الهيمنة الأميركية.. الجذور الفكرية المؤسسة (هاني شادي)

 


هاني شادي

بعد انتهاء الحرب الباردة حاولت، ولا تزال، الولايات المتحدة الأميركية فرض زعامتها وهيمنتها العالميتين على اعتبار أنها القطب الأوحد في العالم. ويعتبر هذا النهج عملية مكملة لسياسة التوسع، التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من مئة عام. ويقول الباحث الألماني، كارل شميت، إن «الولايات المتحدة الأميركية منذ العام 1898 (الحرب مع إسبانيا) دخلت في حرب ضد العالم كله، وإن نهاية هذه الحرب غير منظورة حتى الآن».
من جانبه، وصف الفيلسوف المجري البارز، جورج لوكاتش، دور الولايات المتحدة الأميركية في العالم مع انتهاء الحرب العالمية الثانية بالكلمات التالية: «في فترة ما بعد الحرب، اقتنصت الولايات المتحدة موقع القوة الإمبريالية الرئيسية في العالم، شاغلة بذلك موقع ألمانيا النازية في الماضي.. واستطاعت الطبقة المسيطرة في هذا البلد الحفاظ على الأشكال الديموقراطية بدرجة ناجحة، الأمر الذي مكن الولايات المتحدة، عبر الأساليب الديموقراطية الشرعية، من إقامة ديكتاتورية الرأسمالية الاحتكارية بنجاح مماثل لما فعله هتلر باستخدام وسائل القمع والاستبداد». وفي السياق نفسه، يشير المؤرخ الإنكليزي المعروف، أرنولد توينبي، إلى أن تاريخ الولايات المتحدة، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، يجسد ثورة مضادة دائمة ومتواصلة في العالم. ويرى توينبي أن الفكرة القومية الأميركية نفسها تمثل نقيضاً لفكرة التنوير، وأن التطور التاريخي والتوسعي للولايات المتحدة هو «معارضة إمبريالية كونية» ضد التاريخ وفكرة التقدم التاريخي.
إن تاريخ التوسع الأميركي يتلاصق مع مبدأ «مونرو»، الذي اكتملت مراحله بالعولمة التي تجسدت في الاستيلاء على شرق أوروبا عن طريق ابتلاع بولندا وتشيكيا والمجر وغيرها من دول «اشتراكية سابقة» في حلف «الناتو»، وعن طريق تفتيت يوغوسلافيا وفرض الهيمنة الأميركية في البلقان، وإعلان مبدأ «كلينتون ـ أولبرايت»، الذي منح عملياً «حلف شمال الأطلسي» الوظائف والمهام الأساسية للأمم المتحدة. وفي هذا السياق يؤكد المؤرخ الأميركي البارز وليم وليامز في أعماله أن «مبدأ مونرو»، ـ وخاصة سياسة «الأبواب المفتوحة» القائمة على هذا المبدأ ـ حدد العقيدة التوسعية للسياسة الخارجية الأميركية. ففي العام 1823 أعلن الرئيس الأميركي مونرو، في رسالته للكونغرس مذهبه، الذي أصبح أداة للسيطرة الأميركية على بلدان القسم الغربي من الكرة الأرضية، حيث أشار إلى أن أي محاولة لتدخل الدول الأوروبية في شؤون بلدان القارة الأميركية سوف تعتبرها الولايات المتحدة بمثابة عمل سياسي عدائي ضدها. ومن ثم مثل هذا المبدأ انعطافاً في السياسة الخارجية الأميركية، إذ بموجبه استحوذت الولايات المتحدة على حق «الحماية» المنفردة للقارة وحصلت أيضاً على حق التدخل في شؤون دول أميركا اللاتينية التي تحولت إلى محميات لها. وتحول هذا المبدأ على المستوى الجيوسياسي إلى أداة للاستيلاء على»المكان» وتحويل هذا «المكان» إلى إمبراطورية إقليمية أميركية. آنذاك أشار فريدريك جاكسون تيرنر، مستشار الرئيسين ثيودور روزفلت وولسون، إلى «أن جوهر الولايات المتحدة الأميركية كدولة يكمن في العملية الجيوسياسية للتوسع والتحريك الدائم لحدود الهيمنة الأميركية نحو الغرب، في البداية حتى شواطئ المحيط الأطلسي، وبعد ذلك على الجانب الآخر لهذا المحيط في المنطقة الأوروبية الآسيوية». ويلاحظ الباحث السياسي الأميركي، كنيت كولمان، أن مبدأ «مونرو» على المستوى الأيديولوجي يعتبر «ميثولوجيا سياسية» وإيديولوجيا للإمبريالية، حيث عمل في الأساس على تعليل وتقنين واقع هيمنة الولايات المتحدة على القارة الأميركية. ويقول «إن الأسطورة السياسية لمبدأ مونرو ُخلقت بالتوازي مع تشكل الإمبراطورية الأميركية… فالهيمنة أيضاً مثلها مثل الإمبراطورية تتطلب تأسيس ميثولوجيا تعطيها الشرعية». وفي أثناء عملية الاستيلاء على مناطق إمبراطورية جديدة تؤكد مثل تلك الميثولوجيا: «نحن نهيمن عليكم لأن هيمنتنا تخدم مصالحكم».
لقد تواكبت المرحلة الأولى من تطور مبدأ «مونرو» مع صياغة وتعليل مبادئ «المنطقة الأميركية الكبيرة»، أي مناطق الهيمنة الأميركية في القسم الغربي من الكرة الأرضية. وبدأت المرحلة الثانية في الثمانينيات من القرن التاسع عشر وتجسدت في توسيع النزعة المطلقة لهذه الهيمنة. وكانت ذروة هذه المرحلة الحرب ضد إسبانيا في العام 1898، والاستيلاء على مستعمراتها، وإضافات الرئيس ثيودور روزفلت إلى مبدأ مونرو في العام 1904. وعن هذه الفترة كتب أ. وايت الصديق الحميم لروزفلت قائلا: «عندما استسلم الإسبان في كوبا وسمحوا لنا بالاستيلاء على بورتوريكو والفيليبين انتقلت أميركا إلى الطريق المؤدية إلى الزعامة والهيمنة العالمية وأصبح محكوماً علينا بنمط جديد من الحياة». وتماست المرحلة الثالثة من تطور المبدأ المذكور مع خطط تحويل عصبة الأمم إلى أداة للهيمنة العالمية وبداية الاختراق الأميركي في أوروبا وآسيا. وحسب كلمات كارل شميت «فإن مبدأ مونرو في هذه المرحلة الثالثة انتقل من القارة الأميركية وتحول من مبدأ إقليمي للهيمنة إلى مذهب عالمي وأداة لفرض الهيمنة الأميركية العالمية».
تحت لواء هذا المذهب اتخذت الولايات المتحدة ثلاث محاولات تاريخية لفرض هيمنتها العالمية. الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، والثانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والثالثة بعد انتهاء الحرب الباردة. ففي الفترة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية جرى توسيع المجال الجغرافي لتطبيق المذهب المشار إليه. فقد نظر فرانكلن روزفلت إلى أهمية المنطقة الأوروبية ـ الآسيوية في ضوء «نظرية ماكيندر»، وفي سياق خطط الحكم الأميركي المقبل للعالم. ومن المعروف أن ماكيندر أكد على أهمية المنطقة الأوروبية الآسيوية (التي تطابقت في الأساس مع أراضي الاتحاد السوفياتي) من أجل الهيمنة العالمية وأطلق عليها وصف «المنطقة المحورية» للسياسة والتاريخ العالميين. وفي هذا السياق يقول ماكيندر: «إن من يحكم شرق أوروبا يسيطر على المنطقة المحورية، ومن يحكم هذه المنطقة يسيطر على الجزر العالمية، ومن يحكم هذه الجزر يهيمن على العالم». غير أن النزعة التوسعية الأميركية اصطدمت آنذاك بمواجهة جيوسياسية من قبل الاتحاد السوفياتي. وجاء العام 1991 وتفككت الدولة السوفياتية وسقطت عقبة هامة للغاية على طريق فرض مذهب مونرو على العالم كله. ويتكامل مبدأ أو مذهب «مونرو» مع مذاهب أخرى ساهمت في التأسيس لنزعتي الهيمنة والتوسعية الأميركية، منها «القوة البحرية» و«الأبواب المفتوحة» و«الحدود المتحركة» و«الداروينية الاجتماعية»، وهذا يحتاج إلى كتابات ومعالجات.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى