تركيا… العسكر والإسلام السياسي (طارق عبد الجليل)

 


طارق عبد الجليل*

 

أسفر أول انقلاب عسكري أقامته النخبة العسكرية العام 1909، عن خلع السلطان عبدالحميد الثاني بدعوى دعمه للجناح التقليدي الرجعي داخل الجيش، ووقوفه خلف عدد من الاغتيالات والعمليات التخريبية في الدولة. وبهذه الكيفية استولى "الضابط السياسي" على سلطة الدولة العثمانية، حتى زج بها لضعف خبراته السياسية في أتون حرب عالمية لا ناقة لها فيها ولا جمل. مع إعلان هدنة موندروس 1918، تم تسريح الجيش العثماني، وهرب قادته الذين زجوا بالدولة في الحرب.
بعدها قاد أتاتورك وعدد من قيادات الجيش العثماني، وكلهم ضباط مشهود لهم بالكفاءة العسكرية، "حركة المقاومة الوطنية" (1920 – 1922) ضد جيوش الاحتلال التي تُوِّجَت بتحرير الأناضول وإسطنبول من أيدي المحتلين.
وقد أحدثت "حركة المقاومة الوطنية" بدورها مزجًا قويًا بين الدورين السياسي والعسكري في مفهوم الوظيفة العسكرية. ووُفّق أتاتورك ومجموعته في استخدام هذه الشخصية ذات الوجهين السياسي والعسكري في تولي إدارة البلاد، ومن ثم لم يقتصر دور الجيش آنذاك على نقل الكماليين إلى سدة الحكم، بل تحول الجيش ذاته إلى عضو فاعل في بناء الجمهورية التركية.
فبمجرد أن تحقق النصر في حرب الاستقلال، ووسط أجواء الفرح بنشوة النصر، كان في تصريح أتاتورك: "الآن تبدأ الحرب الحقيقية" إشارة واضحة على أن ثمة خططاً تعتمل في ذهنه نحو القيام بثورة سياسية داخل البلاد، يعتمد فيها على الجيش دعامة أساسية له في تحقيق هذه الثورة وتأمين مخاطرها ثم حمايتها.
إن دور الجيش في العملية السياسية خلال عهد أتاتورك (1923 – 1938) قد اضطلع بمهمة القوة الداعمة للثورة الكمالية بعد أن تمكن أتاتورك من إقصاء المناوئين له من القادة العسكريين، فقام وبقوة الجيش بإلغاء الخلافة العثمانية وتشكيل محاكم الاستقلال لمعاقبة المعارضين له، وسن تشريعات لتغيير هوية الدولة والمجتمع التركي من شرقيته وإسلاميته إلى مسار لا ديني/ علماني/ غربي. وبعد أن استقرت له الأوضاع قام أتاتورك بإعادة تنظيم الداخل العسكري، وترسيخ وضعيته القانونية، ونصب الجيش حارسًا للنظام الكمالي من خلال قانون المهمات الداخلية للجيش الذي صدر عام 1935.
فقد نصت المادة الرابعة والثلاثون منه على أن الجيش التركي باتمسؤولاً مسؤولية قانونية عن حماية الوطن التركي عسكريًّا، ومخولاً بحق التدخل في العملية السياسية حال استشعاره أخطارًا وتهديدات تحيق بالنظام الجمهوري أو العلماني أو مبادئ الدولة الستة بشكل عام.
كان "الحزب الواحد" هو النهج السياسي العام للجمهورية التركية منذ تأسسها عام 1923 حتى عام 1945. فقد كان حزب الشعب الجمهوري هو الحزب الذي تتوأمت مبادؤه مع مبادئ الدولة المنصوص عليها في الدستور فأصبح حزب الدولة. ولم يُسمح بتأسيس أحزاب معارضة إلا بعد ضغوط المجتمع الغربي على تركيا بضرورة انتهاج سياسة "التعددية الحزبية" عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى. ومع الانتقال إلى التعدّديّة الحزبيّة تَشكّل أربعة وعشرون حزبًا سياسيًّا جديدًا لمنافسة حزب الشعب الجمهوري على السلطة.
حتى ذلك الوقت لم تتمكن القوى الإسلامية من تشكيل حزب سياسي وصوغ برنامج قادر على التعبير عن رؤيتها وهويتها، فاتفقت ضمنًا على دعم أقوى الأحزاب المعارضة لحزب الدولة، وكان ذلك الحزب هو "الحزب الديمقراطي" بزعامة "عدنان مندريس" المنشق عن حزب الدولة.
استثمر الحزب الديمقراطي تأييد التيار الإسلامي له بإعطاء المزيد من الحريات في ممارسة الشعائر الإسلامية، وضمن بذلك استمرار دعم القطاعات الإسلامية له منذ وصوله إلى السلطة عام 1950 حتى إطاحة العسكريين بحزبه عام 1960 على مدار ثلاثة انتخابات برلمانية متتالية.
ومنذ انتهاج تركيا سياسة التعددية الحزبية عام 1946 شرعت النخب الإسلامية تُراجع خطابها السياسي وتناقش مفهوم "الديمقراطية"، ومدى اتساقها مع المفاهيم الإسلامية ومدى شرعية الاحتكام إليها. وكان لفوز الحزب الديمقراطي عام 1950 ثم عام 1954 وأخيرًا عام 1957 تأثيرًا كبيرًا في ترسيخ مفهوم الديمقراطية لدى التيار الإسلامي.
كان التيار الإسلامي في تلك الفترة يتشكل من الطرق الصوفية وعلى رأسها الطريقة النقشبندية، وجماعة الشيخ سليمان حلمي طوناخان ذات المشرب الصوفي، وجماعة الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي المعروفة بحركة رسائل النور، فضلا عن عدد من الرموز المثقفة والأدباء.
ومن ثم يمكن القول: إن التيار الإسلامي لم تكن لديه القدرة على بلورة خطاب سياسي خاص به خلال تلك الفترة الزمنية، وذلك لاعتبارات تتعلق بالوسط الاجتماعي والسياسي الذي يعيش فيه. فقد كان مشغولا بإحياء المشاعر الإسلامية داخل المجتمع بعد حالة من الجفاف الروحي، كما أن نخبته المثقفة لم تكن منشغلة بالشأن السياسي والحزبي.
لكن لانقلاب العسكري عام 1960 ودستور 1961 تأثيره البارز في ظهور الحركة الإسلامية في تركيا إلى الساحة السياسية والثقافية؛ ولكن بخطاب مختلف. فقد شكل انقلاب 1960 صدمة في الأوساط الإسلامية دفعتهم إلى إعادة النقاش حول جدوى الديمقراطية. غير أن ذلك النقاش لم يدم طويلا. فمع عودة الحياة النيابية مرة أخرى عام 1962 شارك التيار الإسلامي مرة أخرى في دعم "حزب العدالة" الذي تأسس ليمثل امتدادًا للحزب الديمقراطي.
وكانت "حركة النور" من ضمن فصائل التيار الإسلامي التي دعمت بقوة "حزب العدالة" وزعيمه "سليمان دميرال" في الانتخابات العامة عام 1965، غير أنها أصيبت بخيبة أمل بعد فوز "دميرال" ورفضه إشراكهم في العملية السياسية، متذرعًا بأنه يمثلهم في الحكومة. وفضلا عن ذلك فقد شعر رجال أعمال وتجار ينتمون إلى التيار الإسلامي بإقصاء يمارس عليهم من التيارات العلمانية الليبرالية المهيمنة على أسواق المال والتجارة، وهو ما يجعلهم بحاجة إلى من يمثلهم في الساحة السياسية ويدافع عن مصالحهم.
هذه الأسباب وغيرها كانت تتجه بالحركة الإسلامية نحو الساحة السياسية مباشرة، لبلورة حزب سياسي يعبر عن واقعها وطموحاتها دون وسطاء. وبالتالي إن النواة الأولى لحركة "الإسلام السياسي" في تركيا قد أخذت تتشكل داخل "الطريقة النقشبندية" على يد "محمد زاهد قوتقو" شيخ جماعة "إسكندر باشا".

*خلاصة بحث طارق عبد الجليل 'أثر الإنقلابات العسكرية على الإسلام السياسي في تركيا' (فبراير 2014) 'تركيا الإخوانية حضار ومستقبل حزب العدادلة' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى