ترتيبات الخلافة في إيران إذ تتسارع

اكتسبت انتخابات رئاسة مجلس الخبراء التي جرت في إيران الأسبوع الماضي أهمية استثنائية لأسباب ثلاثة: الأول بسبب رواج الشائعات الخاصة باعتلال صحة المرشد الإيراني السيد علي خامنئي (75 عاماً) بعد العملية الجراحية التي أجراها قبل شهور. والثاني أن المفاوضات النووية بين إيران والغرب، التي دخلت مرحلة حرجة وتتأرجح بين الفشل والنجاح، تحظى بدعم وتأييد واضح من المرشد الحالي؛ وبالتالي فمن شأن غيابه التأثير بعمق على هذه المفاوضات. أما السبب الثالث فيعود إلى أن مجلس الخبراء تحديداً يعين المرشد الجديد في إيران وفقاً لأحكام الدستور الإيراني (المادة 111)، وبالتالي تذهب التوازنات في هذا المجلس فائق الأهمية مؤشراً على اتجاهات الخلافة التي تبدو إيران مقبلة عليها في المستقبل المنظور (اللباد: السفير – السعودية وإيران: انتقال السلطة إذ يقترب 13/10/2014). يُعد منصب الإرشاد أعلى مناصب الجمهورية الإسلامية في إيران، حيث يمتلك المرشد صلاحيات زمنية غير مقيدة تقريباً. وبالتالي فالصراع على تسمية المرشد الجديد بين الأجنحة الإيرانية، إنما هو صراع على مستقبل إيران وليس أقل من ذلك.

المتشددون يفوزون على البراغماتيين

جرت الانتخابات على رئاسة مجلس الخبراء، بعد وفاة شاغل المنصب آية الله مهدوي كني عن ثلاثة وثمانين عاماً في نهاية العام الماضي، بين أربعة وجوه بارزة في النظام الإيراني: هاشمي رفسنجاني الثعلب العجوز البالغ من العمر ثمانين عاماً، والذي يمتلك نفوذاً كبيراً في نظام إيران السياسي، سواء بأدواره التاريخية التي لعبها منذ قيام الثورة أو تثبيت المرشد الحالي السيد علي خامنئي في منصب المرشد، بعد وفاة المرشد المؤسس آية الله الخميني، أو في علاقاته المتشعبة في مفاصل الدولة الإيرانية ومن ضمنها الرئيس حسن روحاني، أو بسبب نفوذه الكبير في نخبة إيران الاقتصادية. الوجه الثاني محمود هاشمي شهرودي (66 عاماً) الرئيس السابق لجهاز السلطة القضائية، والذي تردد اسمه تكراراً في السنوات السابقة كخليفة محتمل للمرشد الحالي، بسبب مؤهلاته الفقهية وقربه المعروف من السيد خامنئي. والثالث رجل الدين الأصولي آية الله مصباح يزدي (83 عاماً)، العضو في «مجلس صيانة الدستور» المهم في خريطة المؤسسات الدستورية الإيرانية، ورئيس رابطة «مدرّسي حوزة قم العلمية». ترأس مصباح يزدي السلطة القضائية في إيران على مدار عشر سنوات (1990-2000)، واعتبره كثيرون «العرّاب الروحي» للرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد. الوجه الرابع كان آية الله محمد مؤمن المحافظ باعتدال، والذي لا يملك وهجاً خاصاً. قبل بداية الاقتراع في الجولة الأولى انسحب شهرودي من السباق في مفاجأة كبيرة، نظراً للتكهنات السابق ذكرها. ثم جرت الجولة الأولى بين المرشحين الثلاثة الباقين آيات الله: مصباح يزدي وهاشمي رفسنجاني ومحمد مؤمن. وعند فرز الأصوات، حصل مصباح يزدي على خمسة وثلاثين صوتاً مقابل خمسة وعشرين لرفسنجاني واثني عشر صوتاً لمؤمن. ثم جرت الجولة الثانية، بين مصباح يزدي ورفسنجاني، فكانت نتيجة الأصوات سبعة وأربعون صوتاً ليزدي وأربعة وعشرين صوتاً لرفسنجاني. ويُلاحظ وجود أصوات باطلة في الجولة الثانية وذهاب أصوات مؤمن بالكامل إلى يزدي، ما يعني أن المعسكر المتشدد رصّ صفوفه في مواجهة رفسنجاني والبراغماتيين المؤيدين له.

رفسنجاني في مواجهة يزدي

جرى التنافس الفعلي على رئاسة مجلس الخبراء بين رجلين (رفسنجاني ويزدي) لم يكونا قريبين من بعضهما البعض أبداً، وتواجها العام 2007 في انتخابات رئاسة مجلس الخبراء أيضاً. وقتها كانت نتيجة الانتخابات معكوسة، حيث حصل رفسنجاني على واحد وخمسين صوتاً مقابل ستة وعشرين صوتاً ليزدي. لكن ابتداء من نتيجة الانتخابات الرئاسية 2009 التي أعلنت فوز أحمدي نجاد المشكوك فيه، واصطفاف الرجلان في معسكرين متقابلين خلالها، فقد ظهر النفور المتبادل إلى العلن. قال رفسنجاني عن يزدي: «للأسف يبدو أن لديه مشاكل صحية تجعله سريع الغضب وغير قادر على ضبط أعصابه»، أما يزدي فقال عن رفسنجاني: «لو كان خامنئي سيذهب إلى الجحيم لتبعته حتى هناك، أما رفسنجاني فلن اتبعه حتى ولو كان ذاهباً إلى الجنة». يتصادم رفسنجاني ويزدي في كل شيء، من الحكم الشرعي في سماع الموسيقى مروراً بالمفاوضات النووية وحتى مستقبل إيران السياسي. ينتقد يزدي أداء الرئيس الحالي حسن روحاني – القريب من رفسنجاني – ووزير ثقافته علي جنتي، بسبب إذاعة الموسيقى في وسائل الإعلام الإيرانية، حيث قال يزدي: «الموسيقى حرام في الإسلام والعزف المنفرد للنساء حرام بالتأكيد»، مناشداً وزير الثقافة الإيراني العودة إلى «طريق العفة».

معضلة الخلافة في إيران

تظهر معضلة انتقال السلطة في إيران بأوضح صورها، عند ملاحظة أن المرشد الحالي السيد خامنئي يملك المشروعيتين الدينية والسياسية، غير المتوافرتين بالدرجة نفسها في الشخصيات المرشحة لخلافته كافة. وكما كان انتقال السلطة صعباً للغاية إلى السيد خامنئي عند وفاة المرشد المؤسس آية الله الخميني، تبدو الصعوبة مستمرة وربما أكثر عند الحديث عن بدائل محتملة له في حالة الغياب. لعب رفسنجاني دور المايسترو في عملية انتقال السلطة إلى المرشد خامنئي عند غياب المرشد المؤسس، بمناورة معقدة فصل فيها بين قيادة الجمهورية والمرجعية الدينية الكبرى التي امتلكها المؤسس ولم يمتلكها خامنئي، حتى تليق عباءة الإرشاد على خامنئي. وتطلب ذلك الأمر تعديلاً لاحقاً في الدستور الإيراني يثبت ذلك الفصل بين الإرشاد والمرجعية، لكن بعد تنصيب خامنئي. ولأن رفسنجاني يمتلك هذه البراعات تاريخياً، ومع وجود رئيس جمهورية وبرلمان وجهاز قضائي محسوبين على التيار البراغماتي، وفي حال انتخاب رفسنجاني رئيساً لمجلس الخبراء، فقد بدت حظوظ رفسنجاني والبراغماتيين عالية للغاية في تسمية المرشد الجديد. ومع تراجع نفوذ المؤسسة الدينية في إيران بشكل عام في السنوات الأخيرة، يبقى نفوذ مؤسسة «الحرس الثوري» متجذراً في اقتصاد إيران ونفوذها الإقليمي. وبرغم عدم امتلاك «الحرس الثوري» لصفة المؤسسة الدستورية في إيران، سيكون للحرس الثوري ثقل في عملية تسمية المرشد الجديد. وبالتالي فإن مصالح الحرس التقت مع المؤسسة الدينية في منع وصول رفسنجاني إلى رئاسة مجلس الخبراء حتى لمدة سنة واحدة، لأن غياب المرشد في هذه السنة كان سيرجح كثيراً من كفة رفسنجاني والبراغماتيين في اختيار المرشد الجديد.

الخلاصة

يقوم «مجلس الخبراء» ـ وفقاً للدستور الإيراني ـ في حال غياب المرشد بتسمية آخر جديد بأسرع ما يمكن، وحتى تسمية مرشد جديد يقوم مجلس انتقالي مكون من: رئيس الجمهورية (حسن روحاني حالياً) ورئيس السلطة القضائية (محمد صادق لاريجاني حالياً) وفقيه من مجلس «صيانة الدستور» يختاره مجلس تشخيص مصلحة النظام (رئيسه هاشمي رفسنجاني حالياً)، بالقيام مجتمعين بمهام المرشد حسب الدستور أيضاً. ويلاحظ أن تشكيلة المجلس الانتقالي المفترضة قريبة بالكامل من التيار البراغماتي؛ وبالتالي كان من شأن فوز رفسنجاني برئاسة مجلس الخبراء أن يتحكم في وتيرة تسمية المرشد الجديد بالإسراع أو الإبطاء في انعقاد مجلس الخبراء بالضد حتى من أغلبية الأعضاء، وفي النهاية حسم الأمور لمصلحة البراغماتيين. انتزع فوز مصباح يزدي برئاسة مجلس الخبراء هذه الورقة تحديداً من يد رفسنجاني والبراغماتيين، وأدخل مسألة خلافة المرشد في دائرة جديدة من الغموض. ستندلع معركة سياسية كبرى حول تسمية المرشد الجديد بين الفريقين المتنافسين: «الحرس الثوري» والمؤسسة الدينية من ناحية ورفسنجاني والبراغماتيين من ناحية أخرى، في حال غياب المرشد الحالي قبل حلول انتخابات مجلس الخبراء في العام 2016. كلاهما يملك أوراقاً: غالبية الأعضاء ورئاسة مجلس الخبراء للفريق الأول، وتشكيلة المجلس الانتقالي الذي يسيّر أمور البلاد حتى انتخاب مرشد جديد للفريق الثاني. في حال بقاء المرشد الحالي حتى العام المقبل، سيؤجل الحسم حتى انتخابات عضوية مجلس الخبراء. وبرغم فوز مصباح يزدي برئاسة مجلس الخبراء الأسبوع الماضي، يظل امتلاك المحافظين لأغلبية الأعضاء في مجلس الخبراء أمراً زمنياً وغير مؤكد، ويعود السبب في ذلك إلى تجاوز كثير من أعضاء مجلس الخبراء المتشددين عتبة الثمانين عاماً، وربما لن يكونوا جميعاً حاضرين حتى الانتخابات المقبلة لتعيين المرشد الجديد!.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى