انــحـــدار الــغــــرب (جميل مطر)

جميل مطر

اعترفت أعلى سلطة دفاعية وسياسية في أميركا، بأن طريق الانحدار للدولة العظمى قد بدأ، وأن «السيناريو» الأسوأ المحتمل، يتوقع أن تتوقف مسيرة العولمة أو تنعزل أميركا أو كلاهما، لأنها لا يمكن أن تستمر كقوة عظمى وتحتفظ بتفوقها الامبراطوري، لوهن في اقتصادها ولازدياد المخاطر من دول ناهضة.
تبدأ بعد أيام قليلة الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما وسط طفرة في الاجتهادات حول مستقبل أميركا، بدأت بواكيرها بنقاشات حول مستقبل السياسة الخارجية قبل أن تنتقل إلى قضية انحسار مكانة أميركا وتراجع دورها العالمي، وانتهت إلى نقاش فلسفي وتاريخي حول انحدار الغرب بأسره وليس فقط انحدار أميركا.
[[[
وجدتُ صعوبة في تحديد نقطة البدء في هذه «الطفرة الفكرية»، وصعوبة أخرى في تحديد الموقع الذي انطلقت منه. نعرف أن مثل هذه المواضيع المصيرية تنطلق عادة في ظروف أزمة حادة يعاني منها مجتمع ما، وتنطلق في أميركا، خاصة من مراكز البحث وقواعد الفكر الكبرى، قبل أن تصل إلى أجهزة صنع القرار.
اختلطت الأمور هذه المرة. هناك أزمة، لا شك في هذا، ولكنها ليست وليدة اللحظة، فجذورها ممتدة في حرب أفغانستان وفي الضرر الذي أصاب منظومة القيم بسبب غوانتانامو وتجاوزات الحرب ضد الإرهاب، وممتدة أيضا في مشكلات في قلب النظام الرأسمالي، وبالتحديد في مواقعه المالية والمصرفية. الأزمة بهذا المعنى لم تقع فجأة بسبب هزيمة عسكرية أو كارثة طبيعية، ولكن بتدرج وتصاعد مستمرين، ولم تكتمل في نظر جميع الأطراف، إلا عندما صار واضحا أن جهود تسويتها أو الحد من خطورتها باءت بالفشل. من ناحية أخرى، لم نعرف المؤشرات الدالة على هذه الأزمة عن طريق تقارير ودراسات مراكز البحث كما جرت العادة، بل علمنا بوجودها، من خلال خطابات وممارسات وقرارات رسمية، أي من تدبير وصنع أعلى أجهزة في الدولة.
[[[
أشير إلى ثلاث مجموعات من هذه المؤشرات أعتقد أنها كانت كافية بالنسبة لي على الأقل، للاقتناع بأن طفرة الاجتهادات حول مستقبل أميركا انطلقت ولن تهدأ قبل أن يقع تغيير ما في المنظومة السياسية الأميركية.
كان المؤشر الذي دفعني أكثر من غيره إلى تركيز اهتمامي في انتظار نقاشات جادة حول مستقبل أميركا، هو التقرير الذي أصدره قبل أسابيع مجلس الأمن القومي الأميركي تحت عنوان: «اتجاهات عالمية: 2030». هذا التقرير، كما ذكرت في مكان آخر ، كان بمثابة البوابة التي أطلقت عقال المفكرين بعد أن اكتشفوا أن أعلى سلطة دفاعية وسياسية في الدولة، تعترف علنا بأن أميركا بدأت طريق الانحدار. اكتشفوا أيضا أن هناك في قمة السلطة وصنع القرار من وضع سيناريو بين السيناريوهات المحتملة لعام 2030، واختار السيناريو الأسوأ، وهو القائم على احتمال أن تتوقف مسيرة العولمة أو تنعزل أميركا أو كلاهما معا.
كيف تولد هذا الشعور بالخوف على العولمة، وإلى أي حد تغلبت الأوهام على الحقائق لتدفع السلطة الأميركية إلى توقع توقف العولمة؟ أتحدث هنا عن المجموعة الثانية من المؤشرات الخطيرة التي أثارت اهتمامي، إذ تعددت الكتابات خلال الأسابيع الأخيرة التي ناقشت ظاهرة «انحسار العولمة»، وقَدَّمَت تحليلاتٍ وأرقاما وحقائقَ تثبت أن الانحسار بدأ بالفعل. يتحدثون الآن عن تباطؤ حجم الاستثمارات الأميركية في الخارج والحرص المتزايد من جانب المستثمرين خوفا على استثماراتهم، بسبب المخاطر المتزايدة في دول ناهضة ودول متخلفة عديدة. يكتبون عن مصارف كثيرة يجرى تأميمها في أنحاء متفرقة من العالم، وعن سقوط رهيب في قيم المهنة المصرفية والعاملين في قطاعات المال. كثير من الكتابات التي أطلعت عليها، تناقش مسألة تراجع حجم وقيمة التجارة الدولية في الشهور الأخيرة، وانخفاض معدلات التبادل عبر الحدود في الاتحاد الأوروبي باستثناء انتقال العمال، ويؤكدون على أن توقف العمل بأجندة مجموعة العشرين دليل لا يقبل الشك على انحسار العولمة. إذا كان صحيحا ودقيقا ما ينشر عن انحسار العولمة، فمن واجبنا أن نولي تقرير 2030 اهتماما أكبر، فقد بُنِيَ أحدُ أهم مشاهد مستقبل أميركا على بقاء أو تراجع العولمة، باعتبار أن أميركا لا يمكن أن تستمر قوة عظمى، أو تحتفظ بتفوقها، من دون استمرار العولمة فاعلة وصاعدة.
[[[
يدخل في هذه المجموعة من المؤشرات الجدل الدائر حاليا حول سياسات بعينها، مثل اختيار الرئيس أوباما لشاك هيغل وجون كيري وزيرين في حكومته. بعض الجدل ذهب في اتجاه تأصيل الخلفية الفلسفية للقرارين، اعتبارا من البعض بأنهما يعكسان قناعة لدى أوباما بأن أميركا تنحدر. البعض يقول أن الانحدار وراءه أسباب خارجة عن إرادة أميركا، ومن هؤلاء باراج خنه Khanna. آخرون وعلى رأسهم بول كنيدي يعتقدون أن أميركا مسؤولة عن انحدارها بسبب توسعاتها الإمبراطورية وزيادة مسؤولياتها الخارجية.
طرف ثالث يرفض الرأيين ويعتقد أن أميركا ليست في حالة انحدار، وعلى رأس هذا الطرف بول كاغان من معهد بروكنغز وجورج فريدمان مؤسس موقع «ستراتفور للأبحاث الاستراتيجية».
في صلب هذه المواقف تتعدد السياسات محل النقاش والجدل، مثل سياسة أميركا في الشرق الأوسط وبخاصة تجاه سوريا، وتجاه إيران وأفغانستان وباكستان. منها أيضا التخبط، أو ما بدا تخبطا، في العودة إلى الاهتمام بالحلفاء الأوروبيين والضغط المبالغ فيه على بريطانيا لكي لا تنسحب من الاتحاد الأوروبي أو تقلل من روابطها به. منها أيضا، وهو المتعلق بنا، إعادة فتح ملف مستقبل التعامل الأميركي مع الإسلام السياسي، بعد أن كان الرأي قد استقر بين عديد المفكرين وصانعي القرار في الغرب على أنه القوة السياسية الغالبة حاليا وعلى امتداد الأجل المنظور في الشرق الممتد من غرب أفريقيا إلى حدود الصين شرقا.
[[[
المجموعة الثالثة من المؤشرات، تتعلق بمظاهر عودة نظرية المفكر الألماني أوزوالد شبنغلر لتحتل مكانا متقدما في الجدل الأميركي الدائر حول انحدار أميركا. خرج الآن من يزعم أن القضية لا تتعلق بانحدار أميركا وحدها، وإنما بانحدار الغرب عموما كما تنبأ شبنغلر وكتابه الصادر عام 1922. جدير بالذكر أن معظم كبار علماء السياسة الخارجية الأميركية تأثروا بهذا المفكر بشكل أو بآخر، ومن هؤلاء هنري كيسنجر وجورج كينان وبول نيتشه وهانز مور جينثاو وراينهولد نايبور.
تزداد أهمية العودة إلى هذا النوع من التنظير في فلسفة التاريخ وصعود وانحدار الأمم عندما نعرف أن منظومة أفكار شبنغلر كانت المبرر «الأيديولوجي»، إن صح التعبير، لمبدأ هيمنة الحضارة الغربية وفكرة الاستثنائية الأميركية، وكلاهما أسَّسا لنظرية فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ. لقد اعتمد فوكوياما على مقولة أن الرأسمالية الديموقراطية هي «تاج البشرية وذروة التاريخ»، لذلك عندما نرى الرأسمالية في أسوأ أزمة لها في عمرها الممتد مئات السنين، ونرى أن الديموقراطية قد اختلطت بأموال الانتخابات وفقدت جوهرها، نستطيع أن نتفهم الإقبال على اجترار مفكرين غربيين لنبوءة شبنغلر عن قرب انحسارهما في الغرب.
تنبه صامويل هانتنغتون إلى أهمية ما طرحه شبنغلر حين رفض استخدام تعبير «حضارة عالمية». كلاهما اعتبر أن التاريخ يحكي قصة حضارة تأتي بعد حضارة، كل واحدة من هذه الحضارات، بثقافتها المتميزة، تحاول نشرها فتنتشر ثم تنحدر. كل حضارة تختلف عن الأخرى، ولكل خصوصيتها. وبالتالي لا يمكن أن تنشأ وتستمر حضارة عالمية. تنبأ شبنغلر بين ما تنبأ بتناقص المواليد عند اقتراب نهاية كل حضارة من الحضارات الكبرى. تنبأ أيضا بانحدار الثقافة والتقاليد الشعبية وانتشار المدن فائقة المساحة والحجم وعالمية المضمون والتكوين وصعود الحركة النسوية وتبني الفقراء والعامة تطلعات النخبة. هذه التنبؤات وغيرها مجتمعة ترسم علامات الحضارة الغربية الراهنة.
الجدل دائر في الولايات المتحدة والنقاش محتدم، فالقضية تتعلق بمستقبل أميركا لدى البعض وتتعلق بمستقبل الغرب بأسره لدى البعض الآخر. يخطئ من يظن أن مثل هذا الجدل لا يؤثر في صنع السياسة الخارجية الأميركية، أو في مستقبل علاقاتها ببقية دول الغرب وعلاقاتها بنا.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى