تركيا: انسداد أفق إقليمي وتنفيس متوقّع في الداخل

تملك تركيا فائضاً من القوة المركبة العسكرية والاقتصادية والجيوسياسية مقارنة بجيرانها في كل الجهات الجغرافية، الأمر الذي يجعلها عنصراً مزمناً في تحليل التوازنات الإقليمية، سواء عند الانخراط في أزمات المنطقة أو الانكفاء داخل حدودها. لم تتوافر للجمهورية التركية منذ قيامها العام 1923 الفرصة لتصريف فائض قوتها خارج حدودها، فالحرب الباردة رسمت خطوطاً حمراً أمام خروج أنقره من حدودها الجغرافية. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ونهاية الحرب الباردة، كبحت أوروبا التوجه التركي نحو البلقان، مثلما منعت روسيا الاتحادية أنقرة من أن تيمّم شطر القوقاز وآسيا الوسطى لملء الفراغ هناك. وفي المقابل، فقد هيّأ «الربيع العربي» الفرصة التاريخية أمام تركيا للتمدّد خارج حدودها، بضوء أخضر أميركي وبوصول جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في كل من مصر وليبيا وتونس وبفراغ إقليمي – عربي قلّ نظيره. ومع وصول «الربيع العربي» إلى سوريا، فقد كانت تركيا محطّ الأنظار الدولية والإقليمية للعب دور قيادي في كامل المنطقة؛ إلا أن عوامل متنوعة داخلية وإقليمية ودولية ـ تخرج عن سياق المقالة ـ أضاعت هذه الفرصة أيضاً على تركيا. وتدهور الأمر بمرور الوقت، فتراجع النفوذ التركي في المنطقة من زعامة إقليمية لم تتحقق إلى «شراكة استراتيجية» مع السعودية لم تحرك ساكناً، إلى طرف خاسر إقليمياً بتوافق دولي روسي – أميركي.

انسداد أفق إقليمي

تأرجح الطموح التركي في زعامة دول «الربيع العربي» من القمة عند صعود جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وليبيا وتونس، إلى اليأس بعد فقدان الجماعة للسلطة في الدول الثلاث. وقتها تمحور الطموح التركي حول سوريا المجاورة جغرافياً، وهناك أيضاً تأرجح نفوذها من وضعية قوية في البداية إلى تأرجح عسكري، وانتهاء بتوافق دولي يمنعها من لعب أدوار هناك. وبمرور الوقت، اضطرت تركيا إلى إبرام «تحالف استراتيجي» مع السعودية برغم تباين المنظومة القيمية للبلدين، وتخلي أنقرة عن «نموذجها» المُعدّ للتصدير، مقابل البقاء في الملعب السوري سياسياً وعسكرياً بتغطية سعودية. حصد «التحالف الاستراتيجي» التركي – السعودي وقت إعلانه اهتماماً إعلامياً ضخماً، وغدا مادة للتحليل السياسي لجهة تأثيراته، نظراً إلى انقسام المنطقة بين نفوذين سعودي وإيراني. وغاب عن التحليلات المؤدلجة ـ مع أو ضد ـ أن تركيا تحوّلت بموجب هذا «التحالف الاستراتيجي» من طامح إلى الزعامة الإقليمية إلى مرجّح لأحد التحالفات في مواجهة تحالف آخر. لعب التدخل الروسي في سوريا دوره الكبير في إفشال هذا التحالف ولجم الطموحات التركية، لكنه ليس العامل الوحيد في فشل «التحالف الاستراتيجي»، إذ إن تباين رؤية البلدين للأزمة السورية حتم منطقياً تباعد مصالحهما، برغم أن وجود رأس النظام السوري في السلطة شكّل المادة اللاصقة التي جمعت البلدين مرحلياً. ثم جاءت زيارة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو إلى طهران غريمة الرياض، لتنهي عملياً الرهان السعودي على تركيا كحليف يستطيع تغيير موازين القوى على الأرض في سوريا، ومن ثم في المنطقة لغير مصلحة طهران. هنا ينطبق على تركيا والسعودية المثل الشعبي المصري: «جبتك يا عبد المعين لتعينني.. لقيتك يا عبد المعين تتعان».

ومن ناحية أخرى، تعدّ تركيا أبرز الخاسرين من إطلاق المسار التفاوضي في الأزمة السورية، أي «مسار فيينا»، إذ إن إخفاقها في فرض «منطقة آمنة» جعلها والمعارضة السورية المتحالفة معها في موقع الخاسر مما يجري من ترتيبات لسوريا. لا تبدو الأمور على هذا النحو بالضرورة في ما يخص السعودية، حيث يمكن ملاحظة أن فصائل المعارضة السورية القريبة لتركيا لم تعد بالنفوذ السياسي ذاته الذي تملكه تلك القريبة للسعودية. ولعل قيام «تيار الغد» السوري المعارض قبل أيام قليلة دليل إضافي على تنسيق سعودي – إماراتي يتحالف مع طرف كردي ولا يعول على المعارضة السورية القريبة من تركيا وقطر، دليلاً على بدء السباق السعودي – التركي للاستحواذ على ورقة المعارضة السورية قبل التسويات المرتقبة مع روسيا في ضوء فك الاشتباك الأميركي المعلن مع المنطقة.

وفي حين لا تريد السعودية أكثر من تقليص النفوذ الإيراني في سوريا واستبدال رأس النظام هناك، طمحت تركيا إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. تروم تركيا إبعاد الأكراد عن المفاوضات السياسية (تحقق لها ذلك شكلياً حتى الآن)، ولكنه أمر لا يغيّر في موازين القوى على الأرض بأي حال. وتركيا أرادت هيمنة اقتصادية على حلب وشمال سوريا، وقبل ذلك تثبيت نظام موالٍ لها في دمشق، بحيث يجعل من سوريا قاعدة خلفية لتركيا، وكل هذه الأهداف تبدو الآن أبعد من أي وقت مضى. يقودنا ذلك التحليل إلى نتيجة مهمة مفادها أن فرص التفاهم الروسي – السعودي حول سوريا ليست مستحيلة، في حين يبدو الأمر كذلك بالنسبة لأنقرة. في حال تحقق ذلك التفاهم، سيستمرّ البلدان (تركيا والسعودية) في الحفاظ على علاقات جيدة، لكن عباءة «التحالف الاستراتيجي» ستفيض كثيراً على العلاقات بينهما ويصبح الوصف غير مناسب لهذه العلاقة نظرياً وعملياً. ومع حاجة تركيا إلى الإيداعات السعودية قصيرة الأجل في مصارفها، والتي كبحت سقوط الليرة التركية خلال السنوات الماضية، وإلى الاستثمار الخليجي في «الفقاعة العقارية» التركية، وحاجتها في الوقت نفسه إلى المبادلات التجارية المجزية مع إيران، ستتحوّل تركيا إلى الموازنة بين السعودية وإيران، الأمر الذي سيمنعها موضوعياً من الاصطفاف مع أحد الطرفين في مواجهة الآخر، ويؤبّد بالتالي خروجها من معادلات النفوذ في المنطقة.

تنفيس متوقع في الداخل

مع انسداد الأفق الإقليمي أمام تركيا من جراء تغيير الوضع على الأرض في سوريا، يتوقع أن يتوجه أردوغان إلى الداخل للتعويض وتحقيق حلمه بتحويل النظام السياسي التركي من جمهورية برلمانية إلى جمهورية رئاسية، يكون أردوغان ذاته على رأسها. يملك حزب العدالة والتنمية 317 مقعداً من أصل 550 مقعداً في البرلمان التركي. وينص الدستور على إمكانية تغيير مواده في البرلمان ومن دون العودة إلى الاقتراع الشعبي عند امتلاك ثلثي الأصوات، أي 367 صوتاً من أصل 550 صوتاً، وهو أمر يبدو غير متوافر حالياً.

في المقابل، إذا توافرت نسبة 60 في المئة من المقاعد (330 مقعداً) يمكن تمرير مشروع قانون لتغيير الدستور في البرلمان، ومن ثم تحويله إلى استفتاء شعبي للبتّ فيه. على ذلك يتطلب هذا السيناريو تأمين ثلاثة عشر نائباً إضافيين لأردوغان و «حزب العدالة والتنمية»، وهو أمر يبدو متاحاً وممكناً، خصوصاً من «حزب الحركة القومية» اليميني المتطرّف. وهناك احتمالية أن يلجأ أردوغان العنيد إلى انتخابات مبكرة جديدة بغرض الحصول على 330 مقعداً في البرلمان في حال أخفق في تأمين الثلاثة عشر صوتاً في البرلمان، وهو احتمال غير مرجّح لكنه لا يبدو مستبعداً كلياً في ضوء طموحات أردوغان العارمة.

أظهر أردوغان خلال السنوات الماضية، عبر محطات تستعصي على الحصر، أنه لا يأبه كثيراً للتوازنات الداخلية التركية وحساسيتها، لذلك تدور في حساباته أساساً ردات الفعل الغربية المتوقعة على خطوة كبيرة مثل تغيير النظام السياسي التركي واتجاه أنقرة المتزايد نحو الحكم الشمولي. وأوباما، الذي «باع» أردوغان في سوريا وخذله في مواجهة روسيا، ربما يقدّم هذه الترضية نهاية الشهر الحالي عندما يزوره أردوغان في واشنطن.

وبالتوازي مع ذلك، يأتي التقارب التركي ـ الأوروبي في موضوع اللاجئين دافعاً لأردوغان في المضي قدماً بخطته، على خلفية غضّ الطرف الأوروبي المتوقع عن تغيير التوازنات الداخلية في تركيا؛ مقابل انخراط أنقره في التخفيف من أزمة اللاجئين التي ضربت أوروبا، وهدّدت تحالفات حاكمة هناك، خصوصاً في ألمانيا.

الخلاصة

انتهى زمن «التحالف الاستراتيجي» بين السعودية وتركيا، لأسباب متنوعة يتقدمها التدخل الروسي في سوريا وتباين رؤية البلدين وأهدافهما في سوريا والمنطقة. وللمفارقة، تبدو حظوظ تسوية روسية ـ سعودية في سوريا أكبر بكثير من استمرار «تحالف استراتيجي» بين أنقرة والرياض لا يحرك ساكناً على الأرض. ومع انسداد الأفق الإقليمي أمام تركيا، من المتوقع أن يعمد أردوغان خلال الفترة القصيرة المقبلة إلى التوجّه نحو الداخل التركي للتعويض وتحقيق حلمه في جمهورية رئاسية تحت قيادته. في هذا السياق، تبدو زيارة أردوغان إلى واشنطن نهاية الشهر الحالي حاسمة لتقرير مصير هذا التوجه. على ذلك سيتوجه فائض القوة التركي نحو الداخل مجدداً كما حصل خلال معظم فترات القرن الماضي، فتنشغل تركيا حينها ولشهور مقبلة في معركتها الداخلية المرتقبة: في البرلمان أولاً لتمرير مشروع الدستور الجديد، وفي مسار الاستفتاء الشعبي عليه ثانياً، وتبعات الاســــتفتاء على تركيا وتوازناتها الداخلية ثالثاً. وفي النهاية سيتوجب على تركـــيا ربما أن تخلي الطريق أمام تسويات من نوع جـــديد في سوريا!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى