تركيا و«عزلتها الثمينة»

مع حملات الإدانة الواسعة التي شهدتها العواصم الغربية في الذكرى المئوية للمذابح ضد الأرمن العام 1915، بدت تركيا ـ الوريث القانوني للدولة العثمانية ـ معزولة إلى حد كبير في المناقشات التاريخية والقانونية والسياسية المحيطة بالمذبحة وفي موقفها المنكر لحدوثها. وبالتوازي مع «عزلتها الأرمنية» المزمنة تاريخياً، تعاني أنقره من عزلة إقليمية غير مسبوقة، بحيث يقل تأثير تركيا السياسي وتنحدر صورتها في الإقليم جراء سياسات حزب «العدالة والتنمية» الحاكم وزعيمه رجب طيب أردوغان. ولعل إطلاق إبراهيم كالين، مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للشؤون الخارجية، وصف «العزلة الثمينة» على المرحلة الجديدة التي تعيشها تركيا بغرض امتداحها، أبلغ تعبير واقعي عن نتيجة السياسات التركية خلال المرحلة الأولى من «الربيع العربي». فبعد خروج جماعة «الإخوان المسلمين» من السلطة في مصر وليبيا وتونس، وبعد تردّي علاقات تركيا مع دول جوارها الجغرافي المباشر في سوريا والعراق وإيران، لم يعد لتركيا أصدقاء كثر في المنطقة فدخلت مكرهة في العزلة، مهما اتفقنا او اختلفنا على وصفها.

تركيا من «صفر مشاكل» إلى «العزلة الثمينة»

ترفع السياسة الخارجية التركية الجديدة شعار «العزلة الثمينة»، للإشارة إلى أن السياسة التركية «تقوم على المبادئ وأنها تفضل العزلة على التخلي عن هذه المبادئ». هكذا انقلب شعار «صفر مشاكل مع الجيران» الذي رفعته تركيا في السابق إلى انخراط تركي كامل في شؤون المنطقة خلال المرحلة الأولى من «الربيع العربي»، إذ تدخلت تركيا في حراكات المنطقة بالانحياز إلى جماعة «الإخوان المسلمين» مراهنة على ظفر الجماعة بالسلطة في بلدان الربيع. ولما فقدت الجماعة تلك السلطة بعد وقت قصير، فقد دخلت تركيا مرحلة من العزلة الإقليمية شبيهة بتلك التي عرفتها خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ما يؤسس لعزلة تتدحرج فيها تركيا منذ حوالي العامين ولا تبدو نهايتها مرتسمة في الأفق.

يستوحي شعار «العزلة الثمينة» شعار سابق استخدم في حقل العلاقات الدولية للإشارة إلى انكلترا في نهاية القرن التاسع عشر، أي «العزلة الرائعة» للإشارة إلى عدم انخراطها في صراعات القارة الأوروبية. ربما تنطبق شعارات الرائع والثمين على القوى العظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية في المرحلة الأولى من الحرب العالمية الأولى، أو انكلترا في نهايات القرن التاسع عشر، ولكنه صعب الانطباق على دول مثل تركيا الحالية. في الحالة الأخيرة ربما يكون شعار «العزلة الفاشلة» أدق وأكثر قدرة على توصيف تدني تأثيرها في حراكات دول جوارها الجغرافي. وفي حين أطلق داود أوغلو شعار «صفر مشاكل مع الجيران» قبل أكثر من عشر سنوات إبان توليه موقع مستشار أردوغان للشؤون الخارجية لتوصيف سياسات بلاده حيال جيرانها كعملية ممتدة للعودة إلى توازنات المنطقة، وهو ما نجحت فيه تركيا إلى حد كبير خلال الفترة من 2002 وحتى 2012، إلا أن شعار «العزلة الثمينة» التي دخلتها تركيا منذ العام 2013 هو تحصيل حاصل وليس توصيفاً لمجموعة سياسات إقليمية لتركيا في السنوات التالية، بمعنى أن الشعار القديم أطلق توصيفاً لسياسات تركية مستقبلية، في حين أن الشعار الجديد يقرر أمراً واقعاً وهو عزلة تركيا، ولا يتناول سياسات مستقبلية بأي حال.

تركيا وأزمات المنطقة

مع خسارة تركيا لنفوذها في مصر وتونس وليبيا وسوريا والعراق، لا يتبقى لها كأصدقاء ذوي نفوذ في المنطقة سوى قطر و «حماس» وأكراد العراق. نجحت تركيا بالعقد السابق في توثيق علاقاتها الاقتصادية والأمنية والسياسية مع حكومة كردستان العراق، لكن ظهور «داعش» والسلوك التركي المتأرجح حيالها، أوشك أن يهدد العلاقات بين أنقره وأربيل. ثم تأزمت علاقات أردوغان مع الزعيم الكردي مسعود بارزاني عندما تلكأ أردوغان في مد يد العون إلى الأكراد في عين العرب / كوباني في مواجهة التنظيم الإرهابي، خوفاً من وقوع المدينة في يد تنظيم كردي سوري موال لـ «حزب العمال الكردستاني» في تركيا. وفي النهاية وبضغط أميركي، سمحت أنقره لمقاتلين أكراد عراقيين بمساعدة عين العرب / كوباني عبر المرور من الأراضي التركية. ثم تكرر التلكؤ التركي مع استيلاء «داعش» على الموصل، فاستغلت طهران الفرصة لتعزيز نفوذها التاريخي بين أكراد العراق على حساب النفوذ التركي المتراجع بينهم. ولم تتسبب سياسات أنقره حيال «داعش» في تداعيات على علاقتها مع أكراد العراق فحسب، وإنما امتدت إلى تظاهرات كردية عارمة في المدن والبلدات التركية المختلفة. ومع فشل تركيا في تغيير المعادلات السياسية في مصر وليبيا، فقد انتهز أردوغان فرصة وفاة العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، ليقترب من خليفته سلمان محاولاً ترميم الصدع في العلاقات التركية ـ السعودية. ولكن أزمة اليمن أظهرت تأرجح المواقف التركية في أوضح صورها وسقف الآمال التركية في آنٍ معاً، حيث ابتدأ أردوغان مندداً بإيران وسياساتها الإقليمية مع تأييد حرب السعودية على الحوثيين، إلا أنه سرعان ما تحول إلى أدوار الوســاطة بين إيران والسعودية لحل أزمة اليمن، حرصاً على مصالح تركيا الاقتصادية المتنامية مع إيران وتجنباً لمشاركة فعلية لتركيا في الحرب على الحوثيين. ويبدو منــــتهى أمل أردوغان أن يصار إلى حكومة وحدة وطنية يمنية تتمثل فيـــها الأطياف المختلفة بعد انتهاء العمليات العســــكرية، بما فيها «جبهة الإصلاح» اليمنية ـ الواجهة الســــياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» ـ وبالتالي الحصــول على مكسب سياسي ضئيل من الأزمة اليمنية المشتعلة، ما يكشف بوضوح سقف التوقعات التركية الحالية.

أردوغان عبئاً على أدوار تركيا الإقليمية

يصعب وصف الحالة التركية الراهنة بـ «العزلة الثمينة»، فالعزلة التركية الحالية ليست ناتجة عن اتباع سياسات مدفوعة باعتبارات قيم عليا. كما أن مصطلح «العزلة الثمينة» يضمر معنى الاختيار والنأي بالنفس على خلفية تفوق أخلاقي ما، إلا أن عزلة تركيا الراهنة ليست عزلة مختارة من قبل أردوغان، وإنما عزلة فرضتها عليه سياساته الإقليمية السادرة في الطموح والمفارقة لواقع المنطقة وقدرات تركيا الفعلية. انتهـج أردوغان سياســات هيمنة وسيــطرة إقليمية متسترة بغطاء دعم ثورات «الربيع العربي»، مثلـــما فعلت دول إمبريالية أخرى في السابق، مع الــفارق بأن سياسات أردوغان افتقرت إلى القوة التي تمتــعت بها القوى الإمبريالية، وليس أكثر من ذلك. ومع التسليم بتطور تركيا الديموقراطي مقارنة بدول جوارها الجغرافي في المنطـــقة، فإن النزعات الشمولية لأردوغان والظاهرة بوضوح خــــلال السنوات الخمس الماضية ومحاولاته المستمرة لتحييد المـــعارضة والسيطرة على المجــــال العام، قد أظهرت ثقوباً لا يمكن تجاهلها في ثوب تركيا الديموقراطي.

وتزداد النتيجة فداحة بملاحظة أن تركيا تتقدم اقتصادياً وديموقراطياً على دول جوارها الجغرافي العربية، في الوقت الذي يتراجع فيه نفوذها الإقليمي باضطراد، ما يعني أن فشل أردوغان وسياساته الإقليمية ليس محكوماً بظروف البيئة الإقليمية وتوازناتها، وإنما بمغالاة أردوغان في تقدير قوة تركيا الفعلية وحدودها، مع الاستهانة بتعقيدات المنطقة وقدرات لاعبيها.

تمثلت أبرز نجاحات أردوغان وحزبه على الصعيد الخارجي في تحسين صورة تركيا في المنطقة والعالم منذ استلامه السلطة العام 2002، بكلفة سياسية قل نظيرها. ولكن «العزلة» التي تعانيها تركيا راهناً تحت رئاسة أردوغان وحكم حزبه تودي بالنجاحات السابقة، وتثبت تركيا في صورة نمطية جديدة لا تشبه أبداً صورتها المشرقة عند اندلاع ثورات «الربيع العربي». كان إرث العلمانية التركية المغرق في ابتعاده عن شؤون المنطقة عبئاً تاريخياً على أردوغان في محاولته للعودة إلى المنطقة خلال السنوات العشر الماضية على جناح «الإسلام المعتدل»، والآن يتحول الأمر ليصبح أردوغان بتدخلاته المفرطة والفجة في شؤون المنطقة عبئاً أيديولوجياً وقيداً ثقيلاً على تركيا وأدوارها الإقليمية!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى