بانوراما اللعبة الدولية (غسان ملحم)

 

غسان ملحم

يكثر الكلام منذ سنوات عديدة عن إمكان حصول تغييرات وشيكة في السياسة الدولية على أرضية مؤشرات سياسية واقتصادية تطاول النظام الدولي بكامله. وقد أثبتت التطورات الدولية صدقية كل هذا الكلام في أوساط النخب السياسية والصحافية والفكرية. وجاءت بعدها التحركات الدبلوماسية واللقاءات الدولية لتكشف بعضاً من التسريبات والتلميحات حول إعادة النظر في التموضعات السياسية، وكذلك الخيارات الاستراتيجية. فالتطورات الدراماتيكية في الغرب والشرق والمشرق قضت بمراجعة الحسابات والتقديرات في غمار إعادة تكوّن بنية المنظومة الدولية من جديد. فما الذي يمكن قوله في استشراف مصير هذا النظام الدولي القائم ومستقبل العلاقات الدولية والتوازنات بين الدول؟ وما الذي ينبغي قوله بالنظر إلى بعض الضبابية في المشهد الدولي والاضطراب في مواقف بعض الدول والأطراف الدولية؟
لم تعد المعطيات الدولية في هذه اللحظة السياسية والتاريخية كما كانت عليه الحال عشية بدء ما بات يُعرف بثورات الربيع العربي بصورة عامة، وقبل تفاقم الأزمة السورية بصورة خاصة. بعض الصحافيين والمحللين السياسيين يتابعون هذه التطورات الدولية ويرصدون تحولات عميقة في صلب العلاقات أو التوازنات الدولية… ثمة تغيرات ملحوظة في النظام الدولي برمته. هذه هي الخلاصة التي يمكن أن يصل إليها مجمل الخبراء أو المراقبين الدوليين على اختلاف الخلفيات السياسية أو الفكرية. فالعالم اليوم يختلف تماماً عما كان عليه سابقاً في ظل الأحادية القطبية الأميركية التي نشأت في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الشرقية سنة 1991. لقد استطاعت النيوليبرالية الهيمنة على العالم بكامله بعد تعثر معسكر الاشتراكية وفشله في تأمين بقاء التوازن قائماً مع معسكر الغرب الحر. ثم نشبت الأزمة العالمية سنة 2008 لتعيد تصويب النقاش حول مستقبل النظام الدولي. يلي تلك انسحاب القوات العسكرية الأميركية من العراق سنة 2011 ليضيف إلى المأزق المالي إخفاقاً سياسياً وميدانياً. يتزامن كل ذلك مع صعود الصين الصامت وغير المدوي على الساحة العالمية، فضلاً عن عودة روسيا إلى الحلبة الدولية من بوابة المشرق… كما يُضاف أيضاً إلى انحسار ومن ثم انكسار أحادية الولايات المتحدة الأميركية تراجع قدرة الدول الكبرى التقليدية على التأثير في ميزان القوة الدولية، ولا سيما فرنسا والمملكة المتحدة… لقد تغيرت فعلاً قواعد اللعبة الدولية لناحية تصنيف وترتيب الدول بمقياس الجيوبوليتيك. وما طريقة التعاطي السياسي كما الدبلوماسي من قبل كافة الدول المعنية بالقضية السورية سوى دليل مضاف إلى دخول زمان التعددية القطبية على أنقاض سياسات استئثار أميركا بالنفوذ في المجال الدولي إيذاناً ببداية حقبة تاريخية جديدة قوامها الشراكة الدولية على قاعدة الحاكمية الجماعية أو المشتركة.
لن تكون منظومة العلاقات الدولية في المستقبل كما كانت في الماضي وحتى الأمس القريب بعد انفراط عقد الهيمنة من قبل الولايات المتحدة الأميركية وتفردها بممارسة النفوذ دولياً دون أية منافسة أو أية مواجهة مع أحد. فقد بدأت تتغير طبيعة المعادلة الدولية وكذلك طبيعة التحديات السياسية والدولية والإقليمية. هذا الأمر من شأنه بالتأكيد تفسير عملية تكثيف الحراك الدبلوماسي ومسألة تغيير السلوكيات الدولية في محاولة للتوصل إلى اتفاق، أو التفاهم على ترتيبات المرحلة القادمة. فمن بين الموضوعات الملحة إنشاء التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب والتكفير كأولوية تفرض نفسها على جدول أعمال هذا النظام العالمي الجديد. لقد بدأت هذه الحملة على نحو مباشر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 عندما أعلنت واشنطن الحرب على ما يُصطلح اليوم على تسميته منظمات أو مجموعات إرهابية. وباتت محاربة هذا الفكر هدفاً دولياً استراتيجياً. وهو الأمر الذي يستوجب تضافر الجهود والتعاون لضرب التنظيمات الإرهابية عسكرياً، وتعزيز فرص التنمية البشرية لتحقيق الاندماج السوسيوسياسي. إن التصدي لقضية انتشار الفكر الترهيبي يتفق بطبيعة الحال ومقاصد منظمة الأمم المتحدة بالعمل في سبيل إعادة تثبيت مرتكزات السلم والأمن الدوليين. هكذا يمكن القول إن الترتيبات الدولية المرتقبة تتضمن وجوباً آليات مؤسسية لتفعيل العمل الدولي المشترك ضد الإرهاب أو الترهيب، ضمن إطار معاهدة ما للأمن الجماعي.
لن يقف الأمر عند هذا الحد. فالتغيير سوف يطاول منطقياً العقلية أو الذهنية التي تسود تاريخياً نظام العلاقات الدولية. قد يعود الفضل في هذا الشأن إلى التطور الكبير على صعيد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التي جعلت من مسألة الحصول على المعلومة أو نقل الخبر قضية مقدسة وحقاً ثابتاً في القانون الدولي، وكذلك في العديد من الأنظمة الوطنية. لم يعد مقبولاً الخضوع للاستبداد أو الظلم، كما لم يعد ممكناً تطبيق نظام الاستعمار التقليدي أو الوصاية. ليس المقصود على الإطلاق إفراط الناس في التفاؤل، لكننا سنشهد شيئاً فشيئاً توجهاً دولياً للتخلي عن الاحتلال أو التدخل العسكري المباشر وحتى الهيمنة الاقتصادية، ومن ثم اللجوء إلى التحالف السياسي من باب الواقعية السياسية. لقد زال الاستعمار التقليدي تحت وطأة حركات التحرير الوطني والاستقلال طوال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم. ولن يكون باستطاعة الدول العظمى أو الكبرى إخفاء أساليب وأشكال الاستعمار الجديد تحت ستار التأييد أو الدعم للتحول أو التطور الديموقراطي. كذلك فإن الإمبريالية الرأسمالية لم تعد صالحة للتطبيق أو التحديث. لم يبقَ أمام الدول الغربية، والدول الصاعدة أيضاً، سوى عقد التحالفات السياسية بقصد التوسع الاقتصادي عبر استقطاب الدول النامية والدول المتخلفة. هكذا تستطيع هذه الدول أن تنخرط في هذا الحلف أو ذاك لتجسد أقاليم هذه الدول نفسها مناطق نفوذ أميركي أو فرنسي أو بريطاني أو حتى صيني أكثر منها بلداناً خاضعة للاحتلال أو الانتداب أو الوصاية.
يبدو واضحاً للعيان أن توصيف الأوضاع الدولية هو موضع خلاف أو التباس لحين نضج التسويات السياسية، واستكمال ترتيبات ما بعد الحرب لفك الاشتباك كما وقف إطلاق النار. وقد يستمر القتال في الميدان لبعض الوقت أيضاً، لكن من الثابت القول إن القرن المنصرم شهد صراعات عنيفة بين الأيديولوجيات والنظريات أو المذاهب السياسية… كما أنه من الثابت القول إنّ القرن الحالي تغلب عليه صراعات المصالح المكشوفة… في كل الأحوال، هو نظام متعدد الأقطاب لا أحاديّ، لكنه ليس ثنائياً أيضاً. وهو نظام يشترك فيه أطرافه وفق نظرية الأمن الجماعي في إعادة ترتيب العلاقات الدولية وفي إعادة تحديد الاستراتيجيات الدولية بطريقة مختلفة. قد يكون أكثر عقلانية بفعل التوازن فيه، كما قد تكون هناك إمكانية أكبر للاحتكام إلى مواثيق القانون الدولي بحال الاختلاف في وجهات النظر والتضارب في المصالح، لكنه بالتأكيد نظام يرتكز على منطق الشرعية في توازن القوة ضد الإرهاب حتى إشعار آخر…

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى