الهدف: “إمارات”! (عبد الله كمال)

 عبدالله كمال

 
لن تهدأ المنطقه قريبا.. ولن يلوح الإستقرار في رحابها قبل عقد كامل علي الأقل.. ذلك أن ماجري فيها خلال العامين الماضيين، ولم يكتمل بعد، مُحَمل ب “طاقة قلاقل” لايمكن توقع نفاذها في وقت منظور. وإذا ماأضفنا تلك الطاقة إلي نتائج عملية غزوالعراق في ٢٠٠٣، ثم احتمالات تأجيج الشرق الاوسط كله بصراع حول “الخيار النووي العسكري الايراني”، فان هذا يعني أن المشرق العربي-تحديدا قبل غيره-سوف يظل مهدداً بمزيد من الإضطراب لفتره ستكون طويله بالتأكيد.
بغض النظر عن دعايات نشر الديموقراطية، ذات الشعارات البراقه التي تخفي خلفها أهدافاً أُخري بينما تداعب مخيلات الشعوب بأحلام لاتنطوي عليها حقاً، فأن المنطقة برمتها، وفي صدارتها "المشرق" بصدد مخطط "إعاده ترتيب" قد يكون واضح الاهداف لدي من يقومون عليه. في ذات الوقت فإن هذا يوفر مايمكن وصفه بأنه مناخ "قنص الفرص" إقليمياً، للاستفاده من وضع قلق.. يؤدي الي ترتيبات لم توضع في حُسبان "الخطط الأولية".
إن التاريخ لايكرر نفسه وقائعياً كما قد يعتقد الكثيرون، لكن قيمه ودروسه يمكن أن تتكرر عملياً بصورة أو أخري. وإذا كان هناك محللون يعودون الي سيناريو (سايكس – بيكو) الذي أعاد تقسيم خرائط المنطقه بعد الحرب العالميه الأولي.. فإن هذا لايَشترط ان يكون هدف سايكس- بيكو هو نفسه المقصد الأخير ل"قلاقل" الشرق الاوسط الآنية واضطراباته الحاليه المستفيدة أو الناتجه عن مناخ "الثورة" أو "التثوير".
لقد إستهدف سيناريو عشرينات وثلاثينات القرن الماضي رسم حدود جغرافيه وتوزيع نفوذ، تأسست وفقاً له دولاً صمدت بشكلها السابق قُرابه القرن.. الان وبعد تسعة عقود فإن الهدف قد لايكون تقسيماً علي الأرض يؤسس دولاً جديده بقدر ماهو إعادة تفتيت تلك الدول داخل نطاقها.. وإقحامها في صراعات أيديولوجية ومؤسسية وأيضا عرقية تجعلها دولا قائمه ولكن غير متماسكه، موجوده ولكن أقرب الي الهشاشه.
 إن الوصول بالدول الي تلك الحاله من الهشاشه قد لايشترط فيه ان تكون مؤهلة لثورة او إضطرابات سياسيه، وإنما يمكن أن يتم هذا عبر طُرق اخري، من بينها تفجير الفتن الداخليه، وتوظيف الكيانات غير المعلنة، واللجوء الي "التثوير" إذا لم يكن للثورة مبرراً حقيقاً في أرض الواقع.
قبل قرن، كان الشعار الذي مثل وقوداً لعملية إعادة التقسيم واسعة النطاق هو التحرر من الاحتلال، الذي لم يتحقق عملياً إلا بعد أن تمت إعادة التقسيم ببضعه عقود مرت.. الان تغطي الإضطرابات المتصاعدة شعارات براقة حول مساعي الشعوب نحو الديموقراطيه وتطبيق حقوق الانسان.. وبقدر سمو هذا الهدف فإن لهاث الشعوب نحو مقصدها الحميد- لاسيما تلك التي لديها مبررات للثورة – إنما يؤدي الي أوضاع لايمكن توقع بلوغ الهدف العظيم لها إلا بعد أن تكون قد عانت من ويلات ومعاناة لاتجعلنا نتوقع أن تصل الي التمتع ب"الديموقراطيه المنشودة" في الجيل الحالي.. بل في عصر من سوف يرثوه وربما من هم بعدهم.
عملية "إعادة الترتيب" الحالية، تنطوي علي مجموعه من الأهداف التي لم تكن واضحه حين بدأت موجات تفاعل ماعرف باسم "الربيع العربي".. وهي :
 * عمليه إعاده توزيع القوي إستراتيجيا في المشرق العربي، بحيث يؤدي ذلك الي نشوء معادلات تقوم علي مجموعه من الدول التي لاتحقق تفوقاً من أي نوع في مواجهه إسرائيل.. تفوق حالي او محتمل في المستقبل.. سكاني أو إقتصادي أو مؤسسي.. بحيث تتساوى الرؤوس، أو تمنح إسرائيل عناصر التفوق الإستراتيجي الأبعد، بغض النظر عن تفوقها العسكري.
 بمعني أوضح، إذا كانت هناك دول يمكن أن تمثل تهديداً سكانياً في محيط إسرائيل فان تلك الدول تظل منشغله في صراعها الذاتي بحيث لاتكون قادره علي إستثمار قدراتها السكانية.. وهنا يبرز مثال مصر. وإذا كانت هناك دولاً تلوح في أفقها قدرات تنموية سوف تحقق بها نهوضا مستقبليا علي المستوي الاقتصادي ينقلها الي مصاف اخرى.. فانها تتعثر في إضطرابات داخليه تمنعها من مواصله هذا النهوض وتستغرق في صراع أيديولوجي أو طائفي يعرقلها.. وهنا تبرز أمثله دول الخليج المختلفه. وإذا كانت هناك دولاً تتميز بالعمق المؤسسي لطبيعتها كدولة – حتي وان عازتها الحداثه – فانها تنغمس في تطاحن مؤسسي يفقدها قيمه التماسك وبدلا من ان تتقسم جغرافيا تنشطر داخليا وتصبح "عديمة القوام" او ذات "قوام بلا قيمة"..وهنا قد تبرز مصر مجددا.
* الهدف الثاني، وهو من الأهمية بما كان في عملية إعادة الترتيب، ويتوازي مع الرغبة الدولية لإنهاء ماعُرف بإسم "الحرب العالميه علي الارهاب"، هو إستبدال "الغطاء القومي العروبي" الذي كانت تتحرك وفق مفرداته سياسات وتوجهات وخطط غالبية دول المشرق العربي، خصوصا دول الطوق المحيطه باسرائيل.. ب "الغطاء الايديولوجي الاسلامي" الذي يوفر فُرصاً لحدوث توافق مُعقد بين مصالح الدول الغربيه الكبري وعلي رأسها الولايات المتحدة.. مع تنظيمات الإسلام السياسي وفي مقدمتها الإخوان المسلمين.
 إن هذا ينطوي علي رغبه في سحب البساط من تحت تنظيمات العنف والارهاب باسم الدين وفي صدارتها "القاعدة" ومن هو علي شاكلتها ومايدور في فلكها من تنظيمات "السلفية الجهادية".. وبالتالي تحقيق أكثر من أمر :
– إطفاء ماكينات الحرب الغربية التي إستنزفت الكثير من الطاقه والجهد في بقاع إسلامية مختلفه.. خصوصاً أفغانستان.
– تحقيق ماقد يكون مصالحه مع التيارات الدينيه المتطرفه التي تعتقد الولايات المتحدة أنها سبب الشعور المعادي لها في مختلف الدول الإسلامية.
– إستبدال "القاعده" كتنظيم دولي كان يتعلق به شغف الراي العام الاسلامي لاسباب مختلفه، بالتنظيم الدولي للاخوان المسلمين، إذا ما أعتبر انه الكيان الذي حقق انتصارات سياسيه علي الارض في مختلف الدول.
– ترسيخ طبيعة الصراع السُني – الشيعي في المنطقه كنوع من التمهيد لمسرح العمليات الاقليمي علي المستويات الدينية والسياسية في الاستعداد لمتغيرات سوف تشهدها الاعوام الثلاث المقبله بشأن الخيار النووي الايراني.
– إتاحة تصنيف المنطقه من جديد علي أسس دينية، بما يتيح أدواراً لقوى من خارجها في صدارتها تركيا، إستنادا الي المقوم السني، بعد ان كان توصيف المنطقة قوميا وعروبيا يحجب عنها الانغماس في اي دور اقليمي مؤثر.
كنتيجه لذلك فان ايران وهي ترى عملية اعاده الترتيب الاقليمية تتم تحت أستار تأجج المشاعر والاضطرابات الربيع العربي، راحت بدورها تحاول ان تجد لنفسها موقعا موازيا في المعادلة الجديدة التي ترى انها حين تكتمل لن تكون في صالحها علي الاطلاق. وفي هذا السياق فاننا يمكن ان نلاحظ مايلي :
– بصورة او اخرى خسرت ايران حليفيها من السنة، تنظيم القاعدة الذي خسر مواقعه لاسباب مختلفه وكانت بينه وبينها علاقات وثيقه غير معلنة، والتنظيم الدولي للاخوان الذي كان علي تنسيق كامل معها في حرب غزه ٢٠٠٩.. بعد ان تبدلت اوراقه الاقليمية وخرج من معادله كانت تضعه من قبل مع حزب الله وايران وسوريا وقطر في سياق واحد.
– في ضوء هذه الخساره وحدوث الاستقطاب الديني في المسرح الاقليمي طائفيا فان ايران واصلت عمليه الارتهان التي اعتمدتها قبل سنوات، بان ساندت النظام السوري.. وهي تعرف انه لن يقوى على الصمود..بقصد تاجيل سقوطه لاطول فترة ممكنة تكون خلالها قد رتبت اوراقها.. وتعضيد نفوذها في العراق.. وفي لبنان.. بينما تكاد تفقد ورقة حماس في غزه.. مع وصول الاخوان الى حكم مصر ووضوح قاعده التحالفات الجديده.
– اختلاق الاضطرابات في منطقة الخليج، بما تتميز به من اهميه استراتيجية خصوصا في امدادات الطاقه، بقصد تاجيل عمليه المواجهة بين ايران والولايات المتحده، اذا مانجحت ايران في اختلاق الاضطرابات في منطقه الخليج.. لاسباب مختلفة.. علنية وسرية.. بشكل مباشر او عن طريق التنظيمات الخفية.
في ضوء هذا تفاجأ الجميع بما اعلنته دولة الامارات قبل ايام عن ضبطها تنظيم ديني اغلبهم من اعضاء جماعة الاخوان، اذ بينما انهمك الجميع في تفاعلات الملف السوري العنيفة، والشقاق السياسي الحاد في مصر، كان ان تبين ان واحدة من ابرز دول الخليج المتماسكة تعلن انها تواجه خطرا اوجب عليها ان تفرض قواعد السيادة الوطنيه ومواجهة الخطر الذي لاح عن طريق ادوات القانون.
ان لكل دوله ان تتخذ الاجراءات التي تراها لحمايه امنها، طالما ان هذا يتم وفق عمليه قضائية شفافة، وبدون تدخل في هذه الاجراءات القضائية، فان التحليل الاقليمي للاوضاع المضطربة في المشرق العربي لابد ان تطرح مجموعه من الملاحظات.. انطلاقا من القضية القانونية التي فجرها النائب العام الاماراتي، وقد تلت هجومات سياسية من جماعات وشخصيات اخوانية استهدفت الامارات قبل غيرها.
  – يبدو واضحا أن ترتيبات "المشرق العربي" تحاول ان تمس بشظاياها "الخليج العربي"، المنحصر مابين مطرقة متغيرات دول عربية وسندان ارتهان تحاول فرضه ايران.
 – انه اذا لم تتوفر بيئة "الثورة" ومبرراتها، يتم "التثوير".
 – انه اذا كانت الامارات تمثل نموذجا (تنمويا وحدويا) فانها في ذات الوقت تمثل النمط الذي لاتستهدفه تفاعلات الاقليم، التي تهدف الي تحويل الدول الي "إمارات" او "دويلات"، كل منها منشغل في ذاته..حتي لو بقي شكليا كيانها الكبير علي الخريطه !
 – ان المنطقة تدلف حاليا مرحلة ان يُفرض علي المواطن خوض الصراع مابين مواطنته وولاءه لتنظيم سري – ان كان منتميا – فيحدث الشقاق في داخل الدول.. بينما شكلها من الخارج يبدو كما هو.

موقع إيلاف الالكتروني

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى