا لـ«الإخوان المسلمين» نتيجة جيوبولوتيكية هامة مفادها أن التحالفات الممكنة والمنطقية لقوى الإسلام السياسي العربي ستكون عند داعميها الماليين ومرجعيتها الفكرية، أي صحراء شبه الجزيرة العربية، وليس تركيا.
يكتسب موضوع النموذج التركي ودول «الربيع العربي» أهمية سياسية كبيرة راهناً، بعدما صعدت جماعة «الإخوان المسلمين» إلى مقاعد السلطة في كل من تونس ومصر وحلولها محل الأنظمة الاستبدادية لكل من بن علي ومبارك، بعد الانتفاضات الشعبية في نهايات 2010 ومطالع 2011. مرت سنتان على «الربيع العربي» وتراجعت الآمال المعلقة على اجتراح النخب الجديدة لسياسات تحاكي النموذج التركي، فالمشاكل السياسية والاقتصادية والمجتمعية لهذه المجتمعات لم تجد طريقها إلى الحل بل تتزايد بوضوح. كما أن حالة كبيرة من الاستقطاب تسود مجتمعات «الربيع العربي» بين قوى الإسلام السياسي من ناحية، والقوى الديموقراطية والليبرالية واليسارية من ناحية أخرى.
وإذ عرف العالم صراع النماذج إبان فترة الحرب الباردة بين الكتلتين المتصارعتين، فقد لعب صراع النماذج الدور الأكبر في حسم هذه الحرب، وليس القدرات النووية العسكرية التي امتلكها طرفا الصراع بالفعل. ولكن الأمر استغرق حوالي العقدين بعد انتهاء الحرب الباردة ليدخل الشرق الأوسط صراع النماذج الإقليمية بين النموذجين التركي والإيراني. لم تعد المنافسات الإقليمية في الشرق الأوسط تجري فقط على صعيد الشعار السياسي- الأيديولوجي أو التقدم الاقتصادي- التكنولوجي، وإنما امتدت إلى ساحة نزال جديدة هي ساحة النماذج المجتمعية التي يقدمها كل لاعب إقليمي في الشرق الأوسط. ومعلوم أن التجربة الإسرائيلية غير مطروحة كنموذج أصلاً لاعتبارات لا تحتاج إلى كثير من الشرح.
يستبطن «الربيع العربي» نوعاً من تناظر النماذج، الذي يختزل في طياته – بالمنطق الضمني – صراعاً مستتراً بين هذه النماذج وبعضها بعضاً، وبالتبعية بين أصحاب المصلحة في انتصار أحدهما على الآخر. ولأن الصراع لا يكون فقط في صورته المادية العنفية المجردة، وإنما بالوكالة – في صورة اختزالية ومضمرة – عبر النماذج، يكتسب تحليل النماذج أهمية استثنائية في هذا السياق.
تثير النماذج عموماً تساؤلات للتفكير وتقدم مؤشرات على المستقبل واحتمالاته، لذلك تنهض الأهمية لدراسة النموذج التركي وتحليل أبعاده المختلفة لدول «الربيع العربي»، خصوصاً بسبب عدم وجود نموذج عربي قادر على مقارعة النموذج التركي لا قبل «الربيع العربي» ولا بعده حتى الآن.
وبالتوازي مع ذلك، يتعاظم الآن فرز سياسي وأيديولوجي جديد داخل التيار الإسلامي، بين السلفيين من جهة و«الإخوان المسلمين» من جهة أخرى. يعتبر السلفيون أن النموذج التركي مهادن بأكثر مما ينبغي مع التيارات الليبرالية وإسلامي الهوية بأقل مما هو مطلوب مقابل الغرب، فيما لا يتبنى «الإخوان المسلمون» النموذج التركي وإنما يحتفظون بمسافة واضحة منه بالرغم من تحسن علاقات مصر وتونس السياسية والاقتصادية مع تركيا. يعني كل ذلك أن الحمولة الأيديولوجية لـ«الإخوان المسلمين» أصبحت في اختبار صعب يتعلق بمدى توافقها مع معايير المشاركة والديموقراطية، أو فلنقل بمدى استعدادها المبدئي للنظر إلى النموذج التركي بإيجابية بعد انتصارها في الانتخابات البرلمانية التي أعقبت «الربيع العربي».

التشابهات والاختلافات بين الطرفين

في التشابهات:

1- كلاهما يمثل بشكل أو بآخر «الإسلام الوسطي» غير الجهادي وغير السلفي.
2- كلاهما يرسم سياسته الإقليمية والدولية ضمن إطار النظام الدولي الراهن وتراتبيته المعلومة.
3- لا يتحدى أي منهما النمط السائد في الاقتصاد الدولي ولا أسسه.
وبالرغم من هذه المشتركات الثلاثة الهامة، فلا يمكن تجاهل مجموعة كبيرة من الفوارق بينهما.


في الاختلافات:

هناك علاقة جدلية بين مكونات وعناصر النموذج التركي، وبالمقابل لا علاقة نمطية واحدة بين الإسلام والسياسة في كل من تركيا ودول «الربيع العربي».
1- يحكم السياق العلماني التطور التاريخي والمجتمعي في تركيا، فيما يبدو هذا السياق ملتبساً في الحالة المصرية على أحسن تقدير. ويعني ذلك أن التوازنات المجتمعية القائمة في تركيا منذ تأسيس الجمهورية العام 1923 والمرتكزة على العلمانية تختلف عن توازنات مصر، التي لم تتبن العلمانية صراحة في أي وقت من تاريخها الحديث، ولكنها لم تكن دولة دينية منذ تأسيس دولتها الحديثة 1820.
2- تشي نسبة 10 في المئة التي تتمثل عندها الأحزاب في البرلمان التركي ـ وليس أقل من تلك النسبة – برغبة مؤسس الجمهورية التركية في وجود حزبين كبيرين يتناوبان على السلطة، وهو ما حدث لعقود طويلة في تركيا. أما في مصر ومنذ العام 1952 وحتى الانتفاضة الشعبية في 2011 فقد دانت السيطرة لحزب واحد اختزل ـ تحت مسميات مختلفة ـ الدولة ومؤسساتها وأجهزتها.
3- من حيث السياق التاريخي، يعد حزب «العدالة والتنمية» نتاجاً لتطور الأحزاب التركية المحافظة ذات الجذور الإسلامية والمشاركة في الحكومات التركية منذ السبعينيات (أحزاب نجم الدين أربكان). بالمقابل لم تتح لجماعة «الإخوان المسلمين» المشاركة في أية حكومات مصرية قبل الانتفاضة الشعبية، وظلت منغلقة على نفسها طوال تاريخها الذي يعود إلى العام 1928.
4- يعد حزب «العدالة والتنمية» حزباً تركياً بامتياز، ولا أحزاب شقيقة لديه، أما جماعة «الإخوان المسلمين» فهي تنظيم دولي له فروع في ثمانين دولة.
5- يركز حزب «العدالة والتنمية» التركي على العمل السياسي حصراً، فيما لم تتخل جماعة «الإخوان المسلمين» عن المزج بين السياسي والدعوي.
6- تتباين المنطلقات المرجعية للحزبين، فهي فقه المقاصد والتراث الصوفي في الحالة التركية، بينما تعد جماعة «الإخوان المسلمين» مظلة تستظل بها تيارات ثلاثة: سلفي وإصلاحي وقطبي (نسبة إلى سيد قطب وهم من يسيطرون على قيادة الجماعة راهنا).
7- تتشكل عضوية الحزب في الحالة التركية من أعضاء من كل الأديان والطوائف، إلا أن جماعة «الإخوان المسلمين» تتشكل حصراً من المسلمين السنة.
8- يدعم حزب «العدالة والتنمية» التركي مالياً رجال أعمال راكموا أرباحهم من فوائض عمليات الإنتاج التركية عموماً والأناضولية خصوصاً، بينما اعتمدت جماعة «الإخوان المسلمين»، تاريخياً، على الفوائض المتحققة من ريع النفط والغاز في الخليج العربي، وما يعنيه ذلك من اختلاف في النسق القيمي للرأسمال الداعم.
9- يقوم الجوهر الأساسي للنموذج التركي على وجود توازن للقوى المجتمعية بين «حزب العدالة والتنمية» من ناحية والمؤسسة العسكرية والدستور من ناحية أخرى، بمعنى أن القيود تجعله خلاقاً أكثر وأقل اصطداماً بمؤسسات الدولة، مع التسليم بأن هذا الجوهر غير موجود وغير متبلور في الحالتين المصرية والتونسية.

الخلاصة

استخدمت التيارات الإسلامية في دول «الربيع العربي» تركيا كحجة رئيسية في مساجلاتها السياسية مع النظم الديكتاتورية الحاكمة قبل «الربيع العربي»، فيما لم تعد ترى في تركيا نموذجاً يحتذى بعد تمكنها من السلطة في أعقاب «الربيع العربي»، أي أن النموذج التركي تحوّل عملياً إلى حجة ثانوية لدى التيارات الإسلامية. تربح تركيا الآن نسبياً من الحديث عن نموذجها القابل للاستنساخ في دول «الربيع العربي» وتزداد أهميتها الجيو-ستراتيجية لدى الغرب، بسبب ما يعتقد من قدرات كامنة لتركيا على إعادة تشكيل «الإخوان المسلمين» أو ترويضهم، إلا أنه من المبكر الحديث الآن قبل انقشاع الغبار عن حجم الأرباح والخسائر التركية من «الربيع العربي».
يترتب على طبيعة رأس المال الداعم تاريخياً لـ«الإخوان المسلمين» نتيجة جيوبوليتيكية هامة مفادها أن التحالفات الممكنة والمنطقية لقوى الإسلام السياسي العربي ستكون عند داعميها الماليين ومرجعيتها الفكرية، أي صحراء شبه الجزيرة العربية، وليس تركيا.
وبالرغم من ذلك فهناك أهمية وظيفية للحديث عن النموذج التركي، وسبب الأهمية هو وضع النخب الحاكمة الجديدة أمام المقارنة المستمرة مع المشروع التركي بغرض تقبل إجراءات وأفكار أكثر ديموقراطية مما تريد وتمارس الآن. لذلك لا تتبنى هذه الورقة مقولة استنساخ النموذج التركي، لأنه يقوم على خصوصية تركية شديدة التعقيد ولأن الاختلافات بنيوية بين «الإخوان المسلمين» وحزب العدالة والتنمية التركي. وفي الوقت نفسه لا ترغب الورقة في إزاحة النموذج التركي من موائد البحث كلياً، لأن ذلك سيعفي النخب السائدة حديثا بعد «الربيع العربي» من عناء المقارنة النظرية مع النموذج التركي. هنا يمكن بالفعل أن يستخدم النموذج التركي كأداة لقياس مدى التزام «الإخوان المسلمين» بقيم المشاركة والتعددية والحريات المدنية، وليس أكثر من ذلك.
في ضوء كل ما سبق، يبدو الحديث عن النموذج التركي ومقارنته بالنموذج الإخواني في معظم الأحوال تمريناً ذهنياً لطيفاً، ولكنه غير قابل للتحقق على الأرض. بكلام آخر، لا يخدم الحديث عن النموذج التركي وصلاحيته لدول «الربيع العربي» أغراضاً علمية؛ بقدر ما يطمئن النفوس القلقة والمضطربة في الشرق الأوسط والغرب. هنا يتحول النموذج التركي ليؤدي وظيفة جديدة بعد سنتين من «الربيع العربي»، وهي وظيفة تشبه وظيفة أقراص المهدئات. حيث ستزداد الحاجة إلى الحديث عن النموذج التركي يوما بعد يوم مع وضوح الاندفاع الإخواني نحو الاستبداد، وهي حاجة ربما تزداد في الشهور والسنوات المقبلة!

*من ورقة قدمت في مؤتمر «المسلمون التقدميون» الذي عقد في برلين.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى