تركيا بعد سقوط «الإخوان المسلمين» في مصر (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

فقدت تركيا حليفها الاستراتيجي الأهم في العالم العربي بعد سقوط حكم جماعة «الإخوان المسلمين»، ما يجعلها في مقدم الخاسرين من الموجة الثورية الثانية في مصر. ولا تقتصر الخسارة التركية على مجرد سقوط شريك سياسي أو أيديولوجي فحسب، وإنما تمتد لتطال جوانب متعددة في استراتيجية تركيا الشرق أوسطية. ستستمر تداعيات الخسارة التركية في مصر في التأثير سلباً على صورة تركيا وحضورها الإقليمي لفترة مقبلة، خصوصاً أن مكونات التركيبة السياسية الجديدة في القاهرة تنظر إلى تركيا باعتبارها منافساً إقليمياً، لا شريكاً استراتيجياً على أية حال. ويعني ذلك كله أن تركيا التي كانت في مقدم الرابحين من «الربيع العربي»، الذي أوصل في مرحلته الأولى جماعة «الإخوان المسلمين» إلى مقاعد السلطة في مصر وتونس، قد أصبحت الآن في مقدم الخاسرين بعد سقوط الدكتور محمد مرسي في مصر.

التركيبة المصرية الجديدة وتركيا

تتحرك أربعة فواعل رئيسية على الأرض المصرية الآن بعد سقوط مرسي وهي على الترتيب: المؤسسة العسكرية، جهاز الدولة، مؤيدو النظام السابق، السلفيون والقوى الثورية والديموقراطية. يقود تقليب النظر في مواقف الفاعلين الأربعة إلى نتيجة مفادها أن أيا منهم لا يرغب ولا يستطيع، كل فاعل منهم لأسبابه الخاصة، لعب دور الشريك الاستراتيجي لتركيا، مثلما كانت جماعة «الإخوان المسلمين». لا تتأسس العقيدة العسكرية المصرية على اعتبارات دينية، بالرغم من أهمية الأخيرة ودورها في بناء الفرد المقاتل، وإنما على اعتبارات وطنية مصرية أولاً وقومية عربية ثانياً. والدليل الواضح على ذلك مجال تحرك القوات المسلحة المصرية خارج حدودها في سياقاته السياسية المختلفة في القرن الأخير، والذي كان عربياً صرفاً. هنا تتعامل المؤسسة العسكرية المصرية مع تركيا باعتبارها جاراً بحرياً وشريكاً في تحالف دولي واسع، ولكن من دون وجود «هوية مشتركة» معها مثلما كانت جماعة «الإخوان المسلمين» تعتقد. وتزداد الرؤية حدة مع تقدير المؤسسة العسكرية المصرية لحزب «العدالة والتنمية» باعتباره خصماً سياسياً وشريكاً للجماعة، فضلاً عن أن المثال التركي في تحجيم المؤسسة العسكرية هناك عبر التحالف مع واشنطن، يعد في نظر المؤسسة العسكرية المصرية نموذجاً خطراً على حضورها ومصالحها.
وبدوره ينظر الفاعل الثاني، أي جهاز الدولة المصرية ومؤيدو النظام السابق، تاريخياً إلى تركيا، باعتبارها منافساً إقليمياً، ويتذكر تجارب مصر التاريخية في مواجهة تركيا. وحتى نظام حسني مبارك المنضوي بإخلاص في التحالف الغربي، مثله مثل تركيا، لم يندفع في العلاقات مع أنقره بأي شكل على خلفية التنافس الإقليمي التاريخي بين البلدين. ولا ننسى هنا أن نظام مبارك أحبط مشروع «الجوار العربي» قبل سقوطه بسنة، الذي أطلقه الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى، والذي ارتأى الانفتاح على كل من تركيا وإيران.
لا يرى الفاعل الثالث في التركيبة المصرية الجديدة، أي السلفيون، في تركيا «هوية إسلامية» بما يكفي، ويعتبرون نموذجها، المهادن مع العلمانية بأكثر مما ينبغي، غير صالح أصلاً للاحتذاء. باختصار، لا تتقاطع نظرة السلفيين إلى المنطقة والعالم بأي شكل، مع رؤية «حزب العدالة والتنمية» التركي.
أما الفاعل الرابع في التركيبة المصرية الجديدة، أي القوى الثورية والديموقراطية، فلم يخف تعاطفه الواضح مع «انتفاضة تقسيم» في مواجهة تعنت أردوغان وحزبه، حتى قبل سقوط مرسي. يرى الفاعل الرابع في تركيا تجربة اقتصادية ناجحة، لكنها تعاني من «صندوقراطية» صارخة، تصادر الآخر وحرياته تحت شعار «إرادة الصندوق»، وهو ما كانت تجربة مرسي في مصر تمثل صداه الأكثر بدائية. بمعنى أن الحشد التصويتي في الانتخابات على خلفية صراع هويات، يفلح ربما في اقتناص غالبيات عددية ضئيلة، لكنها لا تخول حائزها إلغاء الآخر واحتكار السلطة وتعديل النظام السياسي من طرف واحد، حتى ولو امتلك نصف الأصوات. مارس مرسي ذلك بطريقة فجة في مصر، مقابل طريقة مماثلة ولكن أقل فجاجة في تركيا. ويزيد من الصورة التركية قتامة في عيون القوى الثورية والديموقراطية، تحالف أنقرة الواضح مع «الإخوان المسلمين» وتنديد أنقرة بالموجة الثانية من الثورة واعتبارها «انقلاباً عسكرياً»، بالرغم من الإرادة الشعبية المصرية الواضحة في خلع مرسي من الرئاسة. باختصار، لا يرغب أي من الفواعل المصرية الأربعة في التركيبة السياسية الجديدة، كل لأسبابه، في «شراكة استراتيجية» أو حتى علاقات متميزة مع أنقرة، وهو ما سيدفع بالعلاقات المصرية – التركية إلى درجة عالية نسبياً من البرودة ستستمر حتى إشعار آخر.

خسائر تركيا التكتيكية والاستراتيجية

تبدو خسائر تركيا من سقوط جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر متعددة الجوانب، وليست آنية أو أيديولوجية فحسب. وتتضافر الخسائر التكتيكية مع مثيلاتها الاستراتيجية بشكل مركب، بحيث تشكل تحدياً كبيراً لصانع القرار التركي. دشن سقوط مرسي في مصر نهاية لما يسمى «النموذج التركي» في المنطقة، ذلك القائم على استلهام النخب السياسية الحاكمة في دول «الربيع العربي» لتجربة حزب «العدالة والتنمية» التركي في الحكم. فالنموذج يحتاج إلى من يتبناه حتى يصير نموذجاً، وما تمر به مصر راهناً يشبه في الواقع تركيا في العام 1997 وليس في العام 2003، وخروج مصر من حالة اقتباس النموذج يجعل الأخير مجرد فكرة نظرية غير متحققة. استفادت أنقرة من فكرة «النموذج التركي» لترتقي في عيون الغرب، باعتبارها الأقدر على ترويض «الإخوان المسلمين» من خلاله، وبالمقابل استخدمت الجماعة «النموذج التركي» لتبني جسوراً مع الغرب وكوسيلة للمقارعة مع معارضيها في مصر. باختصار، انتقل «النموذج التركي» خلال حكم «الإخوان المسلمين» من فكرة ملهمة إلى حالة واضحة من التكاذب السياسي يستخدمها الطرفان تركيا والإخوان، كل لأغراضه الخاصة.
وعلاوة على ذلك، فمن البديهي أن محاولات تركيا لتوجيه سياستها الإقليمية في اتجاه إسناد الجماعة ودعم طموحاتها في الوصول إلى مقاعد السلطة في كل من ليبيا وسوريا، قد تعرضت إلى ضربة موجعة جراء سقوط مرسي. وفوق كل ذلك فقد فقدت تركيا بسقوط «الإخوان المسلمين» في مصر أكبر حليف عربي في المنطقة، ولا يبدو في الآفق إمكانية لتعويضه بشريك آخر. ولما كان حصار غزة، الوسيلة الممتازة لعودة تركيا إلى توازنات المنطقة منذ «أسطول الحرية» العام 2010، عبر اشتباكها اللغوي والرمزي مع إسرائيل، يمثل فقدان الشريك المصري غياباً لمدخل تركيا الوحيد إلى غزة. ويمكن القول من الآن إن حلم أردوغان بزيارة غزة قد انتهى هو الآخر، لأن التركيبة السياسية الجديدة في مصر لن تسمح له بزيارة القطاع في أي وقت مقبل. وتزداد الخسائر الجيو-سياسية لتركيا عند النظر إلى علاقاتها المتردية مع حكومة بغداد وعداوتها للنظام السوري، بحيث يعد فقدان الشريك المصري نهاية فعلية لسياسة «صفر مشاكل»؛ التي صكها وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو. باختصار، يبقى لتركيا على طول حدودها الجنوبية علاقتان جديتان فقط، واحدة جيدة مع حركة «حماس» في غزة وأخرى مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهي نهاية مفجعة لأحلام تركية عراض في القيادة الإقليمية.

تركيا تخسر وترضخ

يقول التقدير الواقعي لإمكانات تركيا وقدراتها في التأثير على الأحداث في مصر إنها متدنية جداً، إذ لا تملك أنقرة أي علاقة سياسية متميزة مع أطراف التركيبة الجديدة. وعلى الجانب الاقتصادي، يبدو الأمر أكثر فداحة لتركيا بحيث تملك مصر أوراق ضغط على تركيا لا العكس، وذلك على خلفية ثلاثة أسباب. يتلخص الأول في طبيعة الميزان التجاري بين البلدين البالغ حجمه 4,2 مليارات دولار، بمعنى أن تركيا تصدر إلى مصر بما قيمته 3,9 مليارات دولار أكثر مما تستورد منها بكثير، أي ما يناهز 0,3 مليار دولار، وبالتالي يهدد تردي العلاقات بين البلدين الشركات التركية أكثر من مثيلاتها المصرية. يتمثل السبب الثاني في القدرات التنافسية المتدنية نسبياً للسلع التركية عموماً، فلا هي الأجود مقارنة بمثيلاتها الغربية، ولا هي الأرخص مقايسة بمثيلاتها الصينية والآسيوية، وبالتالي يمكن للمستورد المصري الاستعاضة عنها بسلع بديلة في وقت قياسي. ثالثاً تعتمد تركيا على الموانئ المصرية حصرياً في تصدير سلعها بحراً إلى دول الخليج وأفريقيا، خصوصاً بعد إغلاق الأراضي السورية أمام شاحنات التصدير التركية براً إلى دول الخليج.
ستستمر تركيا لفترة مقبلة في التنديد بـ«الانقلاب العسكري» في مصر، لأغراض محلية تركية في مواجهة جيشها وقياداته، مثلما ستواصل مساعيها من وراء الستار لتأليب الأطراف الغربية والعربية المتحالفة معها على الأوضاع الجديدة في مصر. ومع ذلك ستضطر تركيا في النهاية إلى الرضوخ للأمر الواقع كي تقلل حجم خسائرها في مصر، خصوصاً أنها لا تملك نظرياً وفعلياً القدرة على تغيير التوازنات الجديدة في القاهرة.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى